تعرضت شهادة المرأة في الإسلام للنقد من الحاقدين أعداء الدين وكتبوا فيه على غير وجه حق زاعمين أن الإسلام قد إنتقص من كرامة المرأة إذ جعل شهادتها نصف شهادة الرجل . ذلك أن الإسلام قد جعل الشهادة التي تثبت الحقوق شهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين وذلك في قوله تعالى :
" ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ، وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، ولايأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ، فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولايبخس منه شيئاً ، فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لايستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ، واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، ولايأب الشهداء إذا مادعوا ، ولاتسئموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ، ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ، إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ، وأشهدوا إذا تبايعتم ، ولا يضار كاتب ولا شهيد ، وإن تفعلوا فإنه فسوقٌ بكم واتقوا الله ويعلمكم الله ، والله بكل شىء عليم "(1) .
والذي يمس موضوعنا في الآية الكريمة قوله تعالى : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ".
ولا نكاد نجد كتاباً لمستشرق من الذين أخذوا على أنفسهم مهاجمة الإسلام يخلو من الطعن في هذا الأمر جاعلاً إياه من المسائل التي يستدل بها على إهانة الإسلام للمراة ، والمهانة لاتصلح زوجة ناجحة في إسرة ناجحة .
والواقع أن التفاوت هنا لاعلاقة له بالإنسانية ولا بالكرامة ولا بالأهلية ؛ فقد رأى كثير من المفسرين (2) ان الشهادة تكون قائمة على رجلين من وجه عام ، فإن لم يتوافررجلان فلا بدمن رجل وامرأتين ، ولا تصلح أربع نسوة بدل من رجلين . ويقول الجمهور أن كلمة الضلال هنا بمعنى النسيان أو في باب قولهم ضل الطريق ، والمعنيان متقاربان .
فما دامت المراة إنسانة كالرجل وكريمة كالرجل ، ذا أهلية كاملة لتحمل الإلتزامات المالية كالرجل ، لم يكن اشتراط اثنتين مع رجل واحد إلا لأمر خارج عن كرامة المرأة واعتبارها واحترامها .
وإذا لاحظنا فإن الإسلام – مع إباحته للمرأة التصرفات المالية – يعتبر رسالتها الإجتماعية هي الإشراف والتفرغ لشؤون الإسرة ، وهذا مايقتضيها لزوم بيتها في أغلب الأوقات . وإن أعمالها المنزلية وتربية أولادها تقدم على أي اعتبار آخر أو اهتمام ويشغل بالها ؛ لذا فإن ماتلقاه أو تشاهده خارج هذا الإطار فإنها قد تمر به عابرة ، خاصة إذا كان من أعمال الرجل أصلاً ؛ فإذا جاءت تشهد به ، كان أمام القاضي إحتمال خطأها بعدم تأكدها أو نسيانها وتوهمها ؛ فإذا شهدت امرأة أخرى بمثل ماتشهد به زال احتمال النسيان والخطأ ، والحقوق لابد من التثبت منها وعلى القاضي أن يبذل غاية جهده لإحقاق الحق وإبطال الباطل .
ولهذا المعنى ذهب كثيرون من الفقهاء إلى أن شهادة النساء لاتقبل في الجنايات ، وليس ذلك إلا لما ذكرناه من أنها غالباً ماتكون قائمة بشؤون بيتها ، ولا يتيسر لها أن تحضر الخصومات التي تنتهي بجرائم القتل وما أشبهها ، وإذا حضرتها قل ّ أن تستطيع البقاء إلى أن تشهد جريمة القتل بعينها وتظل رابطة الجأش ، بل الغالب أنها إذا لم تستطع الفرار تلك الساعة كان لها أن تغمض العينين وتولول وتصرخ مرتعبة بما جبلها الله عليه من من عاطفة جياشة لاتستطيع حبسها وقد يغمى عليها ، فكيف يمكن بعد ذلك أن تتمكن من إداء الشهادة فتصف الجريمة والمجرمين وأداة الجريمة وكيفية وقوعها ؟ ومن المسلم به أن الحدود تدرأ بالشبهات ، وشهادتها في القتل وأشباهه تحيط بها الشبهة ، شبهة عدم إمكان تثبتها من وصف الجريمة لحالتها النفسية عند وقوعها ، بعد إحصاء دقيق في هذا الشأن .
