*وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط
يقول تعالى: {ولقد أرسلنا إلى مدين** وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون الأردن ، بلاداً تعرف بهم يقال لها مدين ، فأرسل اللّه إليهم شعيباً وكان من أشرافهم نسباً، ولهذا قال: {أخاهم شعيبا** يأمرهم بعبادة اللّه تعالى وحده لا شريك له وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان، {إني أراكم بخير** أي في معيشتكم ورزقكم، وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم اللّه، {وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط** أي في الدار الآخرة.
*ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ
نهاهم أولاً عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن، ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد وقد كانوا يقطعون الطريق، وقوله: {بقية اللّه خير لكم**، قال ابن عباس: رزق اللّه خير لكم، وقال الحسن: رزق اللّه خير لكم من بخسكم الناس، وقال الربيع: وصية اللّه خير لكم، وقال [[مجاهد]]: طاعة اللّه، وقال قتادة: حظكم من اللّه خير لكم. وقال ابن جرير: أي ما يفضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس، قلت: ويشبه قول [[القرآن]]: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث** الآية، وقوله: {وما أنا عليكم بحفيظ** أي برقيب ولا حفيظ أي افعلوا ذلك للّه عزَّ وجلَّ، لا تفعلوا ليراكم الناس بل للّه عزَّ وجلَّ.
*قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد
يقولون له على سبيل التهكم - قبحهم اللّه - {أصلاتك** أي قراءتك قاله الأعشى ، {تأمرك
أن نترك ما يعبد آباؤنا** أي الأوثان والأصنام، {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء** فنترك التطفيف عن قولك، وهي أموالنا نفعل فيها ما نريد، قال الحسن في الآية: أي واللّه إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم، وقال الثوري في قوله: {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء** يعنون الزكاة، {إنك لأنت الحليم الرشيد؟!** يقول ذلك أعداء اللّه على سبيل الاستهزاء قبحهم اللّه.
*قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
يقول لهم أرأيتم يا قوم {إن كنت على بينة من ربي** أي على بصيرة فيما أدعو إليه، {ورزقني منه رزقا حسنا** قيل: أراد النبوة، وقيل: أراد الرزق الحلال ويحتمل الأمرين، قال الثوري: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه** أي لا أنهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم، وقال قتادة: لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه، {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت** أي فيما آمركم وأنهاكم إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي، {وما توفيقي** في إصابة الحق فيما أريده {إلا باللّه عليه توكلت** في جميع أموري {وإليه أنيب** أي أرجع، قاله مجاهد. روى الإمام أحمد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الأنصاري قال: سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقول عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه قريب منكم فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه) "أخرجه ابن أبي حاتم". ومعناه واللّه أعلم: مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به، ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه**، قال أبو سليمان الضبي: كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي، فيكتب في آخرها: وما كانت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح {وما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت وإليه أنيب**.
*ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد . واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود **
يقول لهم: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي** أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد، فيصبيكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط من النقمة والعذاب، وقال قتادة: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي** يقول: لا يحملنكم فراقي، وقال السدي: عداوتي، على أن تمادوا في الضلال والكفر فيصيبكم من العذاب ما أصابهم، ولما أحاط الناس بعثمان بن عفان أشرف عليهم من داره فقال: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح**، يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم
هكذا، وشبك بين أصابعه "أخرجه ابن أبي حاتم"، وقوله: {وما قوم لوط منكم ببعيد** قيل المراد في الزمان، قال قتادة: يعني إنما هلكوا بين أيديكم بالأمس، وقيل: في المكان، ويحتمل الأمران، {واستغفروا ربكم** من سالف الذنوب، {ثم توبوا إليه** فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة {إن ربي رحيم ودود** لمن تاب.
*قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز . قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط
يقولون: {يا شعيب ما نفقه** ما نفهم {كثيرا** من قولك، {وإنا لنراك فينا ضعيفا** روي عن سعيد بن جبير والثوري أنهما قالا: كان شعيب ضرير البصر ، قال السدي: أنت واحد، وقال أبو روق: يعنون ذليلاً، لأن عشيرتك ليسوا على دينك، {ولولا رهطك لرجمناك** أي قومك لرجمناك** قيل: بالحجارة، وقيل: لسببناك، {وما أنت علينا بعزيز** أي ليس عندنا لك معزة، {قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من اللّه**، يقول: أتتركوني لأجل قومي، ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيّه بمساءة وقد اتخذتم جانب اللّه {وراءكم ظهريا** أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه، {إن ربي بما تعملون محيط** أي هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم عليها.
*ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب . ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود
لما يئس نبي اللّه شعيب من استجابتهم له قال: يا قوم {اعملوا على مكانتكم** أي طريقتكم، وهذا تهديد شديد {إني عامل** على طريقتي، {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب**، أي مني ومنكم، {وارتقبوا** أي انتظروا، {إني معكم رقيب**، قال اللّه تعالى: {ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين**، وقوله: {جاثمين** أي هامدين لا حراك بهم. وذكر ههنا أنه أتتهم صحية، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء {عذاب يوم الظلة**، وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها، وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه، وقوله: {كأن لم يغنوا فيها** أي يعيشوا في دارهم قبل ذلك {ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود** وكانوا جيرانهم قريباً منهم في الدار، وشبيهاً بهم في الكفر وكانوا عرباً مثلهم.
وقد نجا الله النبي شعيب والذين آمنوا.