لأن شر البلية ما يضحك، فإن الشئ الإيجابي الوحيد، الذي خلفته سرقة لوحة "زهرة الخشخاش" للفنان العالمي فان جوخ، من متحف محمود خليل، أنها أكدت أن النسخة الموجودة – أو التي كانت موجودة- في المتحف، هي النسخة الأصلية، لتحسم السرقة بذلك الجدل المتواصل منذ سنوات حول اللوحة، وهو الجدل الذي فجره الدكتور يوسف إدريس في مقال شهير له بالأهرام بداية الثمانينيات، بعد سرقة اللوحة للمرة الأولي، وعودتها أكد فيه أن النسخة التي أعيدت ليست أصلية، وأن النسخة الأصلية بيعت في مزاد بباريس، لكن لو كانت "زهرة الخشخاش" مزيفة، ما كانت لتسرق بهذا الطريقة، التي تؤكد أن من يقف وراء الجريمة محترفون يعرفون تماما قيمة العمل.
القضية برمتها عبثية، ومثيرة للسخرية.. بداية من الطريقة التي سرقت بها اللوحة، في عز الضهر، مرورا بما كشف عنه الحادث من إهمال جسيم في المتاحف المصرية، وصولا إلي الاتهامات المتبادلة بين وزير الثقافة فاروق حسني ورئيس قطاع الفنون التشكيلية محسن شعلان المحبوس حاليا علي ذمة القضية.
والمدهش أن الجدل القائم حاليا، حول الإهمال في تأمين المتاحف، والقرارات الوزارية من فاروق حسني، بإغلاق عدد منها علي مستوي الجمهورية، لحين تشديد إجراءات الأمن فيها حتي لا يتكرر ما حدث في متحف محمود خليل، كان قد ثار العام الماضي، حينما سرقت 9 لوحات أثرية، من قصر محمد علي بشبرا الخيمة، كان صندوق التنمية الثقافية، قد أعارها من قطاع المتاحف بالمجلس الأعلي للآثار، لعرضها بالقصر بعد تطويره وإعادة افتتاحه، وثار أيضا في منتصف التسعينيات، عندما تمكن عاطل من الاختباء في المتحف المصري، تحت إحدي طاولات العرض و نجح في سرقة بعض التماثيل الفرعونية التي لا تقدر بثمن، و مرة أخري عام 2004 عندما سرقت أكثر من 35 قطعة أثرية فرعونية، من مجموعة توت عنخ آمون، بالقسم الأول بالمتحف المصري، وهو جدل يثور، بشكل عام عند كل سرقة لمخطوطات أو قطع فنية وأثرية نادرة، ثم لا يحدث شئ، وهكذا حتي تحدث سرقة جديدة!
قضايا عالمية
الفارق الوحيد بين الأفلام السينمائية التي تدور أحداثها، حول سرقة عمل فني من أحد المتاحف العالمية، والسرقة الأخيرة للوحة "زهرة الخشخاش" أن اللصوص في الفيلم يتدربون طويلا علي السرقة، ويجتازون صعابا عديدة للوصول لإهدافهم، يجتازون أسلاكا مكهربة، وبوابات إلكترونية، ويهربون من كلاب حراسة قاتلة، ورجال أمن مدربين، ثم قد لا ينجحون، بينما لم يبذل لص متحف محمود خليل جهدا يذكر للحصول علي اللوحة، فلا أفراد أمن أو كاميرات مراقبة، أو تفتيش ، فقط اكتفي السارق بأخذ اللوحة كمن يلتقط ثمرة جوافه، وخرج من المتحف في وضح النهار.
والمعروف أن هناك عددا من كبار الفنانين العالميين، من بينهم فان جوخ، وبيكاسو، وسيزان، وجوجان، تجتذب أعمالهم لصوص الفن المحترفين، وقد شهدت لوحات هؤلاء الفنانين محاولات عديدة لسرقتها، أغلبها نجح لكن استطاعت الشرطة في النهاية العثور عليها وإعادتها.