في التداين :
لقد جاء النص القرآني في توثيق الدّين بشهادة رجلين أو لرجل وامرأتين ليطبق هذا النص على التجارة الحاضرة القائمة يومياً ، حفظاً على الحياة الزوجية للمرأة ولرفع المسؤولية عنها لأن الأعمال التجارية من بيع وشراء يتم بعضها بالدًين ، وقد يكون بحضور الزوجة الفعلي ولكن بغيايها ذهنياً ، لأن هذه العمليات من اختصاص الرجل ومسؤولياته ، فأعفاها الله من دعوتها للشهادة التي قد تأتي لغير صالح زوجها ، وفي ذلك تكريماً وصوناً لها برفع الإحراج عنها خاصة إذا كان زوجها سفيهاً ، كما جاء في النص .
وإذا كان الله تعالى قد ألزم شهادة امرأتين في أعمال دين وتجارة تتعلق بالرجل ، فإنه ألزم شهادة أربعة رجال فيما يتعلق بشرف المرأة وكرامتها وعرضها ، بقوله تعالى : " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً ، وأولئك هم الفاسقون " . ( النور : 6 )
فأي تكريم وحفظ وصون للمرأة في الإسلام أعظم من هذا . فكل من يرمي إمرأة شريفة بالزنى ولم يأت بأربعة شهود عدول يشهد على المرأة بما نسبوا عليها من الفاحشة ، يقام عليها "حد القذف" وهو بضرب كل واحد منهم "ثمانين جلدة" ولا يقبل لهم شهادة أبداً .
وقد خص الله المقذوف من النساء بالذكر حيث عبر "بالمحصنات" لأن ضرر المراة يتعدى إلى إسرتها ، فقذفها يصيبهم منه عار عظيم بخلاف الرجل ، وكذلك خص الله القاذف من الرجال بالذكر حيث قال : (والذين يرمون ) إلا ان النساء تغلب عليهن الحياء عادة فلا يقذفن الرجل بالزنا .(3)
بل إن الله تعالى ساوى بين شهادة الرجل وشهادة المرأة في أمر من أخطر الأمور وهو اللعان . إذ يقول الله تعالى : " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " .(4)
فالواضح من هذا النص الكريم أن الرجل والمرأة عندما التقيا وجهاً لوجه في عداء خطير حساس تعادلت شهادة المرأة وشهادة الرجل ، بل لو أمعنا النظر لوجدنا أن شهادة المرأة ربما كانت أرجح في هذا المضمار.
ذلك أن الرجل ادعى عليها ماادعاه وأقسم على ذلك ، بيد أن المرأة لما أنكرت ذلك الإتهام وأقسمت فإن شهادتها محت شهادة الرجل وتغلبت عليها .(5)
وبهذا نرى أن لامعنى لاتهام الإسلام بأنه قد أنقص من حقوق المرأة بما جاء من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية حفظها.
هذا هو كل مافي الأمر وقد جاء عليه النص صراحة في الآية ذاتها حيث قال الله تعالى في تعليل اشتراط المرأتين بدلاً من الرجل الواحد في موضوع التداين "...واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى .."(6).
بيد أن فريقاً من أهل العلم ،خاصة من المحدثين ، ذهبوا في تفسير هذه الآية مذهباً آخر مغايراً ، فقالوا أن أهم دليل في الإثبات هو البينة . والبينة ، لغة ، هي مايبين بها الحق ومنها الشهادة . فالبينة أوسع وأهم من الشهادة والشهادة جزء منها . والإسلام لم يقيد شهادة المرأة أمام القضاء بأي قيد . بل يقول الله سبحانه وتعالى : " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض"[التوبة]. ولكن آية التداين المذكورة لاتتحدث عن إداء الشهادة أمام القضاء ، وإنما تتحدث عن أمر آخر هو الإستيثاق للدين عند إبرامه . فهي إذأً ، حسب هذا الرأي ، لاتضع قاعدة عامة فحواها أن شهادة المراة لاتعادل شهادة الرجل وإنما هي تتحدث عن أمر محدد بذاته ، هو الإستيثاق للدّين وذلك عن كتابة . وقد جعل الشارع شهادة المرأة في هذا المجال غير مساوية لشهادة الرجل لأسباب منطقية لاتتأذى بها المراة . فالمرأة ليس من شأنها المعاملات ، ولا من طبيعتها التعامل في الأسواق كالرجل . ولذلك قدراتها في هذه الأمور قليلة ، فالوقوع في الخطأ في هذا الأمر وارد ، كما يرد عليها النسيان في ذلك لأنه ليس فنها . ومن طبع البشر عامة أن تقوى ذاكرتهم للأمور التي يهتمون بها ويعملون فيها.(7)
