لقد قرأت فى كتاب ( عاشوا فى خيالى )
ريشة فى الهواء
ريشة فى الهواء هائمة فى الخلاء تحملها الرياح من مكان الى مكان.. تحط هنا أو هناك ..فوق عشب
أخضر مغسول بماء الندى , أو فوق الوحل .. تقع فى يد إنسان رقيق المشاعر ، فيمسكها برفق ويحفظها
فى كتاب .. أو تقع تحت أقدام إنسان مهرول فيدوسها بالأقدام .
هذا هو أنت .. وأنا ، وكل إنسان فى الوجود !.. ريشة فى هواء الكون تحملها رياح الأقدار وتتحكم فى مصائرها ، فتحمل لها السعادة أو الشقاء .
هل شاهدت ذلك الفيلم الأمريكي الجميل " فورست جامب " ؟
إنه يحكى قصة صبى شبة متخلف ذهنياً ، بطئ الفهم ، محدود الذكاء .. أحبته أمه حباً صادقاً ، وحرصت على تعليمه فى المدارس العامة وليس فى مدار المتخلفين ، وأشعرته دائما بأنه طفل عادى ، لا يختلف عن الآخرين فى شئ .. لكن زملاءه – كعادة الأطفال غالبا فى أعمارهم الصغيرة – لا يقدرون له ظروفه الخاصة .. ولا يتورعون عن السخرية منه والاستهزاء به ، ما عدا طفلة صغيرة اسمها " جينى "، ظروفها العائلية مؤلمة ، تترفق به وتعامله معاملة طيبة فتصبح صديقته الوحيدة فى الحياة بعد امه .
وهو صبى مسالم ، سليم الطوية ، يحب الدنيا والناس ، ولا يحمل ضغينة تجاه أحد ، ولا يتأخر عن مساعدة أى إنسان ، فلماذا يضطهده هؤلاء الملاعين ؟.
لقد اعتادوا أن يتحرشوا به .. ويطاردونه ليضربوه ؛ فلا تملك صديقته الطفلة إلا أن تهتف به صارخة كل مرة (( اجر .. فورست .. إجر..))،ولأنها صديقته .. إذن فهى تريد مصلحته .. ومادامت تطلب منه الجرى ؛ إذن فليجر ، رغم الجهاز التعويضي الذى يستعين به على تقويم ساقيه ، فراراً من الأولاد المشاغبين ؛ فيكون اضطهاد هؤلاء الصبية الملاعين له سبباً خفياً لخير عميم كان ينتظره فى عالم الغيب .
لقد تخلص من هذا الجهاز الى الأبد ، وأصبح يمشى ويجرى كغيره من الأطفال . وكما كان اضطهاد هؤلاء الصبية له فى طفولته سبباً فى تخلصه من ساند الساقين ، فلقد كان اضطهادهم له وهو طالب بالمدرسة الثانوية سبباً آخر فى الخير لم يخطر له على بال .. فلقد كان يتمشى ذات أصيل مع صديقته الوحيدة "جينى " ، فظهر نفس هؤلاء الملاعين مرة أخرى وبعد ان كانوا يطاردونه فى طفولته بالدراجات ، فيجرى بكل قوته ويسبقهم .. جاءوا يطاردونه هذه المرة وهم يركبون سيارة .. فصرخت صديقته كالعادة : إجر فورست إجر ، فجرى بكل قوته ، ولاحقه الآخرون بسيارتهم ، فاضطر الى ان يدخل ملعباً للرجبى ، أى ( الكرة الأمريكية ) خلال مباراة رسمية ، واخترق المستطيل الأخضر بسرعته الخارقة فسبق كل اللاعبين .. وأذهل مدرب الفريق !.. إن لعبة الرجبى تعتمد على السرعة المطلقة .. فاللاعبون يسلمون الكرة لأسرعهم ، ويطلبون منه أن يجرى بأقصى سرعة ليصل بها الى خط النهاية ، ويحاول لاعبو الفريق الخصم أن يعرقلوه خلال الطريق ، ويستردوا منه الكرة قبل أن يعبر الخط !.
إذن .. هاتوا هذا الشاب الاحمق الذى يجرى بسرعة رهيبة !. أصبح فورست لاعبا أساسيا فى
فريق المدينة للرجبى .. يسلمه اللاعبون الكرة ويقولون له : إجر فورست ! ؛ فيصدع بالأمر ،ويجرى كالفهد .. وهيهات أن يلحق به أحد .
لقد كان زملاء المدرسة يؤذونه ، ويطاردونه .. فإذا بهذا الأذى يطلق إحدى مواهبه ، ويحمل إليه الخير العميم ..فقد أصبح نجما من نجوم الكرة الامريكية " الرجبى " . وبفضل تفوقه فى هذه اللعبة ؛ ألحقوه بالجامعة مجاناً ..وساعدوه على نيل شهادته منها ، وأعطوه مرتباً كبيراً ، ومكافآت سخية لايدرى هو من أين جاءته ، ولا لماذا يعطونها له ؟.