لوحة الموناليزا مثلا، تمت سرقتها بطريقة تشبه إلي حد ما الطريقة التي سرقت بها "زهرة الخشخاش" من متحف محمود خليل، ففي عام1911 استطاع شاب فرنسي كان يقوم بترميم إطارات اللوحات الثمينة في متحف اللوفر، سرقة الموناليزا، وأخفاها لمدة عامين، ثم باعها لفنان إيطالي عرف من اللحظة الأولي انها اللوحة الأصلية، فسلمها للسلطات الإيطالية، و تم القبض علي مرمم الإطارات و يدعي بيروجي، الذي اعترف أنه قام بسرقة اللوحة لأنها تشبه حبيبته السابقة، وأعيدت اللوحة وقتها لمتحف اللوفر، بعد ان حظيت محاكمة السارق باهتمام إعلامي و شعبي واسع، و الغريب إنه وبعد مرور نحو مائة عام، من تلك الحادثة و في ظل التطور الهائل الذي شهدته تكنولجيا تأمين المتاحف يأتي أحدهم، ليسرق لوحة "زهرة الخشخاش"، بنفس الطريقة البدائية التي استولي بها بيروجي الفرنسي علي الموناليزا!
سرقات بالقوة
بعض الأعمال الفنية الشهيرة، يتم في كثير من الأحيان سرقتها بالطلب، بمعني أن يكلف أحد هواة اقتناء الأعمال الفنية النادرة مجموعة من اللصوص المحترفين، بسرقة لوحة معينة لأحد كبار الفنانين، مثل تلك القضية الشهيرة التي تناولتها الصحافة العالمية عام 2008 عندما ألقت الشرطة البرازيلية القبض علي شخص بحوزته لوحة لبيكاسو تقدر قيمتها بنحو 50 مليون دولار، اعترف بسرقتها لصالح مليادير خليجي، لم تفصح الشرطة عن هويته، وأكد اللص في التحقيقات أن المليادير اتفق معه عبر وسطاء علي سرقة اللوحة و تسليمها له مقابل 10 ملايين دولار، وهي قضية تشبه قيام مجموعة من اللصوص بمحاولة سرقة إحدي لوحات الفنان الفرنسي بول سيزان من متحف ببريطانيا، لصالح أحد هواة الاقتناء أيضا.
أغلب السرقات التي شهدتها المتاحف في العالم، في السنوات الأخيرة، بعد تشديد إجراءات الأمن كانت سرقات مسلحة أو عمليات سطو، يقوم بها عدد كبير من اللصوص، علي طريقة سرقة البنوك، حيث يقوم باقتحام المتاحف فجأة بقوة السلاح، واتخاذ الرواد كرهائن أثناء الاستيلاء علي اللوحات و لتغطية عملية الهروب مثل السرقة التي شهدها أحد متاحف السويد عام 2000 عندما اقتحم مجموعة من اللصوص المتحف قبيل موعد إغلاقه، مسلحين بالبنادق الأتوماتيكية واستولوا علي عدة لوحات من بينها عمل للفنان الهولندي رمبرانت، واستقلوا زورقا كان ينتظرهم قرب المتحف المطل علي البحر، وهو نفس ما حدث عام 1990 في متحف جاردنر عندما اقتحم مجموعة من المسلحين المتحف، وقيدوا الحراس، وقامو بسرقة نحو 13 لوحة لأشهر الفنانين، تقدر قيمتها تزيد قيمتها علي 500 مليون دولار، و لم يتم القبض علي هؤلاء اللصوص حتي الآن.
دوافع مختلفة
ليس هواة الاقتناء فقط هم من يقفون وراء سرقات اللوحات الشهيرة، فهناك دوافع مختلفة شديدة التعقيد تحرك لصوص الفن، كما يقول الفنان التشكيلي عادل السيوي، مؤكدا أن بعض لصوص اللوحات الشهيرة، من المعتوهين الذين يحاولون إثبات ذاتهم أمام الآخرين، وهناك ايضا الرغبة الكيدية، أو الدوافع التدميرية، مثل شخصية الهاكرز، الذي يقوم باقتحام المواقع الإلكترونية و تدميرها، بدون هدف محدد.
ويشير السيوي إلي ان حتي المقتنين الذين يتفقون مع اللصوص لسرقة لوحات عالمية ليحتفظوا بها، أغلبهم مضطربون نفسيا، ويكتفون بالاحتفاظ بتلك اللوحات في أقبية منازلهم، دون أن يجرأوا علي اطلاع الآخرين عليها، حتي لا يبلغوا عنهم، فهذه اللوحات تكون مسجلة، و تبحث عنها الشرطة العالمية، و ليس بإمكانهم بيعها أو الاستفادة منها بشكل مادي.
