نجوم مصرية
منتديات نجوم مصرية المنتدى العام المنتدى الإسلامي والنقاشات الدينية



تابع نجوم مصرية على أخبار جوجل




السيرة الشاملة للرسول عليه الصلاة والسلام الجزء الثاني

 



بدايات الوحي



تلك هي قصة بداية النبوة ونزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة ، وقد كان ذلك في رمضان في ليلة القدر ، قال الله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) وقال : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وقد أفادت الأحاديث الصحيحة ان ذلك كان ليلة الإثنين قبل أن يطلع الفجر .

وحيث إن ليلة القدر تقع في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان ، وقد ثبت علمياً أن يوم الإثنين في رمضان من تلك السنة إنما وقع في اليوم الحادي والعشرين فقد أفاد ذلك أن نبوته صلى الله عليه وسلم إنما بدأت في الليلة الحادية والعشرين من رمضان سنة إحدى وأربعين من مولده صلى الله عليه وسلم وهي توافق اليوم العاشر من شهر أغسطس سنة 610 م وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة أشهر واثني عشر يوماً ، وهو يساوي تسعاً وثلاثين سنة شمسية وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً فكانت بعثته على رأس أربعين سنة شمسية .
تابع نجوم مصرية على أخبار جوجل



فترة الوحي ثم عودته : وكان الوحي قد وانقطع فتر بعد أول نزوله في غار حراء كما سبق ودام هذا الانقطاع أياما ، وقد ترك ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم شدة وكآبة وحزنا ، ولكن المصلحة كانت في هذا الانقطاع ، فقد ذهب عنه الروع ، وتثبت من أمره ، وتهيأ لاحتمال مثل ما سبق حين يعود ، وحصل له التشوف والانتظار ، وأخذ يرتقب مجيء الوحي مرة أخرى. وكان صلى الله عليه وسلم قد عاد من عند ورقة بن نوفل إلى حراء ليواصل جواره في غاره ، ويكمل ما تبقى من شهر رمضان ، فلما انتهى شهر رمضان وتم جواره نزل من حراء صبيحة غرة شوال ليعود إلى مكة حسب عادته .

قال صلى الله عليه وسلم فلما استبطنت الوادي – أي دخلت في بطنه – نوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ونظرت خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثت منه رعباً حتى هويت إلى الأرض ، فأتيت خديجة ، فقلت زملوني ، زملوني ، دثروني ، وصبوا علي ماءً بارداً ، فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، فنزلت ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) . وذلك قبل أن تفرض الصلاة ثم حمي الوحي وتتابع . وهذه الآيات هي بدء رسالته صلى الله عليه وسلم وهي متأخرة عن النبوة بمقدار فترة الوحي ، وتشمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه .

أما النوع الأول فهو تكليفه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والتحذير ، وذلك في قوله تعالى : ( قم فأنذر ) فإن معناه حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما هم فيه من الغي والضلال ، وعبادة غير الله المتعال ، والإشراك به في الذات والصفات والحقوق والأفعال .

وأما النوع الثاني فتكليفه صلى الله عليه وسلم بتطبيق أوامر الله سبحانه وتعالى والالتزام بها في نفسه ، ليحرز بذلك مرضاة الله ، ويصير أسوة لمن آمن بالله ، وذلك في بقية الآيات ، فقوله : ( وربك فكبر ) معناه خصه بالتعظيم ، ولا تشرك به في ذلك أحداً غيره ، وقوله ( وثيابك فطهر ) المقصود الظاهر منه تطهير الثياب والجسد ، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجساً مستقذراً ، وقوله ( والرجز فاهجر ) معناه ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه ، وذلك بطاعته وترك معصيته ، وقوله : ( ولا تمنن تستكثر ) أي لا تحسن إحساناً تريد أفضل منه في هذه الدنيا.

أما الآية الأخيرة فأشار فيها إلى ما يلحقه من أذى قومه حين يفارقهم في الدين ، ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده ، فقال : ( ولربك فاصبر ) .


نزول جبريل على الرسول



كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتعد عن أهل مكة لأنهم يعبدون الأصنام ويذهب إلى غار حراء في جبل قريب. كان يأخذ معه طعامه وشرابه ويبقى في الغار أيامًا طويلة. يتفكّر فيمن خلق هذا الكون …
وفي يوم من أيام شهر رمضان وبينما كان رسول الله يتفكّر في خلق السموات والأرض أنزل الله تعالى عليه الملك جبريل، وقال للرسول: "اقرأ" فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أنا بقارئ"، وكرّرها عليه جبريل ثلاث مرّات، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في كل مرّة: "ما أنا بقارئ". وفي المرّة الأخيرة قال الملك جبريل عليه السلام: "اقرأ باسم ربّك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربّك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم".
وكانت هذه الآيات الكريمة أوّل ما نزل من القرآن الكريم. حفظ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما قاله جبريل عليه السلام.
عاد الرسول صلى الله عليه وسلم خائفًا مذعورًا إلى زوجته السيدة خديجة وكان يرتجف فقال لها:"زمّليني، زمّليني" (أي غطّيني). ولما هدأت نفسه وذهب عنه الخوف أخبر زوجته بما رأى وسمع فطمأنته وقالت له: "أبشر يا ابن عم، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة".
كان الرسول قد بلغ الأربعين من عمره عندما أنزل عليه القران الكريم.



الدعوة سرا


من المعلوم تاريخياً أن مكة كانت مركزا لدين العرب، وكان بها سدنة الكعبة والقائمون على الأوثان والأصنام التي كانت مقدسة عند سائر العرب في ذلك الزمان. وجاءت رسالة الإسلام وحال مكة على ما ذكرنا، ولم يكن من الحكمة، أن يجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته بداية، والعرب على ما هم عليه من التقاليد والعادات التي ورثوها عن آبائهم. وكان الأمر يحتاج إلى صبر ومثابرة وعزيمة لا تزلزلها المصائب والكوارث.فكان من الحكمة أن تكون الدعوة في بداية أمرها سرية، لئلاً يفاجأ أهل مكة بما يهيجهم ويثير حميتهم الجاهلية لآلهتهم وأصنامهم.

وبدأ رسول صلى الله عليه وسلم بعرض الإسلام أولاً على أقرب الناس إليه، وألصقهم به، فدعا آل بيته وأصدقاءه ممن يعرفهم ويعرفونه، يَعْرِفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بالصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء جَمْعٌ عرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوج النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، ومولاه زيد بن حارثة و ابن عمه على بن أبى طالب ، والصديق أبو بكر رضي الله عنهم، أسلم هؤلاء في أول يوم من أيام الدعوة وكان إسلامهم فاتحة خير على الإسلام ودعوته.

ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً محبوباً، صاحب خلق وإحسان، فدعا من يثق به سراً، فأسلم بدعوته عثمان بن عفان و الزبير بن العوام ، و عبد الرحمن بن عوف ، و سعد بن أبي وقاص، و طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم.

وسارع كل واحد من هؤلاء إلى دعوة من يطمئن إليه ويثق به، فأسلم على أيديهم جماعة من الصحابة، وهم من جميع بطون قريش، وهؤلاء هم أوائل السابقين الأولين الذين جاء ذكرهم في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة:100).
وذكر أهل السير أنهم كانوا أكثر من أربعين نفراً. أسلم هؤلاء سراً وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم بعيداً عن أنظار المشركين، فيرشدهم ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن الكريم، ويثبت الإيمان في قلوبهم.

