أن لكل إنسان رؤية وردود فعل حول الجمال كمفهوم، والجمال كانطباع تجاه أشياء مادية وروحية مختلفة يتذوق جمالها عقلياً، تترك في نفسه إحساساً بالبهجة والارتباك والنشوى والدهشة. فهو المقياس، الذي يحدد جمال المادة، التي تترك لدى المتلقي، الانطباع والإحساس بالبهجة، سواء كان عن طريق التأمل العقلي أو السمع أو النظر أو التذوق.
ولكي يكون لدى كل إنسان إحساساً جمالياً راقياً، يتطلّب تربية للذوق الفني والجمالي لدى الإنسان. وقد كان لفلاسفة الإسلام مفاهيم في الجمال، وإن أشهر هذه المفاهيم التي لعبت دوراً مهما في النظرية الجمالية عندهم، هو مفهوم التناسق. وقد لقيّ مفهوم التناسق الكوني الذي ظهر عند الفيثاغوريين تأثيراً لدى الفلاسفة المسلمين، وخصوصاً عند أخوان الصفا.الذين طوروا مفهوم التناسق بشكل يتفق مع بحثهم حول نظريات الموسيقى. كما استفادوا من أراء أفلاطون المثالية، الذي يرى أن الجمال من مكونات الشيء الجميل، أي أن له في نفسه قيمة ذاتية، وأرسطو الذي يعتقد إن الجمال هو الانسجام الحاصل من خلال وحدة تجمع في داخلها التنوع والاختلاف في كل منسجم. وأفلوطين يعتقد إن الجمال هو تلك الحياة التي وهبها الله مخلوقاته ونفخ فيها من روحه، ومن ثم فالشيء الجميل هو الذي يشع بالحياة. وغيرهم من فلاسفة اليونان والروم والفرس والهند…
نجد عند الفيلسوف الكندي ( 803 م – 873 م ) في مؤلفة عن الموسيقى، محاولة وضع تعميقاً عن التذوق الجمالي للألحان والألوان والروائح. فالألوان المختلفة برأيه مثل الألحان تستطيع أن تعبر عن هذا الشعور أو ذلك وتثيره، كما يوجد بين أنواع معينة من الألوان والألحان من حيث تأثيرها النفسي تشابه معين. وكذلك الحال بالنسبة للروائح التي يعتبرها موسيقى صامته. والموسيقى عند الفارابي(873 م -953 م) تعطي الإنسان السعادة والسرور، المترعرعين في تلك الحدود التي تنمو فيها ثقته وفهمه، وعبر فهمه يكتشف في نفسه الجمال والكمال. وكما يقول " إن علم الموسيقى ذو فائدة من حيث إنه يرجع توازن التفكير لذلك الذي فقده، ويجعل الذين لم يبلغوا الكمال أكثر كمالاً، ويحافظ على التوازن العقلي عند هؤلاء الذين هم في حالة توازن فكري ..."، ويقول أيضاً " بأن صلة معينة توجد بين الفنانين والشعراء ويمكن القول أن مواد إنتاجهم الفني مختلفة، ولكن أشكال هذه المواد وتأثيرها وهدفها واحد أو على الأقل متشابه. وفن الشعر في الحقيقة يعتمد على نظم الكلمات أما فن الرسم فيعتمد على الشكل والألوان، وهنا يكمن الفرق بينهما إلا أن تأثير هذا وذلك هو واحد يعبر عنه في المحاكاة وهدفها واحد وهو التأثير على مشاعر الناس وحواسهم بمساعدة المحاكاة. "
بينما نجد عند التوحيدي (320-414 هـ) إشارات عن مفهوم الجمال. حيث يضع إصبعه على بدايات علم الجمال المتمثلة في الاستيحاء من الطبيعة التي يعتبرها المعلم الأول للإنسان. والإبداع الفني الكامن في الإنسان والمستنبط من الطبيعة في أصوله المتقادمة قد لا تكفي الطبيعة وحدها كمناخ حقيقي للخصب الفني إذ لابد من توفر ركائز أخرى تسند الطبيعة الأم وتكون متكأ لها، منها الخبرة والطرق العلمية، وتتبع أعمال الآخرين. والطبيعة لا تمثل الخط النهائي لطموح الفنان بل أن الطبيعة محتاجة بدورها إلى الفن، وعلى الرغم من أن الصناعة تحاكي الطبيعة فالطبيعة تتوقف في احتياجاتها إلى الصناعة، والموسيقي إذا صادف طبيعة قابلة ومادة مستجيبة وقريحة مواتية وآلة منقادة، أفرغ عليها بتأييد العقل والنفس وشاحاً مؤنقاً، وتأليفاً معجباً أعطاها صورة معشوقة، وحليّة مرموقة وقوة في ذلك تكون بمواصلة النفس الناطقة، فمن هنا احتاجت الطبيعة إلى صناعة لأنها وصلت إلى كمالها من ناحية النفس الناطقة بواسطة الصناعة الحادثة التي من شأنها إستملاء ما ليس لها، وإملاء ما يحصل فيها، استكمالا بما تأخذ، وكمالاً لما تعطي.