بعد الجامعة ، أدى الخدمة العسكرية .. وذهب مع القوات الامريكية الى فيتنام ، وحين نزل فى المطار وركب سيارة الأتوبيس العسكرية ليذهب الى وحدته ، لم يرحب أحد من الجنود الأمريكيين بجلوسه الى جانبه ، سوى عسكرى زنجى الملامح اسمه (( بوبا )) فجلي الى جواره .. وأصبح منذ تلك اللحظة صديقة الوحيد فى الحياة بعد أمه وبعد جينى ، يتدربان معاً ويتناولان طعامهما ويتسامران ، أو يتحدث "بوبا " على الأصح ويسمع فورست ، لأنه لايتكلم عادة إلا لضرورة قصوى . وبوبا عامل على مراكب صيد الجمبرى ، ويحلم بأن يشترى بمكافأة نهاية الخدمة العسكرية مركباً صغيرأ لصيد الجمبرى ، ويعرض على فورست أن يشاركه فى هذا المشروع بعد انتهاء خدمتهما ، فيجيبه بالموافقة !. لماذا وافق ؟ . وهل صيد الجمبرى هو طموحه فى الحياة ..؟. هل أجرى حسابات اقتصادية للمشروع ؛ فأغرته بالموافقة عليه ؟. لاشئ من ذلك لكن بوبا صديقه ، ومادام صديقة ؛ فهو يريد الخير له ، كما أنه يعرف أكثر منه .. إذن فهو موافق بلا مناقشة ، ولاحسابات ، ولاتخطيط مسبق !. وهل كان يخطط من فبل لأن يكون لاعب كرة معروفا ، وهو الذى لم ياعبها قبل ذلك ، ولم يكن يعرف حتى قانونها ؟ .
إنه ريشة فى الهواء تحركها رياح الأقدار كيفما تشاء . ومادام سليم الطوية ، ويحب الخير للآخرين ، فلماذا يخاف من المستقبل ؟.
وبسبب صداقته لبوبا . . أصبح فورست – شبه المتخلف ذهنياً – بطلا قومياً فى أمريكا ، من حيث لم يرغب أيضاً ولم يخطط لذلك .. فلقد وقعت وحدته العسكرية فى كمين فى أدغال فيتنام ، وانهال القصف الوحشي عليها ، فكاد يبيدها عن أخرها . ونجا فورست بسرعته المذهلة فى العدو . . ولكن أين بوبا ؟ . إنه لا يزال فى دائرة القصف والموت ، وهو صديقه ، فهل يتخلى عنه ؟. فليعد إذن الى الكمين ، ويتعرض لخطر الموت لينقذ صديقه . ورجع بالفعل ، وقبل أن يجد بوبا سمع أنينا خافتا من إحدى الحهات ؛ فتوجه الى مصدره ، فإذا به أحد زملائه الجنود الجرحى ، فلم يتردد فى حمله على كتفيه والعودة به عدوا ، الى أن وضعه فى مكان آمن .. ورجع لينقذ بوبا ، فسمع صراخ جندي آخر يستنجد به فأنقذه وجرى به الى الأمان ورجع من جديد لينقذ صديقه .. فأنقذ ثالثا ، ورابعا ، وخامسا ،بينهم الضابط قائد فصيلته .. قبل أن يعثر على بوبا فى النهاية مصابا إصابة خطيرة ويرجع به الى الأمان .. فلا يطول بقاؤه على قيد الحياة . ويموت بوبا على صدره ويبكيه صديقه الأمين بحرارة تذهله حتى عن إصابته هو نفسه برصاصة فى ظهره !.
لقد أراد إنقاذ حياة صديقه ؛ فأنقذ ستة من زملائه من الموت ، وأصبح بطلا قومياً . وفوجئ وهو فى المستشفى بمن يبلغه بأنه قد حصل على ميدالية الشرف العسكري ، وبأنه سيكون أحد من يستقبلهم رئيس الولايات المتحدة ويصافحهم عند عودته لبلاده !.
ولم تكن هذه المرة الأولى التى يستقبله فيها رئيس الولايات المتحدة مع غيره ويصافحه فيها بنفسه ، ولن تكون أيضا الأخيرة ، فقبل ذلك استقبله جون كنيدي ضمن لاعبي فريق ( كل الأمريكيين ) الذى يضم أفضل لاعبي الرجبى فى البلاد !. وسوف يستقبله الآن ليندون جونسون ، ويصافحه كبطل من أبطال الحرب ، وسوف يستقبله أيضاً بعد فترة أخرى ريتشارد نيكسون ، الرئيس الذى جاء بعد جونسون ضمن فريق تنس الطاولة ، الذى كان أول فريق رياضي يزور الصين فى بداية الاتصالات بين أمريكا والصين!.