وهذا النص جاء تعضيداً للمرأة وتوكيداً لشهادة ، وليس لنقص أو عيب فيها ، منها هو النبي موسى عليه السلام مع عظمته وشرف تقربه إلى الله ، فهو كليمه ، فقد طلب من ربه ، عندما أمره بالتوجه إلى فرعون والتحدث إليه للرجوع عن طغيانه "إذهب إلى فرعون إنه طغى " (8) ، أن يؤازره في أخيه هارون تثبيتاً لموقفه وتشجيعاً في مخاطبة فرعون ، " واجعل لي وزيراً من أهلي . هارون أخي . أشدد به أزري .وأشركه في أمري ".(9)
أما في غير موضوع المداينة فإن الشريعة قبلت شهادة المرأة وحدها فيما لايطلع عليه غيرها أو ماتطلع عليه من دون الرجال غالباً ، فقد قرروا أن شهادتها وحدها تقبل في إثبات الولادة وفي الثيوبة والبكارة وفي العيوب الجنسية لدى المرأة . وهذا حين كان لايتولى توليد النساء وتطبيبهن والإطلاع على عيوبهن الجنسية إلا النساء في العصور الماضية . فليست المسألة إذاً مسألة إكرام وإهانة وعدمها وإنما هي مسألة تثبيت في الأحكام واحتياط في القضاء بها . وهذا مايحرص عليه كل تشريع عادل .
.................................................. ..........................................
(1) سورة البقرة : 282
(2) راجع التفسير الكبير للإمام فخر الرازي . ج 7 ص 114 . وراجع تفسير المالكي ص 70 . وراجع تفسير صفوة البيان . وراجع تفسير ابن كثير ج 1 ص 497 . وراجع تبصرة الحكام لابن فرحون ج 1 ص 245 .
(3) روح الدين الإسلامي ، عفيف طباره .ط 26 ص 406
(4) سورة النور : 6 – 7 – 8 – 9
(5) الإسرة المسلمة وتحديات العصر ، حسن الحفناوي : ص 221
(6) سورة البقرة : 282
(7) راجع تصيل ذلك في كتاب الإسلام عقيدة وشريعة لشيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت فقد أشار عليه مفصلاً ص 261
(8) سورة طه : 24
(9) سورة طه : 29 – 30 – 31 – 32
" ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ، وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، ولايأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ، فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولايبخس منه شيئاً ، فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لايستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ، واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، ولايأب الشهداء إذا مادعوا ، ولاتسئموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ، ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ، إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ، وأشهدوا إذا تبايعتم ، ولا يضار كاتب ولا شهيد ، وإن تفعلوا فإنه فسوقٌ بكم واتقوا الله ويعلمكم الله ، والله بكل شىء عليم "(1) .
والذي يمس موضوعنا في الآية الكريمة قوله تعالى : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ".
ولا نكاد نجد كتاباً لمستشرق من الذين أخذوا على أنفسهم مهاجمة الإسلام يخلو من الطعن في هذا الأمر جاعلاً إياه من المسائل التي يستدل بها على إهانة الإسلام للمراة ، والمهانة لاتصلح زوجة ناجحة في إسرة ناجحة .
والواقع أن التفاوت هنا لاعلاقة له بالإنسانية ولا بالكرامة ولا بالأهلية ؛ فقد رأى كثير من المفسرين (2) ان الشهادة تكون قائمة على رجلين من وجه عام ، فإن لم يتوافررجلان فلا بدمن رجل وامرأتين ، ولا تصلح أربع نسوة بدل من رجلين . ويقول الجمهور أن كلمة الضلال هنا بمعنى النسيان أو في باب قولهم ضل الطريق ، والمعنيان متقاربان .
فما دامت المراة إنسانة كالرجل وكريمة كالرجل ، ذا أهلية كاملة لتحمل الإلتزامات المالية كالرجل ، لم يكن اشتراط اثنتين مع رجل واحد إلا لأمر خارج عن كرامة المرأة واعتبارها واحترامها .