وأما مدة الدعوة السرية فقد ذكر أكثر أهل السير أنها كانت ثلاث سنوات، وكون الدعوة سرية في هذه المرحلة لا يعني أن خبرها لم يبلغ قريشاً، فقد بلغها إلا أنها لم تكترث لها، ولم تعرها اهتماماً في بداية الأمر، ظناً منها أن محمداً أحد أولئك الديانين الذين يتكلمون في الألوهية، وعبادة الله وحده، مما ورثوه من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، كما صنع أمية بن أبي الصلت و قس بن ساعدة ، و عمرو بن نفيل وأشباههم .
ولما بدأ عود الدعوة يشتد ويقوى وخاف المشركون من ذيوع خبرها وامتداد أثرها، أخذوا يرقبون -على مر الأيام- أمرها ومصيرها،فوقفوا في سبيلها بعد ذلك.

وختام القول :فإن دعوة الإسلام استدعت في بداية أمرها أن تكون دعوة سرية، ريثما يتمكن أمرها، لتنطلق معلنة رسالتها الخاتمة، تلك الرسالة القائمة على إخراج الناس من الغي والضلال إلى الهدى والرشاد، لتكون عزاً ونصراً للمؤمنين ورحمة للعالمين وصدق الله القائل : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58) والحمد لله رب العالمين


الجهر بالدعوة في قريش




كانت الدعوة الإسلامية في بداية أمرها تنتهج السرية في تبليغ رسالتها، لظروف استدعت تلك الحال ، واستمر الأمر على ذلك ثلاث سنين، ثم كان لابد لهذه الدعوة من أن تعلن أمرها وتمضي في طريقها الذي جاءت من أجله، مهما لاقت من الصعاب والعنت والصد والمواجهة.
فقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم -وقد بعثه رسولاً للناس أجمعين- أن يصدع بالحق، ولا يخشى في الله لومة لائم فقال: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر:94) وأخبره أن يبدأ الجهر بدعوة أهله وعشيرته الأقربين، فقال مخاطباً له {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} (الشعراء:214) فدعا بني هاشم ومن معهم من بني المطلب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزل قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: ( يا بني فهر يا بني عديٍّ - لبطون قريش - حتى اجتمعوا فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولاً لينظر ما الخبر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصِّدقي؟ قالوا ما جربنَّا عليك كذباً، قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال له أبو لهب: تباً لك إلهذا جمعتنا) متفق عليه.

فكانت هذه الصيحة العالية بلاغاً مبيناً، وإنذاراً صريحاً بالهدف الذي جاء من أجله، والغاية التي يحيا ويموت لها، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم ووضََّح لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو الرابط الوحيد بينه وبينهم، وأن عصبية القرابة التي ألِفوها ودافعوا عنها واستماتوا في سبيلها، لاقيمة لها في ميزان الحق، وأن الحق أحق أن يتبع، فها هو يقف مخاطباً قرابته -كما ثبت في الحديث المتفق عليه بقوله: ( يا عباس بن عبد المطلب يا عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً) .

ولم يكن صلى الله عليه وسلم يبالي في سبيل دعوته بشئ، بل يجهر بالحق ويصدع به لا يلوي على إعراض من أعرض، ولا يلتفت إلى استهزاء من استهزأ، بل كانت وجهته إلى الله رب العالمين {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام:162) وكانت وسيلته الجهر بكلمة الحق {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف:108). وقد لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم جراء موقفه هذا شدة وبأساً من المشركين، الذين رأوا في دعوته خطراً يهدد ما هم عليه، فتكالبوا ضده لصده عن دعوته، وأعلنوا جهاراً الوقوف في مواجهته، آملين الإجهاز على الحق الذي جاء به {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف21).
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه يدعو إلى الله متلطفاً في عرض رسالة الإسلام، وكاشفاً النقاب عن مخازي الوثنية، ومسفهاً أحلام المشركين.فوفق الله تعالى ثلة من قرابته صلى الله عليه وسلم وقومه لقبول الحق والهدى الذي جاء به، وأعرض أكثرهم عن ذلك، ونصبوا له العداوة والبغضاء، فقريش قد بدأت من أول يوم في طريق المحاربة لله ولرسوله، متعصبة لما ألِفته من دين الآباء والأجداد، كما حكى الله تعالى عنهم على سبيل الذم والإنكار فقال: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف:22).


وخاتمة القول : إن الجهر بالدعوة كان تنفيذاً لأمر الله تعالى، وقياماً بالواجب، وقد صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالحق كما أراد الله، ولاقى مقابل هذا الإعلان ما قد علمنا من عداوة المشركين له وللمؤمنين من حوله، والتنكيل بهم، ولكن كان البيع الرابح مع الله تعالى، والعاقبة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به فملكوا الدنيا ودانت لهم، وهدى الله بهم الناس إلى الصراط المستقيم، وفي الدار الآخرة لهم الحسنى عند الله تعالى، واللهَ نسأل أن يعزَّ دينه وينصر أولياءه ويسلك بنا سبيلهم إنه سميع مجيب

بيعة العقبة الأولى



فلما كان حج العام المقبل - سنة 12 من النبوة – قدم اثنا عشر رجلاً منهم عشرة من الخزرج واثنان من الأوس ، فأما العشرة من الخزرج فخمسة منهم هم الذين جاءوا في العام الماضي غير جابر بن عبد الله بن رئاب وخمسة آخرون هم : معاذ بن الحارث ( معاذ بن العفراء ) . ذكوان بن عبد القيس . عبادة بن الصامت . يزيد بن ثعلبة . العباس بن عبادة بن نضلة وأما الاثنان من الأوس فهما : أبو الهيثم بن التيهان . عويم بن ساعدة . اجتمع هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وسلم بعقبة منى ، فعلمهم الإسلام ، وقال لهم : تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوني في معروف . فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ، فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله ، فأمره إلى الله ، إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه ، فبايعوه على ذلك .

دعوة الإسلام في يثرب : فلما رجعوا إلى يثرب بعث معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ليقرئهم القرآن ويفقههم في الدين ، ونزل مصعب بن عمير على أبي أمامة أسعد بن زرارة ونشطا في نشر الإسلام ، وبينما هما في بستان إذ قال رئيس الأوس سعد بن معاذ لابن عمه أسيد بن حضير : ألا تقوم إلى هذين الرجلين الذين أتيا يسفهان ضعفاءنا فتزجرهما ، فأخذ أسيد حربته ، وأقبل إليهما فلما رآه أسعد قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه . وجاء أسيد فوقف عليهما وقال : ما جاء بكما إلينا ؟ تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة ، فقال مصعب : أوتجلس فتسمع ، فإن رضيت امراً قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكرهه فقال : أنصفت ، وركز حربته وجلس ، فكلمه مصعب بالإسلام ، وتلا عليه القرآن ، فاستحسن أسيد دين الإسلام واعتنقه ، وشهد شهادة الحق . ثم رجع أسيد ، واحتال ليرسل إليهما سعد بن معاذ ، فقال له : كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت ، ثم قال : وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، لأنه ابن خالتك ، فيردون أن يخفروك . فغضب سعد ، وقام إليهما متغيظاً ، ففعل معه مصعب مثل ما فعل مع أسيد ، فهداه الله للإسلام ، فأسلم وشهد شهادة الحق ، ثم رجع إلى قومه ، فقال : يا بني عبد الأشهل ‍ كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا سيدنا وأفضلنا رأياً . قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة ، إلا رجل واحد اسمه الأصيرم ، تأخر إسلامه إلى يوم أحد ، ثم أسلم وقتل شهيداً في سبيل الله قبل أن يسجد لله سجدة .وعاد مصعب بن عمير إلى مكة قبل حلول موعد الحج يحمل بشائر مثل هذا الفوز .