كما كان للأفكار الصوفية تأثير على مفهوم الجمال، حيث تقوم الفكرة الأساسية لدى الصوفية إن الإنسان يستطيع أن يتحد في ذات الله روحياً عن طريق الوجد والحياة المتقشفة والتنسك والعبادة الخالصة وتنقية الروح والنفس من جميع الرغبات والشهوات الدنيوية. ومتى ما يصبح في حضرة الذات الإلهية، يدرك أن الجمال الحقيقي هو فيما يرى من نور، وما جمال العالم إلا انعكاسا للجمال الإلهي.
حيث نجد عند الفقيه والمتصوف أبو حامد الغزالي كيف أنه قد جعل الجمال الظاهر من شأن الحواس، والجمال الباطن من شأن البصيرة. ويقول " ظاهرة وباطنة، والحسن والجمال يشملهما، وتدرك الصور الظاهرة بالبصر الظاهر، والصور الباطنة بالبصيرة الباطنة. فمن حرم البصيرة الباطنة لا يدركها ولا يتلذذ بها ولا يحبها ولا يميل إليها…… ومن كانت عنده البصيرة غالبة على الحواس الظاهرة كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة، فشتان بين من يحب نقشاً مصوراً على الحائط بجمال صورته الظاهرة، وبين من يحب نبياً من الأنبياء لجمال صورته الباطنة. "
أن تقدير العرب للجمال قبل الإسلام كان معكوساً على الأشياء المادية الحسية مثل جمال المرأة والبعير والفرس والأطلال فكان مقتصراً على ردود الفعل والمشاعر العاطفية المباشرة من حب وشوق وحنين ولوعة ولهفة اللقاء فكانوا ينظموا شعر الغزل فيمن يحبوا ويعشقون. وحينما جاء الإسلام أهتم بجمال النفس والخلق والخلقة، فقد حث الناس على النظافة والاهتمام بمظهرهم وزينتهم. فقد قدر الإسلام الجمال والجميل لأنه ينطلق من الآية التي يذكر بها " الله جميل ويحب الجمال "، والجمال هنا يشمل الجانب الشكلي والروحي.
أن الفنان في العصر الإسلامي يقيّم فنه على الوحي أو الحدس ويقيّم الأشكال بعيداً عن مقاييس الشكل الانساني وحدودها. لأن الفكر الاسلامي قام بتمجيد المثل الأعلى ( ألهو ) وليس على تمجيد الأنا، ولقد تمثل هذا في آيات الكتاب عند توسيع الفرق بين الانسان الترابي الأصل وبين الله وهو الحق المطلق الذي يحيط الملأ الأعلى.
ربما يقول البعض من باب الحمّية والدفاع عن الإسلام، بأن الدين الإسلامي لم يمنع التصوير الفني. لكننا نجد أن فن التصوير الفني والرسم بالخصوص، قد ظهر وأزدهر تنفيذه في فترة تمزق الدولة الإسلامية وضعفها. حين أصبح إيمان الناس بالدين لا يتعدى تطبيق الشعائر والطقوس فقط، لأن علمهم أقتصر على ما يفعله ويقدمه لهم شيوخ المنابر ووعاظ السلاطين من تفسير ومواعظ وفتاوى مقتصرة على علاقاتهم ببعض في أمورهم المعيشية والعملية.
يقول بريون " أن الفن التجريدي كما يبدو لي أكثر محضية من تلك التي يثيرها الشكل التمثيلي. " وكما يضيف " أن الفن، في كل مرة يسعى فيها الى التعبير عما هو روحاني أو الهي، كان يسعى الى التجريدية، الشعور بأن تشخيص الآلهة فيه استخفاف لقيمتها. " أن المطلق إذا كان مفهوماً فلسفياً فهو في المفهوم الجمالي يعني إيجاد الصيغة المرغوبة، فالمجال القائم في الطبيعة، جمال التفاحة أو جمال البحر أو جمال المرأة، هو جمال شيء معين، ويشترك في تزكية هذا الجمال عوامل عديدة، منها المتعة أو اللذة أو الذكرى. أما الجمال المحض، هو المجال البعيد عن جميع المغريات الإضافية، فلا وجود له في الطبيعة، إذ نادراً ما نعجب بزاوية جدار مهترئ تكتسيه طبقة من العفن، اللهم إلا إذا كان منا من هو شاذ الذوق.
لكن في الفن نجد أن الفنان يبحث تقريباً عن نفس الزاوية ويحاول إعادة إنشائها بشكل فني، وليس شرطاً أن يكون عملنا جميلاً جمال الجوكندا، ولكن الشرط أن يكون جماله فنياً أي أن يكون إبداعياً صرفاً، وبهذا يقول موندريان " أننا نسعى وراء جمالية جديدة محضة، خطوط وألوان محضة، ذلك لأن العلاقات المحضة هي وحدها القادرة على الوصول الى الجمال المحض. "
أن العصر الحديث ميز بين التقدم العلمي والصناعي والعمل والخيال الإلهامي عن العمل القاعدي. فكان العمل الخيالي يجنح الى اللاواقع، والعمل العلمي يقوم على الواقع، وكما يقول براك " إن الاحساسات تسعى الى التحوير، أما العقل فيسعى الى القاعدة. " ومن هنا كانت بداية تحرر الفنان من الأشكال الطبيعية والعمل على مناهضتها شيئاً فشيئاً. حيث أصبحت اللوحة لدى كاندينسكي تمثل مجموعة من الخطوط والحلزونات والأشكال التي لا مدلول لها ولا ترتبط بأي الأشكال المألوفة في الواقع.