الفصل الأول
لحظة الموت
لو صادفت يوما احتضار امرئ أمامك لعلمت تمام العلم ما لهذه اللحظة من روع وفزع وهلع وإن كنت لم تصادف فلك حق التخيل المشفوع بالمرارة ساعة انتظارك الحكم الإلهي بخروج روحك من بين ذرات بدنك وأنت تتحرك دون حراك ظاهري إلى طريق اللاإرادة واللااختيار فأنت الآن أمام ساحة الجبار. ولا تفوتك رحمته فها هو الرحمن الرحيم يذكرنا في كل وهلة بهذه الوهلة وفي كل لحظة نراه يذكرنا بهذه اللحظة فها هو سبحانه يقول " كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ " ( ) ويقول تعالى " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " ( ) ويقول تعالى " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ " ( ) وقوله تعالى "قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ " ( ) وغيرها من الآيات المنذرات من الموت ومن النهاية المقضية كما أن رسوله () لم تفته – وهو الذي لا ينطق عن الهوى – أن ينذرنا من الموت وعدم الاستعداد له فيقول () أكثروا ذكر هادم اللذات.. الموت( ) وقوله () فيما رواه الترمذي " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله ( ) وقوله () كفى بالموت واعظا وكفي باليقين غنى ( ) هل لنا إذا حجة بعد ما جاءنا النذير كلا بل حجتنا يومئذ داحضة وكيف لا وهو القائل في كتابه " فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ" ( )
فلقد جاءت لحظة الموت إذن وها نحن في عالم آخر بدايته هذه اللحظة وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( ) فها نحن والموت وجها لوجه لا مفر منه ولا ملجأ فلطالما تناسيناه وهو حتما ملاقينا فها نحن أمامه نراه عين اليقين وكيف لا وحواسنا قد أطلقت لها القدرة بينما إرادة الإنسان عليها قد سلبت فقدرة السمع قد قويت وكذلك قدرة الأبصار قد استطالت ملكاتها فأصبحنا نسمع ما لا يسمع من حولنا وكذا نرى ما لا يرى من هم حولنا. أصبحنا ندرك حقائقهم وليس فقط ظاهرهم لا موانع أمام العين فراحت تبصر ما وراء عوائقها. بل لم تقف قدرتها على رؤية المادة فأصبحت ترى ما وراء المادة فكل المخلوقات النورانية أصبحت محل رؤية فالملك تراه العين وكل رسل ربك. فها أنا الآن في معية الله وبجواري رسله وملائكته وبجواري عملي " فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ , وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ , وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ " ( ) وقوله سبحانه " كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ , وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ , وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ , وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ , إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ " ( ) فها هي النفس وقد بلغت عظام الحلق لا راقي ينفع ولا طبيب . فلا ريب هي لحظة الفراق.. هنا التفت ساقي بالأخرى فاجتثت الروح من بين ذرات البدن ليساق المرء إلى رب الروح والبدن وترك البدن لميقات ربك. لا سلطان ولا جاه وجاءت لحظة العدل فالكل سواسية منذ هذه اللحظة. الكل يخضع لإجراءات الغسل والتكفين لا محسوبية تمنع ولا جاه مسبق أو سلطان زائل يفرق. لا مال ولا كنز مهما بلغ يهشم مبدأ المساواة فالدنيا الدانية زالت وعدل العادل أذن ميقاته فلا حمى يحتمي ولا حجة يحتج فرجع إلى ربه كما خلقه لا أخذ أخذ ولا متاع " وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " ( ) وقوله تعالى " وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً " ( ) إذن يعود الأمر لأصله.