لكن ما صلته بتنس الطاولة ، وقد كان لاعب كرة أمريكية ؟.
لقد تعلمها بالصدفة أيضا وهو مقيم بالمستشفى العسكرى ليقطع بها أوقات فراغه الطويلة . قال له الضابط : امسك المضرب هكذا .. اضرب الكرة هكذا .. ففعل .. فإذا به يجيد اللعبة خلال وقت قصير ويتفوق فيها ، وإذا به يؤدى فيها ألعابا استعراضية تثير متعة المشاهدين ، فليعب بمضربين ، ولا يخطئ الكرة مهما كانت بعيدة ، واذا بهم بعد تنظيم جولة مباريات استعراضية له فى الوحدات العسكرية ، يختارونه ضمن فريق الولايات المتحدة الذى كلف بالسفر الى الصين فى اول لقاء رياضى بين البلدين بعد طول قطيعة ! ، مع انه لم يخطط لذلك ، ولم يكن يحلم به .. لكن يكفيه فقط أنه شاب طيب القلب ، سليم الطوية ، يؤدى كل ما يكلف به من مهام بكل ماستطيعه من اجادة أما النتائج فلا شأن له بها ! .
لقد عاد الى بلاده واشترى بكل ما كان معه مركباً صغيراً لصيد الجمبرى ، وراح يجوب به البحر باحثاً عن رزقه ، فلا تخرج الشباك إلا بحذاء قديم ، أو بعض الأعشاب البحرية . وقبل أن ييأس من المشروع نهائياً انضم إليه مساعد جديد ؛ فشد من أزره واغراه بالاستمرار .. إنه الضابط الشاب الذى انقذه فورست من الموت فى فيتنام وبترت ساقاه وخرج الى الحياة كارها كل شئ ، حتى فورست نفسه الذى أنقذه من الموت لكى يعيش معاقاً ، وقد كان أحرى به أن يتركه لمصيره المحتوم !.
ولقد وعده بأن يعمل مساعداً له ذات يوم إذا اشترى سفينة الصيد التى كان يحلم بها . وقد اشتراها بالفعل ، فجاء ليفى بوعده .
ويهب إعصار ذات ليلة فتفزع كل مراكب صيد الجمبرى الى المرفأ ، تحتمى به منه ، أما مركب فورست والضابط " دان " فتبقى فى البحر وسط الإعصار الرهيب لسبب عجيب !. إن الضابط " دان " تتملكه رغبة انتحارية خفية فى الموت ، والتخلص من أعاقته وحياته المحطمة ، أما فورست ، فلا يسمح له مستوى ذكائه بتقدير حجم الخطر الذى بترصده فى الإعصار ؛ فيستجيب لدان حين يرفض العودة للمرفأ فى بداية الإعصار . ولا عجب فى ذلك .. فهو صديقه ، وما دام كذلك ، فلابد أنه يريد له الخير !. . وبدلا من ان تتحقق رغبة دان الخفية فى الموت يصمد المركب الصغير للإعصار ، فى حين تتحطم كل مراكب صيد الجمبرى الأخرى وهى راسية بالمرفأ !.
وتخرج الشباك لأول مرة فى مركب فورست بصيد وفير ، وينفرد فورست وحده بالعمل فى صيد الجمبرى لفترة غير قصيرة ، فى حين تتوقف المراكب الأخرى ؛ فيربح الكثير والكثير ؛ ويؤسس – بمساعدة "دان " – شركة للصيد ؛ ويمتلك 12 مركباً يديرها عنه " دان " الذى استرد الآن رغبته فى الحياة !.
ويسمى فورست شركته باسم ( بوبا – جامب ) لأنه قد أشرك معه فى ملكيتها أسرة بوبا صديقه الأسود صاحب الفكرة ، وأعطى لأمه وأخوته أرباح أسهمه !.
أما صديقة الطفولة والصبا والشباب " جينى " ، فقد أطلق اسمها على كل مراكب الصيد : جينى 1 ، جينى 2 ، جينى 3 ، وهكذا .. وأما هى ، فلتطلب لها الحياة حيث تكون ... فلقد جالت هى الخرى جولتها فى الحياة ، وأدمنت المخدرات بعض الوقت ، وأحبت غيره من الشبان ، مع أحتفاظها بصداقته ، وتعرضت لأذاهم فى بعض الأحيان ؛فكان فورست لا يحتمل رؤية أحد يؤذيها ، ويفتك بمن يتعرض لها بالأذى .