بيعة العقبة الثانية




وفي موسم الحج سنة 13 من النبوة قدم كثير من أهل يثرب من المسلمين والمشركين ، وقد قرر المسلمون أن لا يتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يطوف في أيام التشريق ليلاً في الشعب الذي عند جمرة العقبة .

فلما جاء الموعد ناموا في رحالهم مع قومهم ، حتى إذا مضى ثلث الليل الأول أخذوا يتسللون ، فيخرج الرجل والرجلان حتى اجتمعوا عند العقبة ، وهم ثلاثة وسبعون رجلاً اثنان وستون من الخزرج ، وأحد عشر من الأوس ، ومعهم امرأتان : نسيبة بنت كعب من بني النجار ، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة ، وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، كان على دين قومه ، ولكن أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له .

وكان العباس أول من تكلم ، فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال في عز من قومه ومنعة في بلده ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك وإلا فمن الآن فدعوه .

فأجاب المتكلم عنهم – وهو البراء بن معرور – قال : نريد الوفاء والصدق وبذل الأرواح دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم يا رسول الله ‍ ! فخذ لنفسك ولربك ما أحببت .



فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلى القرآن ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام واشترط لربه :

1 – أن يعبدوه وحده ، ولا يشركون به شيئاً .

واشترط لنفسه ولربه أيضاً أنهم قالوا له على ما نبايعك ؟ فقال :

2 – على السمع والطاعة في النشاط والكسل .

3 – وعلى النفقة في العسر واليسر .

4 – وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

5 – وعلى أن تقوموا الله ، لا تأخذكم في الله لومة لائم .

6 – وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم ، ولكم الجنة .

7 – وفي رواية عن عبادة : ( بايعناه ) على أن لا ننازع الأمر أهله .


فأخذ بيده صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور وقال : نعم ، والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع عنه أزرنا ، فبايعنا ، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة – أي السلاح – ورثناها كابراً عن كابر . فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان قائلاً : يارسول الله ! إن بيننا وبين الرجال حبالاً – أي عهوداً وروابط - وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم . وفي هذه اللحظة الحاسمة تقدم العباس بن عبادة بن نضلة وقال : هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن ، فإنه خزي في الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يار سول الله ! قال : الجنة . قالوا : ابسط يدك . فبسط يده ، فقاموا ليبايعوه ، فأخذ بيده أسعد بن زرارة ، وقال : رويدأ يا أهل يثرب ! إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه ، وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فهو أعذر لكم عند الله . قالوا : يا أسعد ! أمط عنا يدك ، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها ، فقاموا إليه رجلاً رجلاً وبايعوه ، وكان أسعد بن زرارة هو أول المبايعين على أرجح الأقوال . وقيل بل أبو الهيثم بن التيهان . وقيل : بل البراء بن معرور . أما بيعة المرأتين فكانت قولاً بدون مصافحة .

اثنا عشر نقيباً : وبعد البيعة طلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا اثني عشر نقيباً يكونون عليهم ، ويكفلون المسؤلية عنهم ، فأخرجوا تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس ، أما من الخزرج فهم :



1 – سعد بن عبادة بن دليم .

2 – أسعد بن زرارة بن عدس .

3 - سعد بن الربيع بن عمرو .

4 - عبد اللله بن رواحة بن ثعلبة

. 5 – رافع بن مالك بن عجلان .

6– البراء بن معرور بن صخر .

7– عبد الله بن عمرو بن حرام .

8 – عبادة بن الصامت بن قيس .

9 – المنذر بن عمرو بن خنيس .

وأما من الأوس فهم :

10 – أسيد بن حضير بن سماك .

11 – سعد بن خيثمة بن الحارث .

12 – رفاعة بن عبد المنذر

بن زبير – وقيل : أبو الهيثم بن التيهان .



فلما تم اختيارهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل على قومي ، قالوا : نعم . هذه هي بيعة العقبة الثانية ، وكانت حقاً أعظم بيعة وأهمها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تغير بها مجرى الأحداث وتحول خط التاريخ . ولما تمت البيعة وكاد الناس ينفضون اكتشفها أحد الشياطين ، وصاح بأنفذ صوت سمع قط ، يا أهل الأخاشب – المنازل – هل لكم في محمد ، والصباة معه ، قد اجتمعوا على حربكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك ، وأمرهم أن ينفضوا رحالهم فرجعوا وناموا حتى أصبحوا . وصباحاً جاءت قريش إلى خيام أهل يثرب ليقدموا الإحتجاج إليهم ، فقال المشركون : هذا خبر باطل ، ما كان من شيء ، وسكت المسلمون ، فصدقت قريش المشركين ورجعوا خائبين . وأخيراً تأكد لدى قريش أن الخبر صحيح ، فأسرع فرسانهم في طلب أهل يثرب ، فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو عند أذاخر ، فأما المنذر فأعجز القوم هرباً ، وأما سعد فأخذوه وربطوه وضربوه وجروا شعره حتى أدخلوه مكة ، فخلصه المطعم بن عدي والحارث بن حرب ، إذ كان يجير لهما قوافلهما بالمدينة ، وأراد الأنصار أن يكروا إلى مكة إذ طلع عليهم سعد قادماً ، فرحلوا إلى المدينة سالمين


الهجرة الأولى إلى الحبشة



لما جاءت رسالة الإسلام وقف المشركون في وجهها وحاربوها، وكانت المواجهة في بداية أمرها محدودة، إلا أنها سرعان ما بدأت تشتد وتتفاقم يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، حتى ضيَّقت قريش الخناق على المسلمين واضطهدتهم وأرهقتهم، فضاقت عليهم مكة بما رحبت، وصارت الحياة في ظل هذه المواجهة جحيماً لا يطاق. فأخذ المسلمون يبحثون عن مكان آمن يلجئون إليه، ويتخلصون به من عذاب المشركين واضطهادهم.
في ظل تلك الظروف التي يعانى منها المسلمون، نزلت سورة الكهف، تلك السورة التي أخبرت بقصة الفتية الذين فروا بدينهم من ظلم ملِكِهِم، وأووا إلى كهف يحتمون به مما يراد بهم. كان فى هذه القصة تسلية للمؤمنين، وإرشاداً لهم إلى الطريق الذي ينبغي عليهم أن يسلكوه للخروج مما هم فيه. لقد عرضت قصة أصحاب الكهف نموذجاً للإيمان فى النفوس المخلصة، كيف تطمئن به، وتؤثره على زينة الحياة الدنيا ومتاعها، وتلجأ إلى الكهف حين يعز عليها أن تقيم شعائر دينها وعقيدتها، وكيف أن الله تعالى يرعى هذه النفوس المؤمنة ويقيها الفتنة، ويشملها برحمته ورعايته {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} (الكهف:16).
لقد وضَّحت هذه القصة للمؤمنين طريق الحق والباطل، وبيَّنت أنه لا سبيل إلى للالتقاء بينهما بحال من الأحوال، وإنما هي المفاصلة والفرار بالدين والعقيدة، وانطلاقاً من هذه الرؤية القرآنية أمر النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة، وقد وصفت أم المؤمنين أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم هذا الحدث فقالت: (لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، والفتنة فى دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً - أي جماعات - حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً) رواه البيهقى بسند حسن.
وهكذا هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة فى السنة الخامسة للبعثة، وكان هذا الفوج مكوناً من اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، كان في مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وكان رحيلهم تسللاً تحت جنح الظلام حتى لا تشعر بهم قريش، فخرجوا إلى البحر عن طريق جدة، فوجدوا سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، ولما علمت قريش بخبرهم خرجت فى إثرهم وما وصلت إلى الشاطئ إلا وكانوا قد غادروه فى طريقهم إلى الحبشة، حيث وجدوا الأمن والأمان، ولقوا الحفاوة والإكرام من ملكها النجاشى الذي كان لا يظلم عنده أحد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه و سلم .
وهكذا هيأ الله لعباده المؤمنين المستضعفين المأوى والحماية من أذى قريش وأمَّنهم على دينهم وأنفسهم، وكان في هذه الهجرة خير للمسلمين، إذ استطاعوا - فضلاً عن حفظ دينهم وأنفسهم - أن ينشروا دعوتهم، ويكسبوا أرضاً جديدة تكون منطلقاً لتلك الدعوة، ومن كان مع الله كان الله معه نسأل الله تعالى أن ينصر دينه وعباده المؤمنين في كل مكان والحمد لله رب العالمين.