وساعة الاحتضار تجتمع فيها كل الحكم والعبر ويحار فيها كل الحكماء والفلاسفة. ففيها ينجلي عمل المرء ويبدو إما خيرا كان أم شرا منذ لحظة تكليفه وحتى لحظة منتهاه. واليوم لا دفاع جائز ولا مرافعة مقبولة " الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " ( ) فدفاع الدنيا والذي كان مقبولا حتى ولو اعتراه ظلما وبهتانا وغمطا للحقيقة لمجرد كونه دفاعا مرتبا ومؤثرا على هيئة القضاء اليوم لا يقبل وكيف لا فهيئة القضاء أحادية – هو الله – لا حاجب هناك ولا مانع فالخيط مقطوع والوصل موجود !! ( ) " اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً " ( ) ومنذ هذه اللحظة ليس للمرء من إرادته شيئا إذ تركها مع دنيا الأغيار وها هو يدخل مدخل الحياة السرمدية ليس له على نفسه من سلطان. لا ينفع من حياته الأولى – دار الاختيار – غير عمله أو ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به أما عدم كل هذا فلا ربح ربح مهمابلغ ربحه ولا كسب كسب مهما بلغ كسبه بل خسر وغرم. خسر حتى ولو كان ذا مال جمع وأعد مادام لم ينفقه في تجارة مع الله " يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ , كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ( ) بل خسر حتى ولو كان ذا بنين وولد طالما لم يكن بينهم ولد صالح يدعو له.." يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ , إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " ( ) فالمال ليس لنا منه إلا ما أنفقنا لطاعة الله ووجهه والولد ليس لنا منه إلا من علمنا الصلاح والإيمان بوحدانية الله فيدعو الله لنا بصلاحه فيقبل منه والعلم أيضا ليس لنا منه إلا ما كان فيه نفع للناس غير حاض على الانشغال بغير ذكر الله لقوله تعالى " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " ( ) وليس لنا أن نستأنس بغير ذكر الله فالذكر والزاد مهما كثر قليل والطريق مهما قرب بعيد والعاقبة والمآل شيء عظيم فهل لنا إذا من روحة وغدوة مع القهار الرحيم..
ومن الذين عقلوا الأمر وعرفوا – الكثير – ففطنوا إلى عمق القضية وأبعادها ومن هؤلاء الحكماء والشعراء من قال:
نصيبك مما تجمع الدهر كله............. رداءان تلوي فيها وحنوط
وقال اخر:
هي القنــاعة لا تبغي بها بدلا
انظر لمن ملك الدنيا باجمعها
فيها النعيم وفيهــا راحــة البدن
هل راح منها بغير القطن والكفن
• وعلى المرء ان يتذكر الموت وأشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله فيتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب ويتذكر أحوالهم ويتأمل كيف محا التراب الآن حسن صورهم وكيف تبددت أجزاءهم في قبورهم وكيف أرملوا نساءهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت منهم مساجدهم ومجالسهم وانقطعت آثارهم ويتذكر كيف كان يروح ويغدو وقد تهدمت رجلاه ومفاصله , وكيف كان ينطق وكيف أكل الدود لسانه وكيف كان يضحك وقد أكل الدود أسنانه وكيف كان يدبر لنفسه مالا يحتاج إليه إلى عشر سنين في وقت لم يكن بينه وبين الموت إلا شهرا وهو غافل عما يراد به حتى جاء الموت في وقت لم يحتسبه فانكشف له صورة الملك وقرع سمعه النداء إما بالجنة وإما بالنار .
• ولما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه " يا أبتاه إنك لتقول لنا: ليتني لقيت رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد. وأنت ذلك الرجل فصف لي الموت فقال: يا بني والله كأن جنبي في تخت وكأن السماء قد انطبقت على الأرض وأنا بينهما ؛ وكأني أتنفس من سم إبرة وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي. "( )
ولما حضرت هارون الرشيد منيته قال " احملوني إلى قبري ؛ فحملوه فاطلع فيه فأخذ يبكي حتى ابتلت لحيته.. ثم قال يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه. ( )
