كانت نقطة التحول في تاريخ تلك المنطقة عندما عرض المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس فكرة شق قناة تربط بين البحر المتوسط والبحر الاحمر وذلك لتسهيل حركة المرور والتجارة العالمية بين الشرق والغرب وبالفعل استطاع ديليسبس الحصول علي موافقة الخديوي سعيد علي أقامه هذا المشروع الضخم بالإضافة إلى امتيازات هائلة لصالح الشركة التي كان يعمل بها ديليسبس وما استتبع هذه الموافقة وهذه الامتيازات من التحول الهائل في تاريخ تلك المنطقة لتتحول من صحراء جرداء إلي تجمعات حضارية كبيرة ثم إلي مدن ذات طباع خاصة كان لوجودها أكبر الأثر في تاريخ مصر الحديث بعد ذلك . لم يكن ليخطر علي بال سكان قرية التمساح أن تتحول قريتهم الصغيرة في يوم من الأيام إلي مدينة كبيرة يؤمها القاصدون من كل مكان للإقامة بها والاستمتاع بجوها وهو ما حدث بعد ذلك بالتدريج .
مع تولي الخديوي إسماعيل حكم مصر عام كانت له من الآمال والتطلعات مع ما يتناسب ومكانة مصر التاريخية والحضارية علي مستوي العالم وكان الخديوي في ذلك الوقت متأثراً بالطابع الأوربي الغربي بصفة عامة والفرنسي بصفة خاصة لذا فقد حاول بكل قوة في أن يجعل من مصر مركزاً حضارياً أوربياً في قلب القارة الأفريقية وبالفعل بدأت معالم التحديث والحضارة هذه في الظهور في القاهرة ومدن مصر المختلفة وذلك من خلال المشروعات والأعمال العظيمة التي تم إنشائها مثل الكباري والجسور علي نهر النيل وشق الترع لتوصيل مياه النيل إلي مناطق مختلفة من أرض مصر بالإضافة إلي فتح المدارس والمصالح والدواوين الحكومية والمكتبات وغيرها من المشروعات .
وتجسدت اللمحة الحضارية والثقافية في إنشاء دار الأوبرا ودار الكتب وكوبري قصر النيل بأسديه الشهيرين وغيرها من المعالم الحضارية ولكن ونظراً لان العشوائية كانت قد حطت بجذورها في قلب القاهرة فقد بات مشروع الخديوي إسماعيل مهدداً بالفشل فكان لابد من تغير مساره إلي منطقة أخري حتى تتضح معالمه الأساسية .
من هنا كانت المنطقة الجديدة والتي يجري بها العمل في شق قناة السويس هي البيئة المناسبة لتنفيذ آمال وتطلعات الخديوي فقام بإطلاق اسمه علي المنطقة الواقعة في منتصف المسافة بين بورسعيد والسويس فسميت بالإسماعيلية ومن ثم بدأ في التخطيط الشامل لتلك المنطقة لتكون كما لو كانت باريس عاصمة النور فشق طرقها علي النمط الأوربي وجلب لها النباتات والأشجار من كل مكان علي وجه الأرض وأقام فيها العديد من المنازل والفيلات علي الطراز المعماري الفرنسي غير أن الوقت لم يسعفه لتنفيذ مشروعه الحضاري كاملاً.
وقد بدأت مشاهد الحياة الحضارية علي هذه الأرض في العصر الحديث مع الاحتفال الأسطوري الذي أقامه الخديوي إسماعيل لافتتاح قناة السويس أمام الملاحة العالمية عام 1869م والذي حضره العديد من ملوك ورؤساء دول العالم في ذلك الوقت وعلي رأسهم الملكة أوجيني زوجة الإمبراطور نابليون الثالث إمبراطور فرنسا وقد كان هذا الاحتفال من العلامات المضيئة في تاريخ تلك المنطقة .
في البداية كان أهل قرية التمساح هم كل سكان مدينة الإسماعيلية الجديدة وبدأ يوماً بعد أخر يلحق بهم العديد من سكان القرى المجاورة ويستقر عندهم الكثير من الغرباء الذين جاءت بهم السخرة والسلطة من بيوتهم وحقولهم وعائلاتهم ليشاركوا في حفر قناة السويس . كانت الحالة الإنسانية لهولاء البشر في منتهى القسوة والعذاب والمشقة والألم حيث يتم تجميعهم كما لو كانوا قطعان من الحيوانات لا كبشر لهم حق الحياة وينتهي بهم المطاف في الإسماعيلية فيموت منهم من يموت ويبقي منهم من يبقي وأما من بقي منهم علي قيد الحياةفكان أمامه خيارين أما العودة من حيث أتي أو البقاء لينضم إلى أهل قرية التمساح ليكتبوا الصفحة الأولى في كتاب تاريخ الإسماعيلية . وهنا يجب التوقف عند هذه النقطة طويلاً حيث تشرح هذه النقطة طبيعة أهل الإسماعيلية من انهم بدأوا حياتهم كفقراء مسالمين لا يضمرون شراً لأحد ولا يريدون لأحد أي أذى ولكن هي السلطة في القاهرة التي اقتلعتهم من بيوتهم وألقت بهم حفاة جائعين في الصحراء ومن ثم كان هذا أول درس تعلموه ألا يثقوا في السلطة والايحبوا القاهرة ظروف كان من الممكن أن تتبدل وتتغير بمرور أيام وسنوات كثيرة وطويلة ولكن حتى بعد التغيير والتبديل وبعد هذه الأيام والسنوات بقي هذا الدرس وهذا الاقتناع تحت جلد أبناء الإسماعيلية يتوارثونه جيلاً بعد جيل ليس فقط الخوف من السلطة وكراهية القاهرة وإنما هذا الترابط العميق بينهم والذي أكده دمهم الذي سال فوق رمال أرضها والموت الذي كان يحاصرهم طوال الوقت والذي أنساهم انهم جاءوا من مختلف القرى والمدن في شمال مصر وجنوبها بطولها وعرضها.