]






المقال "السيرة الشاملة للرسول عليه الصلاة والسلام الجزء الثاني" نشر بواسطة: بتاريخ:
karim rabah

الهجرة الثانية للحبشة



ذكرنا في مقال سابق أن هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة كانت خيراً للمسلمين وفتحاً جديداً للإسلام، استطاع المسلمون فيها أن يكسبوا أرضاً جديدة تكون منطلقاً لدعوتهم، واستطاعوا أن يقيموا شعائر دينهم بأمان.
غير أن هذه الهجرة لم تدم طويلاً، حيث رجع المسلمون من أرض هجرتهم إلى مكة بعد أن بلغهم أن قريشاً هادنت الإسلام وتركت أهله أحراراً، إلا أنهم بعد وصولهم إلى مكة وجدوا الأمر على خلاف ما ظنوه، فاضطروا إلى الهجرة مرة ثانية. فما خبر هذه الهجرة ؟ هذا ما سوف نعرفه في الأسطر .
إن الإشاعة التي بلغت المؤمنين فى أرض الهجرة تركت أثرها في قلوبهم، فقرروا العودة إلى وطنهم، وكان سبب هذه الإشاعة أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج إلى الحرم وفيه جمع كبير من قريش، فقام فيهم وأخذ يتلو سورة النجم، ولم يكن المشركون قد سمعوا القرآن سماع منصت من قبل، لأن أسلوبهم المتواصل كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضاً {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت:26).
فلما فاجأهم النبي صلى الله عليه و سلم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذنهم القرآن في روعة بيانه، وجلالة معانيه، أعطوه سمعهم، فلما قرأ النبي صلى الله عليه و سلم قوله تعالى {فاسجدوا لله واعبدوا} سجد، فلم يتمالك المشركون أنفسهم فسجدوا. وفى الحقيقة كانت روعة الحق قد صدَّعت العناد والكِبْر الذي فى نفوسهم، فخروا ساجدين، فبلغ هذا الخبر مهاجري الحبشة، ولكن فى صورة تختلف تماماً عن صورته الحقيقية، حيث بلغهم أن قريشاً أسلمت، فرجعوا إلى مكة آملين أن يعيشوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين قومهم وأهليهم آمنين، فلما وصلوا قريباً من مكة عرفوا حقيقة الأمر، وأن ما وصلهم من الأخبار غير صحيح، بل إن قريشاً أشد وأنكي على المسلمين من ذي قبل، فرجع من رجع منهم، ومن دخل مكة دخلها مستخفياً، أو فى جوار رجل من المشركين، ثم زاد المشركون فى تعذيب هؤلاء العائدين وسائر المسلمين، ولم ير رسول الله صلى الله عليه و سلم بداً من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى، فهي المنفذ الوحيد والمخرج بعد الله تعالى – من بلاء قريش - لما يتميز به ملِكُها النجاشى من عدل ورحمة وحسن ضيافة، وقد وجده المسلمون كما قال النبي صلى الله عليه و سلم (لا يظلم عنده أحد).
فقرر المسلمون الهجرة مرة ثانية، ولكن الهجرة في هذه المرة كانت أشق وأصعب من سابقتها، حيث تيقظت قريش لها، وقررت إحباطها، لكن المسلمين كانوا قد أحسنوا التخطيط والتدبير لها ويسَّر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن تدركهم قريش، وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً، وثماني عشرة امرأة. وكما كان فى الهجرة الأولى خير للإسلام والمسلمين ففي هذه الهجرة كان الخير أكثر وأكثر، فازداد عددهم وانتشر خبرهم، وكانت أرض الحبشة التي أمِنوا فيها على أنفسهم ودينهم منطلقاً للدعوة الإسلامية وملاذاً لكل مضطهد وطريد من المسلمين، والله يؤيد دينه وعباده المؤمنين بما شاء من جنوده التي لا يعلمها إلا هو، فله الحمد فى الأولى والآخرة وصلى الله وسلم على سيدنا محمد و آله.


الهجرة إلى الطائف



كما نعلم إن أحزان النبي صلى الله عليه و سلم وهمومه زادت وتضاعفت بوفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وعمه أبى طالب في عام واحد، فـخديجة كانت خير ناصر ومعين له - بعد الله تعالى -، وعمه كان يحوطه ويحميه، ويحبه أشد الحب، وضاعف من حزنه صلى الله عليه و سلم أنه مات كافراً.
وتستغل قريش غياب أبي طالب فتزيد من إيذائها للنبي صلى الله عليه و سلم وتضيَّق عليه، وكان أبو لهب من أكثر الناس كراهية للدعوة وصاحبها صلى الله عليه و سلم ، حتى إنه كان يلاحق النبي صلى الله عليه و سلم في موسم الحج، وفى الأسواق يرميه بالحجارة ويقول: إنه صابئ كذاب، ويحذر الناس من إتباعه، فضاقت مكة على رسول الله صلى الله عليه و سلم واشتد به الحال، فخرج إلى الطائف راجياً ومؤملاً أن تكون أحسن حالاً من مكة، وأن يجد من أهلها نصرة، فماذا لقي ؟
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه و سلم هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد ؟ قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي عن ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) متفق عليه.
والقصة تقول إنه حينما ذهب الرسول صلى الله عليه و سلم إلى الطائف بدأ بسادات القوم الذين ينتهي إليهم الأمر، فكلمهم في الإسلام ودعاهم إلى الله، فردوا عليه رداً قاسياً، وقالوا له: اخرج من بلادنا، ولم يكتفوا بهذا الأمر، بل وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم فتبعوه يسبونه ويصيحون به، ويرمونه بالحجارة فأصيب عليه الصلاة السلام فى قدميه حتى سالت منها الدماء، واضطروه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة من سادات أهل الطائف، فجلس في ظل شجرة يلتمس الراحة والأمن، وصرف أصحاب البستان الأوباش والسفهاء عنه، ثم أمرا غلاماً لهما نصرانياً يدعى عداساً وقالا له: خذ قطفاً من العنب واذهب به إلى هذا الرجل، فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم مد يده إليه وقال بسم الله ثم أكل، فقال عداس إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : من أي البلاد أنت ؟ قال أنا نصراني من نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال عداس: وما يدريك ما يونس ؟ قال عليه الصلاة والسلام ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي، فأكب عداس على يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وقدميه يقبلهما، فقال ابنا ربيعة، أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك! فلما جاء عداس قالا له ويحك ما هذا: قال لهما ما فى الأرض خير من هذا الرجل، فحاولا تهوين أمر النبي عليه الصلاة والسلام، كأنما عز عليهما أن يخرج النبي صلى الله عليه و سلم من الطائف بأي كسب.
ورجع النبي صلى الله عليه و سلم إلى مكة ليستأنف خطته الأولى فى عرض الإسلام وإبلاغ الرسالة للوفود والقبائل والأفراد، وزادت قريش من أذاها لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، وخلعت جلباب الحياء والمروءة، فراح بعض رجالاتها يلاحقونه عليه الصلاة والسلام في الأسواق والمواسم يرمونه بالكذب، ويحذرون العرب من إتباعه.
وفى الختام فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يستسلم لهذا الواقع الأليم، بل صبر وصابر، وواصل جهاده في الدعوة متوكلاً على الله، فكان عاقبة صبره نصر من الله، وفتح عظيم تتفيأ الأمة ظلاله، وتنعم بنور الرسالة الخاتمة، فجزاه الله خير ما جزى به نبياً عن أمته والحمد لله رب العالمين





