◄◄ العيب أن تعيش وزارة الإعلام فى دور «صاحب الرسالة» بينما يتواصل الإنفاق غير المدروس من خزانة المال العام
◄◄ تذكروا، وأنتم أصحاب الفكر والرسالة الوطنية أن البساط ينسحب من بين يدى تليفزيون مصر , وأن قنوات فقيرة وقليلة الحيلة, تتفوق على الإعلام الرسمى فى التأثير على الرأى العام
إذا كان المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، فإن الإيمان بقيم الإعلام وبحقيقة الرسالة التى يجب أن يقوم بها التليفزيون المصرى, قد سقطت تماما عن سياسات وزارة الإعلام، وعن خطط المهندس أسامة الشيخ، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون.
أخشى أن أيدى المهندس أسامة, أدمنت اللدغ من نفس الجحر، وتعاملت باستسهال غير مسبوق حتى سقطت فى نفس الهاوية دون أن يقف أحد للمحاسبة على كل ما جرى فى رمضان الماضى من حسابات مغلوطة، ولم يقف أحد أيضا ليتأمل ويفكر كيف يمكن أن ينجو تليفزيون مصر وإعلام مصر من انحدار الرسالة السياسية والاجتماعية من ناحية، والخسائر المالية من ناحية أخرى?.
هذه الأموال التى ينفق منها اتحاد الإذاعة والتليفزيون لها صاحب بكل تأكيد، وصاحب الأموال هو أنت وأنا من الرعايا الذين تستهلك أموالهم وضرائبهم على رسائل إعلامية, تقترب من مرحلة التخبط، وتفتقر إلى كل المعايير التى تحافظ على استقرار مصر أو أمنها الاجتماعى والسياسى, قبل أسابيع قليلة من الانتخابات البرلمانية، وأنت وأنا أيضا أصحاب هذه الأموال التى تنفقها وزارة الإعلام لتنافس المحطات الخاصة على المسلسلات والبرامج بلا رؤية قومية, وبلا خطة استراتيجية، وبلا منهج للعمل يساعد صناع السياسة فى الدولة، ثم بعد كل هذا الإنفاق الهستيرى، لا يستطيع التليفزيون أن يجمع ربع ما أنفقه فى خلال شهر رمضان، والنتيجة أننا أنفقنا نصف مليار جنيه على الأقل حسب تقديرات خبراء الإعلام وحسب حجم المسلسلات والبرامج التى جرى شراؤها بينما سوق الإعلانات لا يتجاوز سقفها فى الإنفاق 300 مليون جنيه فقط.
قد يخرج المسؤولون فى وزارة الإعلام ليقولوا إن الرقم ليس دقيقا، وإنهم أنفقوا أقل من ذلك عشرة ملايين، أو أن حجم الإعلانات فى السوق يزيد على هذا الرقم 20 مليونا، ولينخرطوا فى حوارات جانبية لتجرفنا عن أصل الموضوع، ولكى نقطع الطريق على هذا الجدل، فإننى أقطع هنا بأن التليفزيون المصرى بقنواته المتعددة، أنفق على شراء البرامج والمسلسلات أضعاف ما يمكن أن تحتمله السوق من إعلانات تجارية، ناهيك عن أن ثلاثة أرباع البرامج لا تساوى فى ساحة المعرفة أو الفكر أو الرسالة القومية أو حتى التسلية جناح بعوضة، فإنهم فى الوقت نفسه لم يحققوا أى نوع من الأرباح، بل تكبدوا خسائر فادحة لعدم بناء سياستهم فى الشراء على أسس منطقية أو تجارية، أو على رؤية للجدوى التى تعود على التليفزيون وعلى مصر كلها من وراء هذه الهرولة الرخيصة قيميا، والباهظة الثمن على دافعى الضرائب.