• وذكر القرطبي في التذكرة ما رواه البخاري عن النبي ( ) إن العبد إذا كان عند الموت قعد عنده شيطانان الواحد عن يمينه والآخر عن شماله فالذي عن يمينه على صفة أبيه يقول له , يا بني إني كنت عليك شفيقا ولك محبا ولكن مت على دين النصرانية فهو خير الأديان ؛ والذي عن شماله على صفة أمه تقول له: يا بني إنه كانت بطني لك وعاء وثدي لك سقاء وفخذي لك وطاء ولكن مت على دين اليهود فهو خير الأديان.. وعند استقرار النفس في التراقي والارتفاع تعرض عليه الفتن وذلك إبليس قد أنفذ أعوانه إلى هذا الإنسان خاصة وأستعملهم عليه ووكلهم به فيأتون المرء وهو على تلك الحال فيتمثلون له في صورة من سلف من الأحباب الميتين الباغين له النصح في دار الدنيا ؛ كالأب والأم والأخت والصديق الحميم فيقول له: أنت تموت يا فلان ونحن قد سبقناك في هذا الشأن فمت يهوديا فهو الدين المقبول عند الله تعالى فإن انصرف عنهم وأبى جاءه آخرون وقالوا له: مت نصرانيا فإنه دين المسيح وقد نسخ الله به دين موسى ويذكر له عقائد كل ملة فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه وهو معنى قوله تعالى " رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً " ( ) أي لا تزغ قلوبنا عند الموت وقد هديتنا من قبل هذا فإذا أراد الله بعبده هداية وتثبيتا جاءته الرحمة وقيل ؛ وهو جبريل عليه السلام فيطرد عنه الشياطين ويمسح الشحوب عن وجهه فيبتسم الميت لا محالة وكثيرا من يرى مبتسما في هذا المقام فرحا بالبشير الذي جاءه من الله تعالى فيقول: يا فلان أما تعرفني ؟ أنا جبريل وهؤلاء أعدائك من الشياطين.. مت على الملة الحنفية والشريعة الجليلة فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح منه بذلك الملك وهو قوله تعالى " وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " ثم يقبض ( )
• وينبغي على من حول المحتضر أن يلقنوه شهادة أن لا إله إلا الله لقوله ( ) " إذا احتضر الميت فلقنوه لا إله إلا الله فإنه ما من عبد يختم له بها عند موته إلا كانت زاده إلى الجنة " ( ) وقوله ( ) من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " ( ) ولا يجب الإلحاح في التلقين بالشهادة فيكفيه - أي المحتضر- أن يقولها مرة واحدة شريطة أن تكون آخر ما ينطق فإن تكلم بعدها لقن بها ثانية حتى تكون آخر ما ينطق ومن ثم فبامتناعه عن الكلام يكون قد دخل في عالم آخر ومعية أخرى هي معية الله. لا رحمة سوى رحمة الله فهو الرحمن الرحيم. فلا يستطيع احد ممن حوله يرفع عنه هذه المعاناة وهذه الآلام فلقد قالوا عن الموت والآمه الكثير. إن له أهوال جسام فسكراته والألم الذي يعاني منه عند خروج الروح من البدن شيء لا يطاق حتى قالوا أنه أشد من ضرب السيوف ونشر المناشير وقرض المقاريض لأنه يهجم على الإنسان ويستغرق في جميع أجزائه من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من المفرق إلى القدم ليستل الروح منها فلا تسأل عن كربة وألمه.. ولذلك لا يقدر على الصياح مع شدة الألم لزيادة الكرب حيث قهر كل قوة وضعف كل جارحة فلم يبق له قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبها خورا وغرغرة من حلقه وصدره وقد تغير لونه وقد جذب من كل عرق على حدة فالألم منتشر بداخله وخارجه حتى ترتفع الحدقتان إلى أعالي أجفانه وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان وتخضر أنامله فلا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجيا فتبرد أولا قدماه ثم ساقاه ثم فخذاه ولكل عضو سكرة وكربة بعد كربة حتى يبلغ بها للحلقوم فعند ذلك ينقطع عن الدنيا وأهلها وتعظم حسرة المفرط ويندم حيث لا ينفع الندم ( ) وصدق من قال: -
إن الحبيب مـن الأحباب مختلس
فكيف تفـرح بالــدنيـــا ولـذتهـــا
أصبحت يا غافلا في النقص منغمسا
لا يرحم المـوت ذا جهــل لعـــزتـه
كم أخـرس المـوت في قـبر وقفـت به
قـد كان قصـرك معمـورا لـه شـرف
لا يمنــع الموت بواب ولا حـرس
يـا من يعــد عليـه اللفـظ والنفـس وأنت دهـرك في اللـذات منغمس
ولا الـذي كان منــه العلـم يقتـبس
عـن الجـواب لسانا ما بـه خــرس
فقبرك اليوم في الأجداث منـدرس
• فالموت إذن هو حكيم الحكماء ومنذر المنذرين بل هو نذير من الله للإنسان قبل الرسل فقال () الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها( ) فإلى متى الانتظار وعدم الاستعداد والى متى نتناسى هذه الحقيقة فالعقد من عمر الإنسان يجر الآخر والعام يلتهم تاليه والموت يقترب منا يوما فيوم وساعة فساعة. ومهما بلغ بنا الأجل فإلى متى نستمر سنصل حتما إلى نهاية وما دامت النهاية واجبة فالعمل لها والاستعداد أوجب فيقول الله في الحديث القدسي الجليل " ابن آدم شاب شعرك وضعف بصرك وانحنى ظهرك ووهن عظمك فاستحى مني فإني أستحي منك ". وقبل أن أغادر هذا الموضع إلى غيره وحتى نتأكد من الدلالات السابقة للموت ليس أجل من ذكر أمر وفاته () والدلالات التي تبدو لنا منها خاصة وهو خير خلق الله إلى الله سبحانه وتعالى بل أحبهم إليه.