الهجرة إلى المدينة



تطلق "الهجرة" على الترك والتخلي عن الشيء، فالمهاجر من هجر ما نهى الله عنه - كما في الحديث الشريف -، وهى بهذا المعنى مطلقة من قيود الزمان والمكان، إذ بوسع كل مسلم أن يكون مهاجراً بالالتزام بأوامر الله والهجر للمعاصي.
لكن الهجرة النبوية تتعلق بترك الموطن والانخلاع عن المكان بالتحول عنه إلى موطن آخر ابتغاء مرضاة الله رغم شدة تعلق الإنسان بموطنه وألفته للبيئة الطبيعية والاجتماعية فيه وقد عبّر المهاجرون عن الحنين إلى مكة بقوة وخاصة فى أيامهم الأولى حيث تشتد لوعتهم.
وتحتاج الهجرة إلى القدرة على التكيف مع الوسط الجديد "المدينة المنورة" حيث يختلف مناخها عن مناخ مكة فأصيب بعض المهاجرين بالحمى، كما يختلف اقتصادها الزراعي عن اقتصاد مكة التجاري، فضلاً عن ترك المهاجرين لأموالهم ومساكنهم بمكة. لكن الاستجابة للهجرة كانت أمراً إلهياً لابد من طاعته، واحتمال المشاق من أجل تنفيذه. فقد اختار الله مكان الهجرة، كما في الحديث الشريف "رأيت فى المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب إلى أنها اليمامة، فإذا هي المدينة يثرب".
وما أن بدأ التنفيذ حتى مضت مواكب المهاجرين تتجه نحو الموطن الجديد.. دار الهجرة.. وقد شاركت المرآة فى حدث الهجرة المبارك منهن أم سلمة هند بنت أبي أمية التي تعرضت لأذى بالغ من المشركين الذين أرادوا منعها من الهجرة ثم استلوا ابنها الرضيع منها حتى خلعوا يده.. لكنها صممت على الهجرة ونجحت فى ذلك رغم الأخطار والمصاعب.
وخلدت أسماء بنت أبى بكر ذكرها فى التاريخ وحازت لقب ذات النطاقين عندما شقت نطاقها نصفين لتشد طعام المهاجرَين، رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبى بكر رضي الله عنه وقد تتابعت هجرة النساء فى الإسلام حتى شرعت في القرآن {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} (الممتحنة:10)، ونزلت الآيات الكريمة تأمر بالهجرة وتوضح فضلها منذ السنة التي وقعت فيها لغاية سنة 8 هـ عندما أوقفت الهجرة بعد فتح مكة وإعلان النبي صلى الله عليه و سلم ذلك بقوله (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا).
والأمر بالهجرة إلى المدينة لأنها صارت مأرز الأيمان وموطن الإسلام، وشرع فيها الجهاد لمواجهة الأعداء المتربصين بها من قريش واليهود والأعراب، فكان لابد من إمدادها بالطاقة البشرية الكافية مما يفسر سبب نزول القرآن بهذه الآيات الواعدة للمهاجرين: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} (البقرة:218)، {والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة} (النحل:41)، {ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغماً كثيراً وسعة} (النساء:100).
وقد حاز المهاجرون شرفاً عظيماً في الدنيا فضلاً عن ثواب الله ووعده الكريم، فقد اعتبروا أهل السبق فى تأسيس دولة الإسلام فنالوا رضي الله والقربى منه {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم} (التوبة:100). وهكذا خلد الله ذكرهم فى القرآن الذي يتعبد المسلمون بتلاوته إلى آخر الزمان.
الهجرة من سنن النبيين عليهم السلام
لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم أول نبي يهاجر في سبيل الله بل مر بهذا الامتحان كثير من الأنبياء.. وقد أخبرنا الله تعالى بأن إبراهيم عليه السلام هاجر من موطنه إلى مصر وغيرها داعياً إلى التوحيد، وأن يعقوب ويوسف عليهما السلام هاجرا من فلسطين إلى مصر وأن لوطاً هجر قريته لفسادها وعدم استجابتها لدعوته. وأن موسى عليه السلام هاجر بقومه من مصر إلى سيناء فراراً بدينه من طغيان فرعون.
وهكذا فان الهجرة من سنن النبيين، وقد كانت هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتمة لهجرات النبيين. وكانت نتائجها عميقة شكلت منعطفاً تاريخياً حاسماً.
نتائج الهجـرة
لقد أدت الهجرة إلى قيام دولة الإسلام في المدينة، والتي أرست ركائز المجتمع الإسلامي على أساس من الوحدة والمحبة والتكافل والتآخي والحرية والمساواة وضمان الحقوق، وكان الرسول صلى الله عليه و سلم هو رئيس هذه الدولة وقائد جيوشها وكبير قضاتها ومعلمها الأول. وقد طبق الرسول صلى الله عليه و سلم شريعة الإسلام، وكان القرآن ينزل بها منجماً، فكان الصحابة يدرسون ما ينزل ويطبقونه على أنفسهم، ويتعلمون تفسيره وبيانه من النبي صلى الله عليه و سلم فتكون جيل رباني تمكن من الجمع بين عبادة الله وعمران الحياة وعمل تحت شعار: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا. وفي خلال عقد واحد توحدت معظم الجزيرة العربية في ظل الإسلام، ثم انتشر فى خلال عقود قليلة تالية ليعم منطقة واسعة امتدت من السند شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً حيث آمن الناس بالإسلام، واستظلوا بشريعته العادلة وأقاموا حضارة زاهرة آتت أكلها قروناً طويلة في حقول التشريع والتربية وعلوم الكون والطبيعة، فكانت أعظم آية. والحمد لله رب العالمين


