ولماذا الابتلاء؟!
قد يقول قائل: ولماذا هذه الأقدار المؤلمة، والابتلاءات الشديدة التي تتنافى
-ظاهرًا- مع مظاهر الرحمة الإلهية بالناس؟!
نعم، قد يكون لهذا السؤال وجاهته إن كانت الدنيا هي دار النعيم الأبدي والمستقر النهائي، ولكن الدنيا ليست كذلك، فهي دار اختبار، يؤدي كل من عليها امتحانًا في مدى عبوديته لربه (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف: 7].
هذا الامتحان مكون من تكاليف يقوم بها الفرد، وأدوات عليه أن يُحسن التعامل معها، فالتكاليف هي الأوامر والنواهي، والأدوات هي العطاء والمنع.
أما العطاء فهو كل ما يرد على العبد من النعم، والمطلوب منه أن يشكر الله عليها.
والمنع هو كل ما يمنع الله منه العبد من صحة أو مال أو....، والمطلوب أن يصبر على ذلك ابتغاء وجه الله.
فالعطاء ليس دليل كرامة من الله للعبد، والمنع ليس دليل إهانة، بل كلاهما مواد اختبار (فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ) [الفجر: 15- 17].
فإن قلت: ولماذا لا يمتحن الناس جميعًا في مادة العطاء؟
لو كان الجميع في صحة وعافية ورزق وفير ما استشعر الناس قيمة هذه النعم، ولما انكشف المتواضع من المتكبر، ولا الشاكر من الجاحد، ولا الصابر من الشاكي ربه.. ألم يقل سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31].
وقال: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام: 165].
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الله عز وجل يبسط الرزق أو يمنعه عن عباده حسب ما يصلحهم، وبحسب حالتهم التي لا يعلمها سواه (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء: 30].
لذلك جاء في الحديث القدسي يقول الله عز وجل: «إن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح حاله إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك...». رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس مرفوعًا.
وما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه و سلم : «إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا، وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب، تخافون عليه». صحيح الجامع الصغير ح (1418).
من فوائد الابتلاء
الله عز وجل يبتلي عباده ليذكِّرهم به، وبضرورة العودة إليه قبل فوات الأوان (وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف: 48] فهو إذن مظهر عظيم من مظاهر رحمة الله بالعصاة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام: 42].
ويبتلي سبحانه عباده كذلك ليطهرهم من ذنوبهم في الدنيا قبل أن لا يصبح أمامهم طريقة للتخلص منها إلا بالنار.
أيهما أهون علينا- أخي القارئ- التطهير في الدنيا أم التطهير في الآخرة بالنار والعياذ بالله.
ألم يقل صلى الله عليه و سلم : «ما يُصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه». متفق عليه.
وقال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة» . رواه الترمذي عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5815).
وهناك طائفة أخرى من العباد الطائعين لربهم، يريد سبحانه أن يكافئهم برفع درجاتهم في الجنة، ولكن أعمالهم لا يمكنها أن ترقى بهم إلى هذه الدرجات فكان الابتلاء وسيلة يستخرج الله عز وجل من قلوب هؤلاء ألوانًا من العبودية من ذل وانكسار وفقر واضطرار ما كانت لتخرج من قلوبهم إلا من خلال هذا الابتلاء.
ويؤكد على هذا المعنى القاضي عياض في كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه و سلم »، فيقول: فإن قيل: فما الحكمة في إجراء الأمراض وشدّتها عليه صلى الله عليه و سلم وعلى غيره من الأنبياء على جميعهم السلام؟ وما الوجه فيما ابتلاهم الله به من البلاء، وامتحانهم بما امتحُنوا به، كأيوب، ويعقوب، ودانيال، ويحيي، وزكريا، وإبراهيم، ويوسف، وغيرهم، صلوات الله عليهم، وهم خيرته من خلقه وأحباؤه وأصفياؤه؟
فاعلم- وفقنا الله وإياك- أن أفعال الله تعالى كلها عدل، وكلماته جميعها صدق، لا مبدل لكلماته، يبتلي عباده كما قال تعالى لهم (لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس: 14].
فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة في مكانتهم، ورفعة في درجاتهم، وأسباب لاستخراج حالات الصبر والرضا، والشكر والتسليم، والتوكل، والتفويض، والدعاء، والتضرع منهم، وتأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين، والشفقة على المبتلين، وتذكرة لغيرهم، وموعظة لسواهم ليتأسَّوا في البلاء بهم، فيتسلوا في المحن بما جرى عليهم، ويقتدوا بهم في الصبر، ومحوٌ لهَنَّاتٍ فرطت منهم، أو غفلات سلفت لهم، ليلقوا الله طيبين مُهذّبين، وليكون أجرهم أكمل، وثوابهم أوفر وأَجْزل. الشفا للقاضي عياض 2/ 178.
جاء في الأثر: إن الله تعالى ليصيب العبد بالأمر، وإنه ليحبه، لينظر كيف كان تضرُّعه إليه. المحبة للجنيد/ 73.
أخي ..
إن بعض الناس لا يرغب في نزول المطر لأنه يراه عائقًا أمام حركة السير، وسببًا لبعض الحوادث.
ولكن المطر- في حقيقته- من أجَلّ صور الرحمة الإلهية بالناس، فيه ينبت الزرع وتحيا الحياة، وترتوي المخلوقات، وليس معنى عدم استشعار البعض لهذه الحقيقة أن يتوقف نزول المطر- رحمة بهم على حد زعمهم- بل إن الرب الرحيم يرى المصلحة العامة لعباده فُيقدِّر الأقدار، ويحرك الأحداث من أجل تحقيقها.
فالابتلاء وإن كان في ظاهره الضيق والعنت إلا أنه يحمل في طياته رحمات كثيرة (فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19].