وإذا لاحظنا فإن الإسلام – مع إباحته للمرأة التصرفات المالية – يعتبر رسالتها الإجتماعية هي الإشراف والتفرغ لشؤون الإسرة ، وهذا مايقتضيها لزوم بيتها في أغلب الأوقات . وإن أعمالها المنزلية وتربية أولادها تقدم على أي اعتبار آخر أو اهتمام ويشغل بالها ؛ لذا فإن ماتلقاه أو تشاهده خارج هذا الإطار فإنها قد تمر به عابرة ، خاصة إذا كان من أعمال الرجل أصلاً ؛ فإذا جاءت تشهد به ، كان أمام القاضي إحتمال خطأها بعدم تأكدها أو نسيانها وتوهمها ؛ فإذا شهدت امرأة أخرى بمثل ماتشهد به زال احتمال النسيان والخطأ ، والحقوق لابد من التثبت منها وعلى القاضي أن يبذل غاية جهده لإحقاق الحق وإبطال الباطل .
ولهذا المعنى ذهب كثيرون من الفقهاء إلى أن شهادة النساء لاتقبل في الجنايات ، وليس ذلك إلا لما ذكرناه من أنها غالباً ماتكون قائمة بشؤون بيتها ، ولا يتيسر لها أن تحضر الخصومات التي تنتهي بجرائم القتل وما أشبهها ، وإذا حضرتها قل ّ أن تستطيع البقاء إلى أن تشهد جريمة القتل بعينها وتظل رابطة الجأش ، بل الغالب أنها إذا لم تستطع الفرار تلك الساعة كان لها أن تغمض العينين وتولول وتصرخ مرتعبة بما جبلها الله عليه من من عاطفة جياشة لاتستطيع حبسها وقد يغمى عليها ، فكيف يمكن بعد ذلك أن تتمكن من إداء الشهادة فتصف الجريمة والمجرمين وأداة الجريمة وكيفية وقوعها ؟ ومن المسلم به أن الحدود تدرأ بالشبهات ، وشهادتها في القتل وأشباهه تحيط بها الشبهة ، شبهة عدم إمكان تثبتها من وصف الجريمة لحالتها النفسية عند وقوعها ، بعد إحصاء دقيق في هذا الشأن .
في التداين :
لقد جاء النص القرآني في توثيق الدّين بشهادة رجلين أو لرجل وامرأتين ليطبق هذا النص على التجارة الحاضرة القائمة يومياً ، حفظاً على الحياة الزوجية للمرأة ولرفع المسؤولية عنها لأن الأعمال التجارية من بيع وشراء يتم بعضها بالدًين ، وقد يكون بحضور الزوجة الفعلي ولكن بغيايها ذهنياً ، لأن هذه العمليات من اختصاص الرجل ومسؤولياته ، فأعفاها الله من دعوتها للشهادة التي قد تأتي لغير صالح زوجها ، وفي ذلك تكريماً وصوناً لها برفع الإحراج عنها خاصة إذا كان زوجها سفيهاً ، كما جاء في النص .
وإذا كان الله تعالى قد ألزم شهادة امرأتين في أعمال دين وتجارة تتعلق بالرجل ، فإنه ألزم شهادة أربعة رجال فيما يتعلق بشرف المرأة وكرامتها وعرضها ، بقوله تعالى : " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً ، وأولئك هم الفاسقون " . ( النور : 6 )
فأي تكريم وحفظ وصون للمرأة في الإسلام أعظم من هذا . فكل من يرمي إمرأة شريفة بالزنى ولم يأت بأربعة شهود عدول يشهد على المرأة بما نسبوا عليها من الفاحشة ، يقام عليها "حد القذف" وهو بضرب كل واحد منهم "ثمانين جلدة" ولا يقبل لهم شهادة أبداً .
وقد خص الله المقذوف من النساء بالذكر حيث عبر "بالمحصنات" لأن ضرر المراة يتعدى إلى إسرتها ، فقذفها يصيبهم منه عار عظيم بخلاف الرجل ، وكذلك خص الله القاذف من الرجال بالذكر حيث قال : (والذين يرمون ) إلا ان النساء تغلب عليهن الحياء عادة فلا يقذفن الرجل بالزنا .(3)
بل إن الله تعالى ساوى بين شهادة الرجل وشهادة المرأة في أمر من أخطر الأمور وهو اللعان . إذ يقول الله تعالى : " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " .(4)
فالواضح من هذا النص الكريم أن الرجل والمرأة عندما التقيا وجهاً لوجه في عداء خطير حساس تعادلت شهادة المرأة وشهادة الرجل ، بل لو أمعنا النظر لوجدنا أن شهادة المرأة ربما كانت أرجح في هذا المضمار.