أنت تحتار بالفعل من هذه السياسة، كيف يمكن لرجل بخبرة المهندس أسامة الشيخ أن يشترى ما يقرب من 36 مسلسلا تليفزيونيا للعرض فى شهر واحد على باقة من القنوات مترامية الأطراف؟، ما الحكمة وما الميزان الضابط ومن جهة المحاسبة على كل ذلك؟، أخشى أن المنطق الذى تعاملت به وزارة الإعلام، يمكن أن يؤدى فى النهاية إلى هدم كل المنظومة التى يتأسس عليها الإعلام المصرى، وكل مصادر تمويل هذه المنظومة مما يؤدى إلى هدم المعبد على من فيه، والخاسر هو دافعو الضرائب.
ما الذى يفكر فيه قادة وزارة الإعلام حين يقررون التوسع فى القنوات على هذا النحو، ثم التوسع فى شراء المسلسلات بهذه الطريقة فى حين يقف التليفزيون المصرى بكل تاريخه فى ذيل قائمة القنوات المصرية الخاصة فى كل الدراسات العلمية حول ترتيب المشاهدة لهذه القنوات، ألا نخجل من أن ننفق من جيوب الناس كل هذه الأموال بلا عائد؟، ومن الذى قاد اتحاد الإذاعة والتليفزيون إلى شراء مواد إعلامية بما يقرب من 500 مليون جنيه، 360 مليونا منها ذهبت للمسلسلات، و140 مليونا أخرى ذهبت للبرامج، بأى حسبة اقتصادية نفذ الإعلامى الكبير أسامه الشيخ هذه السياسة؟!
الوزير وأسامة الشيخ يعلمان جيدا أن التقديرات التى وضعها الخبراء حول أوضاع السوق، أكدت أن نسبة الإنفاق الإعلانى ستنحصر بين 300 مليون و400 مليون جنيه فقط خلال شهر رمضان، سيتم تقسيمها بالتأكيد على قنوات التليفزيون المصرى وعلى القنوات الخاصة المصرية على النايل سات، وإذا اعتمدنا هذه الأرقام فإن نصيب التليفزيون المصرى لا يتجاوز هنا «حسبة 15 % أو 20 %» من حجم الإنفاق، خاصة أن قنواته تأتى فى المؤخرة بسبب تفوق قنوات القطاع الخاص الأخرى، ومن هنا فإن كل ما سيحصل عليه التليفزيون من عوائد لن يتجاوز 80 مليون جنيه فقط إن كان نصيبه 20 % من التقدير المتفائل للإنفاق، وهو 400 مليون جنيه.
وإذا كانت وزارة الإعلام واتحاد الإذاعة والتليفزيون يعلمان يقينا أن نصيبهما لن يتجاوز 80 إلى 100 مليون جنيه، فبأى معنى قاما بشراء بضاعة إعلامية تزيد على 500 مليون جنيه فى شهر واحد فقط؟، والمفاجأة الساحقة والصادمة والكارثية أن هذا التقدير المتفائل لم يتحقق، إذ تقلصت سوق الإعلانات هذا العام لتصل إلى 300 مليون جنيه، وهو ما يؤدى إلى تراجع نسبة التليفزيون إلى ما دون الـ60 مليون جنيه، وهو أمر يكشف عن عوار فكرى فى التخطيط والتنفيذ.
قد يخرج المهندس أسامة الشيخ ليقول لنا علنا إن التليفزيون يشترى رصيد العام بأكمله وليس رصيد شهر رمضان فقط، ومن ثم فإن هذا الإنفاق الهستيرى سيتم توزيعه على ميزانية السنة بأكملها، وهنا نرد عليه بأن هذه السياسة تحقق أزمة أكبر، إذ إن خطة الإعلام هنا تعنى القضاء على موسم شهر رمضان كمناسبة إعلامية فريدة لصناع الميديا، فالمشاهد حين يدرك حتما أن باستطاعته مشاهدة كل هذه الأعمال طوال السنة، فلن يلتفت إلى عشرات الأعمال التى تلقيها وزارة الإعلام على كل القنوات بلا ضوابط، ومن ثم فإن المعلنين سيعرفون حتما أن المشاهدين لن يحافظوا على عاداتهم الرمضانية بمتابعة هذا الكم الهائل من الأعمال كل عام، وسيتم توزيع مخصصاتهم الإعلانية على العام بأكمله وليس على رمضان وحده، كما أنهم سيترددون كثيرا حين يطلب منهم المهندس أسامة الشيخ دفع عشرات الملايين من الجنيهات فى الحملة الإعلانية على مسلسل واحد، لأنهم يعرفون فى النهاية أن أموالهم ستذهب سدى مع كل هذا الزحام الصاخب فى مختلف القنوات.
