د. صلاح سلطان
بقلم: أ. د. صلاح سلطان
أقضي هذه الأيام الأولى من رمضان في اليابان، وأشعر أن له مذاقًا خاصًّا في قلبي وعقلي؛ لأن فيه موافقاتٍ ومفارقاتٍ لرمضان في بلاد الإسلام، فعلى حين تصدر التعليمات كل عام إلى السادة العلماء من وزارات الأوقاف والشئون الإسلامية للتخفيف في صلاة التراويح؛ حتى ذكر الشيخ كشك- رحمه الله- أن إمامًا قرأ في ركعة جزءًا من آية فقال: ﴿إِنَّا نَصَارَى﴾ (المائدة: من الآية 114) وإن كانت مبالغةً فهي لا تخفي جزءًا من الحقيقة المُرَّة؛ أن القرآن يُحاصر في بلاد الإسلام، حتى في المساجد وصلاة التراويح؛ التي جُعل فيها القيام لأجل القرآن.
وعندما أحسَّ سيدنا عمر رضي الله عنه أن التخفيف بدأ يدخل على صلاة التراويح في قراءة القرآن زادها من 8 ركعات إلى 20؛ لتطول قراءة القرآن.
أمَّا نحن فقد اختصرنا الآيات والركعات؛ لكي ندرك المسلسلات وأخبار الفنانات والراقصات والفوازير، وفي أحسن الأحوال البرامج الإسلامية.
لكنِّي في اليابان كنت مع المجلس الإسلامي الياباني الذي يجمع رؤساء المراكز الإسلامية؛ لتقرير رؤية واحدة في بدء الصيام، وبالرغم من تأخُّر الإعلان أكثر من ساعة عن وقت صلاة العشاء فإننا صلَّينا التراويح بجزء ونصف، تخلَّلتها خاطرة إيمانية، ويكاد يندر في حدود ما زرت حتى الآن أن تكون الصلاة في المراكز الإسلامية في اليابان بأقل من جزء، وإن كان في النفس ألم؛ لأن كثيرًا من المسلمين هنا يعشقون القرآن رسمًا وصوتًا وتلاوةً، لا فهمًا وإدراكًا وتدبرًا؛ بسبب حاجز اللغة، وهم مع ذلك يصبرون على تلاوة طويلة للقرآن؛ رغبةً فيما عند الرحمن من الأجر والثواب ومنازل الجنان.
أمَّا المراكز الإسلامية في رمضان فهي خلية نحل 24 ساعةً، خاصةًَ في أيام العطلة، وفي اليابان الآن 4 أيام عطلة، جعلت المساجد في أوائل رمضان مشغولةً بالمعتكفين، والدروس والمحاضرات والدورات واللقاءات والأسئلة والإجابات والتخطيط للمستقبل، ومقابلة اليابانيين المتعطِّشين للإسلام، وكل غرفة- بالرغم من ضيقها- من غرف المركز الإسلامي فهي مشغولة بأعداد من الرجال أو النساء أو الولدان أو الإداريين، حتى المطابخ تعمل لإعداد وجبتي السحور والإفطار؛ حيث يفضِّل كثير من المسلمين أن يفطر ويتسحَّر مع إخوانه في المسجد؛ باعتبار هذه اللقاءات هي المجتمع الإسلامي الذي يصنعونه كأقلية وسط الأكثرية غير المسلمة.
أمَّا في بعض بلاد الإسلام، فقد صدرت التعليمات من وزارات الأوقاف بناءً على القرارات الأمنية بمنع الاعتكاف في المساجد؛ لتجفيف المنابع، وتفريغ الشباب لمشاهدة المسلسلات والبرامج، وفي بلد عربي واحد كانت تكلفة هذه البرامج والمسلسلات ما يزيد عن 150 مليون دولار، وهي برامج ملهية، فهي مهزلة حقيقية في رمضان!.
يؤسفني أن تكون المساجد خلية نحل في اليابان، وأن تكون مساجدنا أقلَّ عمارة من الأسواق، فبعد الصلاة تشكو الله كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ (البقرة: من الآية 114).
أيها السادة.. اسمحوا لنا أن نستورد عمارة المساجد من اليابان!، كما تستوردون السيارات والآلات والمعدات!.