ويضيف السيوي إن هناك لصوصا آخرين يسلمون اللوحات لشركات التأمين التي تقوم بالتأمين علي نفس اللوحات المسروقة لصالح كبري المتاحف العالمية، حيث يتوجب علي شركة التأمين دفع قيمة التأمين للمتحف، وعادة ما تكون قيمة التأمين نفس سعر اللوحة، وعندها تضطر شركة التأمين لشراء اللوحة من السارق، ولذلك –يقول السيوي- الجائزة التي خصصها رجل الأعمال نجيب ساويرس لمن يدلي بمعلومات، تفيد في عودة اللوحة، قد تؤدي إلي استعادة اللوحة إذا كانت السرقة تمت بغرض الاستفادة المادية، فيقوم السارق بوضعها في مكان محدد، ويرشد إليه، وهو ما حدث من قبل في بعض حالات سرقة اللوحات العالمية.
بلا قيمة
الفنان محمد عبلة، فجر مفاجأة بقوله ان لوحة "زهرة الخشخاش" المسروقة من متحف محمود خليل بلا قيمة حقيقية، ويستبعد عبلة أن تكون سرقة اللوحة قد تمت لصالح أحد هواة الاقتناء المصريين، فالمهتمون بالأعمال الفنية الشهيرة في مصر، من الأثرياء وكبار رجال الأعمال، معروفون بالاسم، وعددهم محدود جدا، وليس من بينهم من يجرؤ علي الاحتفاظ بعمل مسروق خصوصا بعد الضجة الواسعة التي أثيرت حوله.
ويرجح عبلة، أن تكون السرقة "لعب موظفين" بمعني ان يكون أحد العاملين بالمتحف قام بسرقتها لسبب كيدي، أو لإحراج رؤسائه، أو الإضرار بزميل له.
يقول عبلة: "زهرة الخشخاش" ليس لها قيمة فنية أو حتي قيمة سوقية، ومبلغ الخمسين مليون دولار، هو من تقدير وزارة الثقافة، ويضيف: في الكتاب الخاص بأعمال فان جوخ في هولندا، تحت هذه اللوحة علامة استفهام، ما يعني أنها بلا أي قيمة، علي عكس أعماله الأخري.
ويؤكد عبلة أن الأهم فيما حدث، أنه يكشف حجم الإهمال المستشري في وزارة الثقافة، فهذه ليست المرة الأولي التي تحدث فيها سرقة، ولقطع أثرية و فنية، أعلي قيمة و أكثر أهمية، دون أن يحاسب أحد، ويتساءل عبلة ألم يكن المسئولون في وزارة الثقافة علي علم بأن الكاميرات لا تعمل؟، ولماذا لم يحاسب من اشتروا هذه الكاميرات بالأمر المباشر، خصوصا أنهم معروفون ومازالو موجودين في مناصبهم.
يختلف مع الرأي السابق، د. سيد القماش الناقد التشكيلي و الأستاذ بكلية الفنون الجميلة جامعة المنيا، مؤكدا أن زهرة الخشخاش من أغلي لوحات الفنانين العالميين، مشيرا إلي أن أعمال فان جوخ تقدر بأسعار خرافية، حتي أن هناك لوحتين له في اليابان يحتفظ بهما بنك كبير، تحت إمرة الاقتصاد الياباني إذا ما تعرض لأي أزمات، ويرجع القماش اهتمام اليابانيين بأعمال فان جوخ، إلي محاولاتهم رفع شأن الفن الياباني، حيث إن لوحات جوخ لها سمات خاصة، تعطيها ثقلا تشكيليا ولونيا، لدرجة المتخصصين في الفيزياء اهتموا بدراستها و بحثها، وليس المتخصصين في الفن فقط.
وينتقد القماش الإهمال الشديد الذي أدي إلي سرقة اللوحة، مؤكدا أن حال المتاحف المصرية مزري، ويغري أي لص ولذلك لا استبعد تكرار هذه الجريمة.