وبهذا المنطق فإن اتحاد الإذاعة والتليفزيون يدمر شهية المعلنين على التسابق نحو عرض منتجاتهم فى هذا الموسم، ويعرف المهندس أسامة أن الموسم فى رمضان يعنى زيادة فى حجم الإعلانات وزيادة هائلة فى أسعارها أيضا، فإن كانت التخمة تصل إلى هذا الحد المبالغ فيه، فإن مستويات الإنفاق الإعلانى ستتراجع ولن يقبل أصحاب الشركات سداد فاتورة التخمة التليفزيونية ودفع أسعار خيالية وغير منطقية للإعلان عن المسلسلات .
الوزارة هنا تفسد السوق بالكامل، وتظن أنها تنهى على المنافسين من القنوات الخاصة بهذا التوسع باهظ التكلفة فى اقتناء مسلسلات هى بنفسها متاحة على قنوات أخرى، والمهندس أسامة هنا يظن أنه لن يكون الأول إلا إذا أدمن الاحتكار وشمر عن ذراعيه ونزل يبيع بنفسه فى السوق فى مواجهة صناع الميديا من القطاع الخاص، والنتيجة أنه يفسد السوق، ويهدر المميزات الاستثنائية لشهر رمضان فى الإعلانات، ويقضى على نفسه بنفسه حين يسرف فى الشراء ثم لا يستطيع تعويض خسارته الكبيرة بعد ذلك.
أسأل فقط، ما الذى يفكر فيه قادة الوزارة بهذا المنهج المغلوط؟ ومن الذى يسمح بالإنفاق بهذا المستوى من الأموال العامة بلا حساب دقيق للربح والخسائر؟ فإن كان الاتحاد يعمل بالمنطق التجارى فهو لا ينفق من مال خاص ولكنه ينفق من أموال دافعى الضرائب، وإن كان الاتحاد يفكر بالمنطق التجارى أيضا، فإن قادته مسؤولون أمام الله ثم أمام الناس عن أن تعود هذه الأموال أضعافا مضاعفة إلى الخزانة العامة.
أما وأنه يخفق تجاريا، ويحقق خسائر غير مسبوقة لهذه المؤسسة الإعلامية الرسمية إن صحت هذه التقديرات، فإنه يجب أن يعترف بالفشل فى الإدارة التجارية ويتوقف عن ممارسة هذا الإسراف والهرولة فى الشراء بلا معنى أو قيمة أو عائد.
قد يخرج قادة الإعلام الرسمى ليقولوا لنا إن التليفزيون الحكومى صاحب رسالة سامية، وإنه يقدم الخدمة دون انتظار العائد!
وهنا اسمحوا لنا ألا نقبل بهذه التصورات المبتورة فإن كانت هذه حجتكم، فالتليفزيون المصرى لم ينجح حتى الآن فى تقديم رؤية قويمة، تلتزم بقيم المجتمع أو تحافظ على ثوابته أو حتى تدعم سياسة الحكومة التى ينتمى التليفزيون إليها من ناحية الإدارة، بل إن أغلب الرسائل التى تتضمنها برامج التليفزيون، لا تخرج عن كونها بئرا كبيرة من النميمة والفضائح الصفراء، تلوكها معظم البرامج بلا رؤية أو منطق أو قيمة مضافة.
