الحاجة إلى قدوة:
" مهما يكن من أمر إيجاد منهج تربوي متكامل، ورسم خطة محكمة لنمو الإنسان، وتنظيم مواهبه وحياته النفسية والانفعالية والوجدانية والسلوكية، واستنفاد طاقاته على أكمل وجه..
مهما يكن من ذلك كله، فإنه لا يُغني عن وجود واقع تربوي يمثّله إنسان مربٍّ؛ يحقق بسلوكه وأسلوبه التربوي كل الأسس والأساليب والأهداف التي يراد إقامة المنهج التربوي عليها ".1
القدوة المثلي للمسلمين هو محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أمرنا الله - تعالى - بالاقتداء به، والتأسي بطريقه ومنهجه.
قال الله – تعالى -: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ". (الأحزاب: الآية 21).
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلى درجات القدوة، فقوله وعمله وتقريره سنة مأمورون بالسير على هداها، والاقتداء بها، وتطبيقها في واقع الحياة.
" والإسلام لا يعرض هذه القدوة للإعجاب السالب، والتأمل التجريدي في سبحات الخيال. إنه يعرضها عليهم ليحققوها في ذوات أنفسهم، كلٌّ بقدر ما يستطيع أن يقتبس، وكل بقدر ما يصبر على الصعود.
وهكذا تظل القدوة في الإسلام شاخصة ماثلة للعيان تتدفّق حيويتها ولا تتحول إلى خيال مجرّد تهيم في حبّه الأرواح، دون تأثير واقعي، ولعلّ الحكمة في ذلك ما أودعه الله في طبيعة النفس الإنسانية من استعداد للمحاكاة ".2
وقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الاقتداء به، والتمسك بهديه والالتزام بطريقه، فمن ذلك:
عن مالك بن الحُويرث - رضي الله عنه - قال: أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلةً فظنّ أنا اشتقنا أهلنا.
وسألنا عمّن تركْنَا في أهلنا، فأخبرناه، وكان رفيقاً رحيماً فقال: " ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم، ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلّي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذّنْ لكم أحدكم ثم ليؤمّكم أكبركم ".3
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: " لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعليّ لا أحجّ بعد حجّتي هذه ".4
وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: إن هذه موعظة مودّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟
قال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشي فإنه مَنْ يعشْ منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمَنْ أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهتدين، عضوا عليها بالنواجذ ".5
" وهكذا علّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رائد التربية الإسلامية أن يقصد المربي إلى تعليم طلابه بأفعاله، وأن يلفت نظرهم إلى الاقتداء به، لأنه إنما يُقتدى برسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن يحسن صلاته وعبادته وسلوكه بهذا القصد فيكسب ثواب مَن سنَ سنة حسنة إلى يوم القيامة ".6
وعندما تتأمل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم تجد:
" لقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - عجيبة من العجائب، عظمات... لا تُحد.
شخوص كثيرة مجتمعة في شخص واحد، كل واحد منها متكامل في ذاته كأنه متخصص في جانبه منقطع له.. ثم تجتمع الشخوص كلها - على تكامل كل منها - فتتكامل على نطاق أوسع وتتناسق في محيطها الشامل، وتتألف منها نفس واحدة تجمع كل النفوس، وتجمعها في توازن واتّساق.
روح شفّافة عظيمة. وقوة حيوية فيّاضة تعدل وحدها أشدّ الناس حيوية لو كان متخصصاً فيها بلا زيادة!
ورجل سياسة يُشيّد أمة من الفتات المتناثر، فإذا هي بناء ضخم لا يطاوله شيء في التاريخ. ويمنح هذا البناء من وقته وفكره وروحه وجهده ومشاعره ما يشغل- وحده - حياة كاملة بل حيوات.
ورجل حرب يضع الخطط ويقود الجيوش ويحارب وينتصر.. كقائد متخصص كل همّه القتال متفرغاً عن كل ما عداه.
وأب وزوج ورب أسرة كبيرة كثيرة النفقات.. نفقات النفس والفكر والشعور فضلاً عن نفقات المال.. كرجل متخصص للأبوة على أعلى نسق شهدته الأرض، ومتخصص للأسرة لا يشغله عنها شاغل من الحياة.
وعابد متحنث لربه، كرجل منقطع للعبادة، متخصص لأدائها، لا تصله بالأرض رابطة، ولا يشغله همّ من الهموم، ولا تجيش في نفسه نوازع، ولا تتحرك في كيانه رغبات.