تكوين الدولة الإسلامية
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار



إن رباط الأخوة في الإسلام رباط عظيم ولذلك حرص النبي صلى الله عليه و سلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار. ويبدو أن النبي صلى الله عليه و سلم استمر يؤاخى بين أصحابه مؤاخاة ومواساة وتعاون وتناصح دون أن يترتب على ذلك حق التوارث بين المتآخين، وهكذا وردت أخبار تفيد أنه آخى بين أبى الدرداء وسلمان الفارسي مع أن سلمان أسلم بين أحد والخندق مما جعل الواقدي البلاذرى ينكران ذلك. وكذلك أنكر ابن كثير مؤاخاة جعفر بن أبى طالب لمعاذ بن جبل لأن جعفر قدم فى فتح خيبر أول سنة 7هـ. ومثل ذلك مؤاخاة الحتات مع معاوية بن أبي سفيان؛ لأن معاوية أسلم بعد فتح مكة سنة 8هـ. كذلك فإن الحتات قدم المدينة فى وفد تميم في العام التاسع للهجرة، وإذا اعتبرنا المؤاخاة مستمرة إلا ما يتعلق بحق التوارث الذي أبطل بعد بدر فلا موجب لهذا الاعتراض والإنكار الذي أبداه المؤرخون تجاه هذه الروايات.
وكذلك إذا قبلنا وقوع مؤاخاة دون إرث قبل وبعد تشريع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فإن ذلك سوف يفسر الالتباس الذي وقع فيه ابن إسحق عندما أورد في قائمة المتآخين خبر مؤاخاة النبي صلى الله عليه و سلم لعلى ومؤاخاة حمزة لزيد بن حارثة وكلهم مهاجرون فى حين أن سائر الأسماء الأخرى التي وردت فى قائمته توضح أن المؤاخاة كانت بين مهاجرين وأنصار.
وقد عقب ابن كثير على مؤاخاة النبي صلى الله عليه و سلم لعلي ومؤاخاة حمزة لزيد بأنه لا معنى لهذه المؤاخاة إلا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم لم يجعل مصلحة على إلى غيره فإنه كان ممن ينفق عليه الرسول صلى الله عليه و سلم من صغره. وألا أن يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة فآخاه بهذا الاعتبار.
ولكن هذا التعليل الذي قدمه ابن كثير غير مقبول لأن المصادر ذكرت مؤاخاة حمزة ابن عبد المطلب لكلثوم بن الهدم وغيره، كما ذكرت مؤاخاة زيد بن حارثة لأسيد بن حضير. كما أن المؤاخاة بين الرسول صلى الله عليه و سلم وعلي تقتضى التوارث، والنبي لا يورث كما جاء فى الحديث، كما أن البلاذرى ذكر مؤاخاة على لسهل بن حنيف. وكذلك فإن البلاذرى ذكر وقوع مؤاخاة بين النبي صلى الله عليه و سلم وعلى وحمزة وزيد بمكة.
ونخلص من ذلك إلى أن هذه المؤاخاة بين النبي صلى الله عليه و سلم وعلى وبين حمزة وزيد إذا كانت قد وقعت، فإنها مؤاخاة تقتضى المؤازرة والرفقة دون حقوق التوارث وأنها جرت فى غير الوقت الذي أعلن فيه نظام المؤاخاة في دار أنس بن مالك.
وأخيراً فإن المؤاخاة التي شرعت بين المؤمنين باقية لم تنسخ سوى ما يترتب عليها من توارث فإنه منسوخ، وبوسع المؤمنين فى كل عصر أن يتأخوا بينهم على المواساة والاتفاق والنصيحة ويترتب على مؤاخاتهم حقوق أخص من المؤاخاة العامة بين المؤمنين. والله نسأل أن يؤلف بين المؤمنين ويجعلهم أخوة متحابين متناصرين. والحمد لله رب العالمين.
karim rabah

المجتمع الإسلامي في المدينة




لقد تغلب المهاجرون على المشكلات العديدة، واستقروا في الأرض الجديدة، مغلبين مصالح العقيدة ومتطلبات الدعوة، بل صارت الهجرة واجبة على كل مسلم لنصرة النبي صلى الله عليه و سلم ، ومواساته بالنفس، حتى كان فتح مكة فأوقفت الهجرة؛ لأن سبب الهجرة ومشروعيتها نصرة الدين وخوف الفتنة من الكافرين. وأبرز نتائج الهجرة تتمثل في قيام الدولة الإسلامية الأولى، وهى أول دولة أقامها نبي فى الأرض، وذلك لأن دين الإسلام يجمع ما بين العبادة والتشريع والحكم.
وقد هيأت الهجرة الأمة والأرض لإقامة دولة نموذجية تهدف إلى إيجاد ظروف ملائمة لتحقيق العبودية الخالصة لله وحده، ولبناء مجتمع تسوده الأخوة الدينية وينأى عن العصبية الجاهلية، وكانت طاعة الله ورسوله هي الوسيلة لبناء المجتمع والدولة على أسس جديدة. وفيما يلي توضيح لنتائج الهجرة وقيام الدولة الإسلامية.
من أسس الدولة
أ- تحقيق العبودية الخالصة لله وحده.
أحدث الإسلام نقلة عميقة وشاملة في عالم العقيدة، فلم يعد ثمة مجال لعبادة الأصنام والكواكب والأوهام، ولا لممارسة السحر والكهانة، ولا للتشبث بالتمائم والرقى، بل اتجه سكان الدولة الإسلامية إلى توحيد الله فى التصور والعبادة والسلوك، فالله واحد {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (البقرة:163)، وهو {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} (الأنعام3) ولا يشبه شيئاً من المخلوقات، وقد وصف نفسه بصفات السمع والبصر والعلم والحياة وغيرها من الصفات التي وردت فى القرآن والسنة؛ لكن هذه الصفات لا تماثل صفات المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} (الشورى).
وأحدث الإسلام انقلاباً جذرياً في حياة الفرد والجماعة، بحيث تغيّر سلوك الأفراد اليومي وعاداتهم المتأصلة تغيراً كلياً، كما تغيرت مقاييسهم وأحكامهم ونظرتهم إلى الكون والحياة. وكذلك تغيرت بنية المجتمع بصورة واضحة، فاختلفت مظاهر وصور، وبرزت معالم وظواهر جديدة. فالنقلة كبيرة بين ما كان عليه الإنسان فى جاهليته، وما صار إليه فى إسلامه. إذ لم يعد العربي متفلتاً من الضوابط فى معاملاته وعلاقاته الاجتماعية، بل صار منضبطاً بضوابط الشريعة الإسلامية فى جزئيات حياته من أخلاق وعادات كالنوم والاستيقاظ، والطعام والشراب، والزواج والطلاق، والبيع والشراء، ولا شك أن العادات تتحكم فى الإنسان، ويصعب عليه التخلص منها واكتساب عادات وصفات جديدة، ولكن ما ولّده الإسلام فى أنفسهم من إيمان عميق مكّنهم من الانخلاع من الشخصية الجاهلية بكل ملامحها واكتساب الشخصية الإسلامية بكل مقوماتها، فاعتادوا على عبادة الله تعالى وحده، بالصلاة والصوم والحج والزكاة والجهاد، وقصده بكل أعمال الخير الأخرى، والتقرب إليه بالذكر والشكر، والصبر على البلوى، والإنابة إليه، والدعاء إليه، والرغبة فى فضله ورحمته، وامتلاء القلب بالتوحيد والإخلاص والرجاء.
واعتادوا أيضاً على استحضار النية لله في نشاطهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ لان العبادة في الإسلام مفهومها واسع يمتد لكل عمل يقوم به الإنسان إذا قصد به وجه الله وطاعته. وإلى جانب الاعتياد على الطاعات، فإن المسلمين تخلصوا من العادات المتأصلة التي نهى عنها الإسلام كشرب الخمر والأنكحة الجاهلية والربا ومنكرات الأخلاق من الكذب والخيانة والغش والغيبة والحسد والكبر والظلم... وهكذا فإن الدولة الإسلامية التي أقامها رسول الله صلى الله عليه و سلم في المدينة كونت مجتمعاً ربانياً يسعى أفراده فى العمران الأدبي والمادي للأرض ويتطلعون إلى ما عند الله من النعيم المقيم.
ب- الأخوة ووحدة الصف.
إن الأساس الذي بنيت عليه العلاقات في مجتمع الدولة الإسلامية هو الإخوة الإيمانية التي حددتها الآية الكريمة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات)، فالأخوة الصادقة لا تكون إلا بين المؤمنين، وهم يقفون صفاً واحداً للجهاد فى سبيل الله ولبناء قوة الدولة العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك برص صفوفهم، والتعاون فيما بينهم، وشيوع المحبة والألفة فى مجتمعهم. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف:4).
ج- الطاعة بالمعروف فى المنشط والمكره.
اتسم جيل الصحابة رضوان الله عليهم بالطاعة الكاملة لأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه و سلم ، فقد كانوا يقرؤون القرآن وكأنه ينزل على كل واحد منهم - رجلاً كان أم امرأة - غضاً طرياً، وكانت لغة التخاطب بينهم هي الفصحى التي نزل بها القرآن، وقد أعانهم ذلك على فهم الخطاب الإلهي بسهولة ويسر، كما ولّد الأثر القوى فى نفوسهم، وسرعة الاستجابة التامة لتعاليمه وأحكامه. فكان جيل الصحابة قادراًُ على التخلص من عادات الجاهلية وتقاليدها وأعرافها، حتى لو كانت العادات قد استقرت منذ قرون، وصارت عرفاً مشروعاً وتقليداً مقبولاً. فمن ذلك أنه لما نزل قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90) خرجت الأنصار بدنان الخمر إلى الأزقة وأراقوها وقالوا: انتهينا ربنا انتهينا ربنا. وشرب الخمر الذي أقلعوا عنه كان عادة متأصلة فى حياة الفرد والمجتمع، والخمر الذي أراقوه كان مالاً ضحوا به تسليما لله رب العالمين.
ومن ذلك أن قوماً من المسلمين وفدوا على رسول الله صلى الله عيه وسلم فى أول النهار، فإذا هم عراة حفاة يلبسون أكسية الصوف وعليهم السيوف، فتغيّر وجه الرسول صلى الله عليه و سلم إشفاقا عليهم، وجمع الناس، وحثّهم على الصدقة، وقرأ عليهم الآيات في ذلك ومنها {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد} (الحشر:18) فتتابع الناس حتى جمعوا كومين من طعام وثياب، فتهلّل وجه الرسول صلى الله عليه و سلم فرحاً بمبادرة الصحابة إلى معونة إخوانهم وطاعة ربهم وكذلك بادرت الصحابيات إلى طاعة أمر الله تعالى، قالت عائشة رضي الله عنها: "يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}(النور:31) شققن مروطهنّ فاختمرن به" رواه البخاري.
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يلتزمون بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثم للخلفاء الراشدين من بعده، وكان للبيعة قيمة عالية، فهي التزام حر، وتعاقد بين الطرفين، وقد دللّوا دائما على صدق التزامهم فلبّوا داعي الجهاد، وخاضوا غمار المعارك فى أماكن نائية عن ديارهم، ودفن كثير منهم فى أطراف الأرض، وما عرفوا القعود عن الجهاد، والحفاظ على الكرامة والذود عن العقيدة. فجزاهم الله عن هذه الأمة وهذا الدين خير الجزاء، وسلك بنا سبيلهم، وحشرنا في زمرتهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والحمد لله أولاً وآخرا