ذلك أن الرجل ادعى عليها ماادعاه وأقسم على ذلك ، بيد أن المرأة لما أنكرت ذلك الإتهام وأقسمت فإن شهادتها محت شهادة الرجل وتغلبت عليها .(5)
وبهذا نرى أن لامعنى لاتهام الإسلام بأنه قد أنقص من حقوق المرأة بما جاء من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية حفظها.
هذا هو كل مافي الأمر وقد جاء عليه النص صراحة في الآية ذاتها حيث قال الله تعالى في تعليل اشتراط المرأتين بدلاً من الرجل الواحد في موضوع التداين "...واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى .."(6).
بيد أن فريقاً من أهل العلم ،خاصة من المحدثين ، ذهبوا في تفسير هذه الآية مذهباً آخر مغايراً ، فقالوا أن أهم دليل في الإثبات هو البينة . والبينة ، لغة ، هي مايبين بها الحق ومنها الشهادة . فالبينة أوسع وأهم من الشهادة والشهادة جزء منها . والإسلام لم يقيد شهادة المرأة أمام القضاء بأي قيد . بل يقول الله سبحانه وتعالى : " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض"[التوبة]. ولكن آية التداين المذكورة لاتتحدث عن إداء الشهادة أمام القضاء ، وإنما تتحدث عن أمر آخر هو الإستيثاق للدين عند إبرامه . فهي إذأً ، حسب هذا الرأي ، لاتضع قاعدة عامة فحواها أن شهادة المراة لاتعادل شهادة الرجل وإنما هي تتحدث عن أمر محدد بذاته ، هو الإستيثاق للدّين وذلك عن كتابة . وقد جعل الشارع شهادة المرأة في هذا المجال غير مساوية لشهادة الرجل لأسباب منطقية لاتتأذى بها المراة . فالمرأة ليس من شأنها المعاملات ، ولا من طبيعتها التعامل في الأسواق كالرجل . ولذلك قدراتها في هذه الأمور قليلة ، فالوقوع في الخطأ في هذا الأمر وارد ، كما يرد عليها النسيان في ذلك لأنه ليس فنها . ومن طبع البشر عامة أن تقوى ذاكرتهم للأمور التي يهتمون بها ويعملون فيها.(7)
وهذا النص جاء تعضيداً للمرأة وتوكيداً لشهادة ، وليس لنقص أو عيب فيها ، منها هو النبي موسى عليه السلام مع عظمته وشرف تقربه إلى الله ، فهو كليمه ، فقد طلب من ربه ، عندما أمره بالتوجه إلى فرعون والتحدث إليه للرجوع عن طغيانه "إذهب إلى فرعون إنه طغى " (8) ، أن يؤازره في أخيه هارون تثبيتاً لموقفه وتشجيعاً في مخاطبة فرعون ، " واجعل لي وزيراً من أهلي . هارون أخي . أشدد به أزري .وأشركه في أمري ".(9)
أما في غير موضوع المداينة فإن الشريعة قبلت شهادة المرأة وحدها فيما لايطلع عليه غيرها أو ماتطلع عليه من دون الرجال غالباً ، فقد قرروا أن شهادتها وحدها تقبل في إثبات الولادة وفي الثيوبة والبكارة وفي العيوب الجنسية لدى المرأة . وهذا حين كان لايتولى توليد النساء وتطبيبهن والإطلاع على عيوبهن الجنسية إلا النساء في العصور الماضية . فليست المسألة إذاً مسألة إكرام وإهانة وعدمها وإنما هي مسألة تثبيت في الأحكام واحتياط في القضاء بها . وهذا مايحرص عليه كل تشريع عادل .
.................................................. ..........................................
(1) سورة البقرة : 282
(2) راجع التفسير الكبير للإمام فخر الرازي . ج 7 ص 114 . وراجع تفسير المالكي ص 70 . وراجع تفسير صفوة البيان . وراجع تفسير ابن كثير ج 1 ص 497 . وراجع تبصرة الحكام لابن فرحون ج 1 ص 245 .
(3) روح الدين الإسلامي ، عفيف طباره .ط 26 ص 406
(4) سورة النور : 6 – 7 – 8 – 9
(5) الإسرة المسلمة وتحديات العصر ، حسن الحفناوي : ص 221
(6) سورة البقرة : 282
(7) راجع تصيل ذلك في كتاب الإسلام عقيدة وشريعة لشيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت فقد أشار عليه مفصلاً ص 261
(8) سورة طه : 24
(9) سورة طه : 29 – 30 – 31 – 32