_____________
قد يقول قائل: ولماذا هذه الأقدار المؤلمة، والابتلاءات الشديدة التي تتنافى
-ظاهرًا- مع مظاهر الرحمة الإلهية بالناس؟!
نعم، قد يكون لهذا السؤال وجاهته إن كانت الدنيا هي دار النعيم الأبدي والمستقر النهائي، ولكن الدنيا ليست كذلك، فهي دار اختبار، يؤدي كل من عليها امتحانًا في مدى عبوديته لربه (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف: 7].
هذا الامتحان مكون من تكاليف يقوم بها الفرد، وأدوات عليه أن يُحسن التعامل معها، فالتكاليف هي الأوامر والنواهي، والأدوات هي العطاء والمنع.
أما العطاء فهو كل ما يرد على العبد من النعم، والمطلوب منه أن يشكر الله عليها.
والمنع هو كل ما يمنع الله منه العبد من صحة أو مال أو....، والمطلوب أن يصبر على ذلك ابتغاء وجه الله.
فالعطاء ليس دليل كرامة من الله للعبد، والمنع ليس دليل إهانة، بل كلاهما مواد اختبار (فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ) [الفجر: 15- 17].
فإن قلت: ولماذا لا يمتحن الناس جميعًا في مادة العطاء؟
لو كان الجميع في صحة وعافية ورزق وفير ما استشعر الناس قيمة هذه النعم، ولما انكشف المتواضع من المتكبر، ولا الشاكر من الجاحد، ولا الصابر من الشاكي ربه.. ألم يقل سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31].
وقال: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام: 165].
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الله عز وجل يبسط الرزق أو يمنعه عن عباده حسب ما يصلحهم، وبحسب حالتهم التي لا يعلمها سواه (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء: 30].
لذلك جاء في الحديث القدسي يقول الله عز وجل: «إن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح حاله إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك...». رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس مرفوعًا.
وما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه و سلم : «إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا، وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب، تخافون عليه». صحيح الجامع الصغير ح (1418).
من فوائد الابتلاء
الله عز وجل يبتلي عباده ليذكِّرهم به، وبضرورة العودة إليه قبل فوات الأوان (وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف: 48] فهو إذن مظهر عظيم من مظاهر رحمة الله بالعصاة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام: 42].
ويبتلي سبحانه عباده كذلك ليطهرهم من ذنوبهم في الدنيا قبل أن لا يصبح أمامهم طريقة للتخلص منها إلا بالنار.
أيهما أهون علينا- أخي القارئ- التطهير في الدنيا أم التطهير في الآخرة بالنار والعياذ بالله.
ألم يقل صلى الله عليه و سلم : «ما يُصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه». متفق عليه.
وقال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة» . رواه الترمذي عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5815).
وهناك طائفة أخرى من العباد الطائعين لربهم، يريد سبحانه أن يكافئهم برفع درجاتهم في الجنة، ولكن أعمالهم لا يمكنها أن ترقى بهم إلى هذه الدرجات فكان الابتلاء وسيلة يستخرج الله عز وجل من قلوب هؤلاء ألوانًا من العبودية من ذل وانكسار وفقر واضطرار ما كانت لتخرج من قلوبهم إلا من خلال هذا الابتلاء.
ويؤكد على هذا المعنى القاضي عياض في كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه و سلم »، فيقول: فإن قيل: فما الحكمة في إجراء الأمراض وشدّتها عليه صلى الله عليه و سلم وعلى غيره من الأنبياء على جميعهم السلام؟ وما الوجه فيما ابتلاهم الله به من البلاء، وامتحانهم بما امتحُنوا به، كأيوب، ويعقوب، ودانيال، ويحيي، وزكريا، وإبراهيم، ويوسف، وغيرهم، صلوات الله عليهم، وهم خيرته من خلقه وأحباؤه وأصفياؤه؟
فاعلم- وفقنا الله وإياك- أن أفعال الله تعالى كلها عدل، وكلماته جميعها صدق، لا مبدل لكلماته، يبتلي عباده كما قال تعالى لهم (لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس: 14].
فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة في مكانتهم، ورفعة في درجاتهم، وأسباب لاستخراج حالات الصبر والرضا، والشكر والتسليم، والتوكل، والتفويض، والدعاء، والتضرع منهم، وتأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين، والشفقة على المبتلين، وتذكرة لغيرهم، وموعظة لسواهم ليتأسَّوا في البلاء بهم، فيتسلوا في المحن بما جرى عليهم، ويقتدوا بهم في الصبر، ومحوٌ لهَنَّاتٍ فرطت منهم، أو غفلات سلفت لهم، ليلقوا الله طيبين مُهذّبين، وليكون أجرهم أكمل، وثوابهم أوفر وأَجْزل. الشفا للقاضي عياض 2/ 178.
جاء في الأثر: إن الله تعالى ليصيب العبد بالأمر، وإنه ليحبه، لينظر كيف كان تضرُّعه إليه. المحبة للجنيد/ 73.
أخي ..
إن بعض الناس لا يرغب في نزول المطر لأنه يراه عائقًا أمام حركة السير، وسببًا لبعض الحوادث.
ولكن المطر- في حقيقته- من أجَلّ صور الرحمة الإلهية بالناس، فيه ينبت الزرع وتحيا الحياة، وترتوي المخلوقات، وليس معنى عدم استشعار البعض لهذه الحقيقة أن يتوقف نزول المطر- رحمة بهم على حد زعمهم- بل إن الرب الرحيم يرى المصلحة العامة لعباده فُيقدِّر الأقدار، ويحرك الأحداث من أجل تحقيقها.
فالابتلاء وإن كان في ظاهره الضيق والعنت إلا أنه يحمل في طياته رحمات كثيرة (فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19].
_____________