الغزوات الإسلامية
مقدمة




شرع الجهاد لأول مرة في العهد المدني، وقبل ذلك كان المسلمون مأمورين بعدم استعمال القوة في مواجهة المشركين وأذاهم، فكان الشعار المعلن (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة) (النساء:77). فقد كانت الدعوة في المرحلة المكية جديدة مثل النبتة الصغيرة تحتاج إلى الماء والغذاء والوقت لترسخ جذورها وتقوى على مواجهة العواصف، فلو واجهت الدعوة آنذاك المشركين بحد السيف فإنهم يجتثونها ويقضون عليها من أول الأمر، فكانت الحكمة تقتضى أن يصبر المسلمون على أذى المشركين، وأن يتجهوا إلى تربية أنفسهم ونشر دعوتهم.

قد أسلفنا ما كان يأتي به كفار مكة من التنكيلات والويلات ضد المسلمين، وما فعلوا بهم عند الهجرة مما استحقوا لأجلها المصادرة والقتال، إلا أنهم لم يكونوا ليفيقوا من غيهم، ويمتنعوا عن عدوانهم، بل زادهم غيظاً أن فاتهم المسلمون ووجدوا مأمناً ومقراً بالمدينة، فكتبوا إلى عبد اللَّه بن أبي بن سلول، وكان إذ ذاك مشركاً بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة - فمعلوم أنهم كانوا مجتمعين عليه، وكادوا يجعلونه ملكاً على أنفسهم لولا أن هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وآمنوا به - كتبوا إليه وإلى أصحابه المشركين يقولون لهم في كلمات باتة "إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم باللَّه لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم".
وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد اللَّه بن أبى ليمتثل أوامر إخوانه المشركين من أهل مكة - وقد كان يحقد على النبي صلى الله عليه وسلم، لما يراه أنه استلبه ملكه يقول عبد الرحمن بن كعب فلما بلغ ذلك عبد اللَّه بن أبى ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم، فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر ممّا تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا.
امتنع عبد اللَّه بن أبى بن سلول عن إرادة القتال عند ذاك، لما رأى خوراً أو رشداً في أصحابه، ولكن يبدو أنه كان متواطئاً مع قريش، فكان لا يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين، وكان يضم معه اليهود، ليعينوه على ذلك، ولكن تلك هي حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تطفئ نار شرهم حيناً بعد حين.
إعلان عزيمة الصد عن المسجد الحرام
ثم إن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمراً فنزل على أمية بن خلف بمكة، فقال لأمية انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، نهارا، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل ألا أراك تطوف بمكة آمناً وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما واللَّه لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له سعد ورفع صوته عليه أما واللَّه لئن منعتني هذا لأمنعك ما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة.
قريش تهدد المهاجرين
ثم إن قريشاً أرسلت إلى المسلمين تقول لهم لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم. ولم يكن هذا كله وعيداً مجرداً فقد تأكد عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكائد قريش وإرادتها على الشر ما كان لأجله لا يبيت إلا ساهراً، أو في حرس من الصحابة فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: سهر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: من هذا؟ قال: سعد بن أبى وقاص، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما جاء بك ؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم نام.
ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي بل كان ذلك أمراً مستمراً، فقد روى عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحرس ليلاً حتى نزل {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ } [المائدة: 67] فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من القبة، فقال: يا أيها الناس انصرفوا عنى فقد عصمني اللَّه عز وجل.
ولم يكن الخطر مقتصراً على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بل على المسلمين كافة، فقد روى أبي بن كعب، قال: لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه.
الإذن بالقتال
في هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة، والتي كانت تنبىء عن قريش أنهم لا يفيقون عن غيهم ولا يمتنعون عن تمردهم بحال، أنزل اللَّه تعالى الإذن بالقتال للمسلمين، ولم يفرضه عليهم قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج:39).
وأنزل هذه الآية ضمن آيات أرشدتهم إلى أن هذا الإذن إنما هو لإزاحة الباطل، وإقامة شعائر اللَّه، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]. والصحيح الذي لا مندوحة عنه أن هذا الإذن إنما نزل بالمدينة بعد الهجرة، لا بمكة، ولكن لا يمكن لنا القطع بتحديد ميعاد النزول.
نزل الإذن بالقتال ولكن كان من الحكمة إزاء هذه الظروف - التي مبعثها الوحيد هو قوة قريش وتمردها - أن يبسط المسلمون سيطرتهم على طريق قريش التجارية المؤدية من مكة إلى الشام، واختار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبسط هذه السيطرة خطتين:
الأولى: عقد معاهدات الحلف أو عدم الاعتداء مع القبائل التي كانت مجاورة لهذا الطريق، أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة، وقد أسلفنا معاهدته صلى الله عليه وسلم مع اليهود وكذلك كان عقد معاهدة الحلف أو عدم الاعتداء مع جهينة قبل الأخذ في النشاط العسكري، وكانت مساكنهم على ثلاث مراحل من المدينة، وقد عقد معاهدات أثناء دورياته العسكرية وسيأتي ذكرها.
الثانية: إرسال البعوث واحدة تلو الأخرى إلى هذا الطريق.
الغزوات –أسبابها و مشروعيتها
بعد أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكان بها اليهود من بنى قينقاع وقريظة والنضير، أقرهم عليه الصلاة والسلام على دينهم وأموالهم، واشترط لهم وعليهم شروطاً، وكانوا مع ذلك يظهرون العداوة والبغضاء للمسلمين، ويساعدهم جماعة من عرب المدينة كانوا يظهرون الإسلام وهم في الباطن كفار؛ وكانوا يعرفون بالمنافقين، يرأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، وقد قبل صلى الله عليه وسلم من هاتين الفئتين (اليهود والمنافقين) ظواهرهم، فلم يحاربهم ولم يحاربوه بل كان يقاوم الإنكار بالحجج الدامغة والحكم البالغة فلم يكن صلى الله عليه وسلم يقاتل أحداً على الدخول في دين الله، بل كان يدعو إليه ويجاهد في سبيله بإقامة ساطع الحجج وقاطع البراهين.
ولكن لما كانت قريش أمة معادية له، مقاومة لدعوته، معارضة له فيها، وقد آذته وآذت المسلمين وأخرجتهم من ديارهم، واستولت على ما تركوه بمكة من الأموال، وآذت المستضعفين الذين لم يقدروا على الهجرة مع رسول الله وأصحابه، أذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم وقتال كل معتد وصادٍّ عن الدعوة.
فأول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك مصادرة تجارة قريش التي كانوا يذهبون بها إلى الشام والتي يجلبونها منه. وكان بعد ذلك - عندما تدعو الحال لقتال من يقف في وجه الدعوة من قريش أو غيرهم - يخرج إلى القتال بنفسه ومعه المقاتلون من المسلمين، وتارة يبعث مع المقاتلين من يختاره لقيادتهم، وقد سمي المؤرخون ما خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه (غزوة) سواء حارب فيها أم لم يحارب، وسموا ما بعث فيها أحد القواد (سرية).