ومع ذلك كله فهو قائم على أعظم دعوة شهدتها الأرض، الدعوة التي حققت للإنسان وجوده الكامل، وتغلغلت في كيانه، فمدّته على أقصى اتساع.
عظمات.. لا تُحد.
كل هذه الشخوص المتفرقة مجموعة في شخصه، مجموعة على تناسق وتوافق واتزان، كل منها يأخذ نصيبه كاملاً من نفسه ومع ذلك لا يميل، لأن طاقات أخرى عظيمة توازنه في كل اتجاه.
ذلك هو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، النور الكوني الذي بهر العالمين.
وحق للناس أن يحبوه كل ذلك الحب، ويعجبوا به ويتبعوه.
ولقد كانت حكمة الله - سبحانه - من بعثه على هذه المتكاملة الشاملة العظيمة، كحكمته في إنزال القرآن على هذا النهج الشامل المعجز العظيم، فكان محمد- في كونه آية كونية - كفءً لهذا القرآن.. وكان خُلقه القرآن.
وكان قدوة للناس في واقع الأرض..يرونه، وهو بشر منهم تتمثّل فيه هذه الصفات كلها وهذه الطاقات، فيصدّقون هذه المبادئ الحية لأنهم يرونها رأي العين، ولا يقرؤونها في كتاب! ويرونها في بشر، فتتحرك لها نفوسهم، وتهفو لها مشاعرهم ويحاولون أن يقبسوا قبسات من الرسول.. كل بقدر ما يطيق أن يقبس، وكل بقدر ما يحتمل كيانه الصعود.. لا ييأسون ولا ينصرفون.. ولا يدعونه حلماً مترفاً لذيذاً يطوف بالأفهام.. لأنهم يرونه واقعاً يتحرك في واقع الأرض.. ويرونه سلوكاً عمليّاً لا أماني في الخيال.
لذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل. وكان مربياً وهادياً بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام الذي ينطق به سواء في ذلك القرآن المنزل، أو حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -.7
قلت: " وإذا قصر بصرك أن ترى قدوة في واقعك، فارفع بصرك قليلاً لترى القدوة العظمى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
تجزئة القدوة
كمال القدوة نادر إلا في محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا تعنى ندرته عدم وجوده، أو عدم انتصاب قدوات جزئية تتكامل من خلال الأداء الجماعي.
ومن ذلك:
قدوة في تحصيل العلم ومعرفة طرائقه تحصيلاً وأداءً.
قدوة في التضحية والإنفاق في سبيل الله.
قدوة في الحركة الدؤوبة والحرص على مصالح الدعوة والأمة.
قدوة في الصبر على متطلبات الطريق، ومشقات الأداء.
وبانتظام القدوات في طريق الدعوة تتكامل ، ولا ينفكُّ بعضها عن بعض، والله المستعان.
الفصام النكد:
وقد حذّر الله من الفصام النكد الذي قد يحدث بين القول والعمل، حيث لا بد من التوافق والتطبيق بين القول والعمل.
قال – تعالى -: " يأيها الذين أمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ". (الصف: الآية 2-3).
وورد في السنة ما يؤكد ذلك، ومنه:
عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يُجاء بالرجلِ يومَ القيامة فيُلقى في النار، فندلقُ أقتابه في النار، فيَدُور كما يَدور الحمارُ برحاه، فيجتمعُ أهل النار عليه، فيقولون: أيْ فلان ما شأنك؟ أليس كنتَ تأمرنا بالمعروفِ، وتنهانا عن المنكر؟ قال: كُنتُ آمركم بالمعرُوفِ ولا آتيه، وأنهاكم عنِ المنكر وآتيه ".8
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مررتُ ليلةَ أُسريَ بي على قوم تُقرضُ شفافههم بمقاريض من نار، قال: قلتُ: مَنْ هؤلاء؟ قالوا: خطباءُ مِنْ أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون ".9
ولا يعني هذا أن مَنْ لم ينفذ الأمر لا يدعو إليه.
قال سعيد بن جبير - رحمه الله -: " لو كان المرء لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر.
وعندما سمع الإمام مالك - رحمه الله - هذا القول قال: صدق، ومَن هذا الذي ليس فيه شيء".؟10
يقول أبو عبد الرحمن السلمي: " حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل.. قالوا: فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً ".11
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " كان الرجل منا إذا تعلّم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيها والعمل بهن