وكانت قد انجبت طفلا من فورست ، وأخفت عنه أمره ، وانتقلت الى مدينة بعيدة ، وعاشت مع طفلها .. ثم مرضت مرضا خطيراً ، فقررت أن تستريح على كتف الإنسان الوحيد فى الحياة الذى أحبها بصدق ، ولم يحب سواها ؛ فاستدعته اليها وطلبت منه أن يتزوجها ، ورجعت للإقامة معه فى بيته ، ثم ماتت ، تاركة وراءها طفلها مع أبيه .
فهل عندك تفسير لكل ما شهدته حياة هذا الشاب الطيب من توفيق وصعود ثراء ، رغم نقص قدراته الذهنية وقلة حيلته ، سوى أننا جميعا ريشة فى الهواء ، تتلاعبب بها رياح الحياة ؟!.
إن هذه القصة خيالية ، لكن شبيهاتها وأشباه فورست فى الحياة كثيرون . والتسليم بهذه الحقيقة لايتعارض أبداً مع التسليم بدور الإرادة والكفاح والإصرار فى صنع النجاح ، وانما يضيف فقط الى هذه العوامل الأساسية عامملاً أهم وأعمق أثراً ، وهو عامل التوفيق الإلهى ، وضرورة التسليم بالإرادة الإهية فى كل ما يصيبنا من خير أو فشل .
ألست تعد أحيانا عدََته .. وتخطط له جيداً ، وتجرى له كل الحسابات الدقيقة ، ثم تفاجأ فى النهاية بنتائج مخالفة تماما لكل ما سعيت إليه ، رغم الإعداد الجيد والتخطيط المحكم ؟ . وهل يعنى ذلك ألا نخطط ، وألا نجرى حساباتنا لكل شئ قبل الإقدام عليه ؟ أبداً .. إنه يعنى فقط ان ندرس جيداً كل الاحتمالات ، ونجرى كل الحسابات ، ولكن بغير ان نبالغ كثيراً فى التحسب للأشياء ، وبغير أن نغالى كثيراً فى التحوط والتردد والتحسب ، ثم نحزن بعد ذلك حتى الموت لكل فشل يصيبنا ، كأنما نتجاهل عامل التوفيق الإلهى .. ونتجاهل أيضا أن هناك دائما ما يسمى (( بالألطاف الإهية )) ، وهو ذلك التدبير الإلهى ، الذى قد يأتينا أحيانا بما نكره ، ليحقق لنا فيما بعد أجمل ما نحب ، لو صبرنا على ما كرهنا .. ولو لم نفقد إيماننا بأن كل ما يصيب المؤمن خير ؛ .. إن أصابه خير شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابه شر صبر .. فكان خيرا له ، كما يقول مضمون الحديث الشريف .
ولأن بعض البشر قد لايصدقون ذلك فى بعض الأحيان ، ويتصورون فى أنفسهم القدرة على كل شئ ، ويتوهمون أنهم أحق وحدهم بالنجاح والتوفيق ، لأنهم " الأذكى " و" الأشطر " والأكثر مكراً ، فإن الله سبحانه وتعالى قد يضع أمامهم وامامنا أحياناً أمثال فورست جامب فى الحياة ، الذى نجح ، من حيث لم يرد النجاح ، ولا كان يقدر عليه ، و أثرى من حيث لم يطلب الثراء ، ولا كان يملك أسبابه ، أو يقدر عليه لكى يذكرنا بهذه الحقائق كلها الى أن نقف عند " حد الأدب " حين نرى هذه النماذج فى الحياة ؛ فلا نتساءل كيف نجحوا وفشلنا .. أو كيف أثروا .. وعجزنا ونحن الأذكى .. والأقدر .. والأجدر بما نالوا من أسباب الحياة ، وإنما نعمل ونكافح ، وندعو الله أن يؤيد عملنا بالتوفيق من عنده ، ثم نرضى بعد ذلك بالنتائج كيفما جاءت ، نواجه الحياة والبشر بصدر سليم ، فنطلب الخير لأنفسنا وللآخرين ، ولا نستكثر على أحد ما سخت عليه به الحياة ، لأنه سبحانه مالك الملك وواهب كل شئ .
ألم يقل الحق سبحانه وتعالى فى مضمون الحديث القدسى : ( وعزتى وجلالي لأرزقن من لا حيلة له .. حتى يتعجب أصحاب الحيل ) . إذن فكيف كان أصحاب الحيل سيتعجبون ويسلمون بالإرادة العليا التى فوق إرادتهم ، لو لم يكن فى الحياة أمثال فورست ممن يرزقون وينجحون ويوفقون فى حياتهم ، وهم بلا حيلة ، سوى توفيق ربهم لهم ؟ .