الجهاد في سبيل نشر الإسلام




فلما قامت للإسلام دولة في المدينة، شرع الله الجهاد دفاعاً عن النفس فقط في أول الأمر: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج:39)، (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190) ثم أذن بمبادرة العدو للتمكين للعقيدة من الانتشار دون عقبات، ولصرف الفتنة عن الناس ليتمكنوا من اختيار الدين الحق بإرادتهم الحرة (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة:193).
وقد التزم المقاتلون المسلمون بضوابط الحق والعدل والرحمة، فسجل التاريخ لهم انضباطهم الدقيق، حيث لم ترد أية إشارة إلى القيام بمجازر، أو سلب الأموال، أو الاعتداء على الأعراض في المناطق المفتوحة مما يقع عادة في الحروب المدنية خلال مراحل التأريخ المختلفة. وقبل ذلك كله لم تفرض العقيدة الإسلامية بالقوة على سكان المناطق المفتوحة، بل سمح لأهل الكتاب بالمحافظة على أديانهم الأخرى، ولا زالوا يعيشون بأديانهم حتى الوقت الحاضر بسبب السماحة الدينية.
وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يبين للمسلمين ضرورة اقتران النية بالجهاد، وأن لا يكون الدافع إلى القتال الحصول على الغنائم، أو الرغبة في الشهرة والمجد الشخصي، أو الوطني، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) رواه مسلم.
بل لا بد من إخلاص النية لله بأن لا يقترن القصد من الجهاد بأي غرض دنيوي لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له وابتغى به وجهه. وفى الحديث عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (تضمَّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي، وإيماناً بي، وتصديقاً برسلي، فهو عليَّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كلم ـ جرح ـ يكلم في سبيل الله إلا ما جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه مسك، والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عنى، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل) رواه مسلم.
ومن الصعب تقديم النماذج الكثيرة التي توضح أثر هذه التوجيهات النبوية على نفسية المقاتل المسلم، ولكن يمكن اختيار نموذجين لمقاتلين من عامة الجند، فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمسلمين أثناء القتال في غزوة أحد: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فسمعه عمير بن الحمام الأنصاري فقال: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض! ؟ قال: نعم فقال بخ بخ ـ كلمة تقال لتعظيم الأمر في الخير ـ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر وقاتلهم حتى قتل) رواه مسلم. فهذا النموذج الأول.
أما الثاني: فقد صح أن أعرابياً شهد فتح خبير، أراد النبي صلى الله عليه و سلم أثناء المعركة أن يقسم له قسماً وكان غائبا، فلما حضر أعطوه ما قسم له، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا ـ وأشار إلى حلقه ـ بسهم فأدخل الجنة. قال: (إن تصدق الله يصدقك) قال: فلبثوا قليلا، ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فكفنه النبي صلى الله عليه و سلم بجبته، وصلى الله عليه ودعا له، فكان مما قال: (اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيدا، وأنا عليه شهيد) مصنف عبد الرازق.
فهذه الرواية شاهد قوى على ما يبلغه الإيمان من نفس أعرابي ألف حياة ألغزوه والسلب والنهب في الجاهلية فإذا به لا يقبل ثمنا لجهاده إلا الجنة، فكيف يبلغ الإيمان إذاً من نفوس الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟!.
أقسام الجهاد
يكون الجهاد بالكلمة، وبالمال، وبالنفس، وفيما يلي تعريف بكل قسم من هذه الأقسام:
الجهاد بالكلمة
إن المقصود بالجهاد بالكلمة هو الدعوة إلى الله تعالى، ببيان العقيدة والشريعة وتربية الناس ويفقههم، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتوجيه النصح للحاكم، وخاصة إذا كان جائراً، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) رواه أبو داود، وقال: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله). أبو داود وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وذلك لأن الناس تهاب الظالم ولا تنصحه مما يؤدى إلى الطغيان والانحراف عن الاستقامة والمخالفة لدين الله، فكان أجر من يسعى إلى تقويم الحاكم الجائر عظيماً، لأن عودته إلى الاستقامة وطاعة الله تعالى تؤدى إلى إحياء فريضة الجهاد في المجتمع، وتهيئة الأمة روحياً وجسمياً وفكرياً لمتطلباته.
الجهاد بالمال
حض الإسلام على الجهاد بالمال، لما له من أثر كبير في تجهيز الجيوش بالسلاح والأدوات والتدريب، مما يقتضى صرف الأموال الوفيرة، وتقوم الدولة في الوقت الحاضر بهذا الواجب، فتصرف من الموارد العامة على إعداد الجيوش، وعند الحاجة، أو نقص الموارد، فيجب على أغنياء المسلمين دعم الجهاد بأموالهم، قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة:41). وقد سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي الناس أفضل ؟ فقال: (مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) رواه البخاري.
الجهاد بالنفس
يحرص الإسلام على السلم، ويدعو الناس إلى الدخول فيه، كما يحرص على هدايتهم، بالبيان والترغيب، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلى رضي الله عنه. حين وجهه لقتال يهود خبير: (لئن يهدى الله بك رجلا خبر من أن يكون لك حمر النعم) رواه مسلم.
ولكن الإسلام يحث أيضا على القتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الدين، أو الدفع عن أرض المسلمين إذا هوجموا من عدوهم، والجهاد بالنفس من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين، إلا عندما تغزى أرض المسلمين فإنه يصبح فرض عين يقوم به كل قادر على القتال، قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15).
وخاتمة القول: إن الجهاد شرع في الوقت المناسب، وشرع لإقامة الحق والعدل، ونشر رسالة الإسلام وإزاحة العوائق من أمام هذه الرسالة لتصل للناس أجمعين.



اسم العضو:
سؤال عشوائي يجب الاجابة عليه

الرسالة:


رابط دائم

مواضيع مشابهة:
السيرة الشاملة للرسول عليه الصلاة والسلام الجزء الأول

Powered by vBulletin Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
جميع الحقوق محفوظة © fmisr.com منتديات نجوم مصرية