ولا أبالغ إن قلت إن التليفزيون أخفق فى إدارة معركته مع التطرف ومع التيارات التى تستغل الدين فى السياسة، وإن التليفزيون أخفق أيضا فى تقديم منتج يتسم بالرقى، تقبله العائلة المصرية من الإسكندرية وحتى أسوان، لم نشاهد سوى فنانات وفنانين يتبادلون القذف والسب، أو معارك فاضحة لا مكان لها سوى أرصفة النميمة، أو جلسات المقاهى، وغابت كل الحوارات والبرامج التى يمكن أن تقدم رسالة حقيقية للتليفزيون الذى يملكه الناس لصالح الناس، ولصالح قيم الناس، ولصالح استقرار هذا البلد.
لا أبالغ إن قلت إننا نعيش انحطاطا إعلاميا مخيفا، وأشعر بالأسف لأن بطله الأول هو التليفزيون المصرى ولا أبالغ إن قلت إن أزمة السياسة والحكم وعلاقة الدين بالدولة واشتعال الفتن الطائفية، سببها هذا التراجع الذى تدار به المؤسسة الإعلامية الرسمية الأكبر والأعرق والتى فقدت عراقتها وقررت المشاركة فى إحياء الأفراح البلدى، والرقص مع مطربى الأغنية الشعبية والانجراف نحو النميمة.
لا تتحدثوا عن الرسالة لأن البلد شهد عشرات الأزمات والاحتقانات السياسية والاجتماعية والحزبية والطائفية دون أن نسمع أنكم حسمتم معركة، أو شاركتم فى توضيح موقف ملتبس، أو ساهمتم فى احتواء أزمة متصاعدة، أو حققتم قضية بالغة الأهمية، أو قمتم بتغطية معقولة لما يجرى على أرض الواقع، حتى لم نشاهد دفاعا عن سياسات الحكومة التى تنتمون إليها برؤية احترافية، وبصنعة إعلامية قديرة، فالتليفزيون المصرى يأتى فى الذيل من الناحية السياسية، ومن زاوية التأثير الجماهيرى، والتليفزيون المصرى يأتى فى الذيل أيضا من الناحية التجارية والاقتصادية، والتليفزيون المصرى يأتى فى الذيل كذلك من ناحية الاستراتيجية الإعلامية والحفاظ على سوق الدراما والبرامج بمعايير تجارية.
الحقيقة هنا أننى لا أريد اشتباكا فارغا من المضمون، كما لا أفتح هذا الحوار ليخرج قادة وزارة الإعلام ليقولوا فى اليوم التالى للصحف الرسمية، إن مكاسب التليفزيون تفوق الخيال، دون أن يقدموا كشف حساب حقيقيا لما جرى، سأكون أنا أول من يعلن أسفه وندمه إن كانت الحقيقة غير ما أقول، وسأكون أنا أول من يرسل باقة ورد كبيرة إلى مكتب وزير الإعلام وإلى مكتب المهندس أسامة الشيخ، إن برهنوا على أن ما قلته عار عن الحقيقة، ولكن بالأرقام والمستندات الحقيقية.
يؤسفنى أن استمرار هذا التهور فى الخطط الإعلامية، يمكن أن يؤدى فى النهاية إلى خراب كامل اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، فهذا الكيان الكبير فى ماسبيرو يجب أن يضبط حركته فى السوق، حتى لا يهدم المعبد على كل من فيه، وهذا الكيان الهائل صاحب الرسالة يجب أن يتوقف ولو دقائق معدودة ويسأل نفسه أين هى الرسالة بالفعل؟ وهل تحققت أم أنهم بعيدون تماما عن توصيلها إلى الناس؟
ليس عيبا أن تعترف الوزارة بأخطائها، وليس عيبا أن تراجع سياستها، وتبحث عن دورها الحقيقى، العيب هو أن نعرف الحق وننكره، والعيب هنا أن نعيش فى دور التاجر الشاطر بينما نخسر ملايين الملايين من الجنيهات هباء وبلا عوائد من خزانة الدولة، والعيب أيضا أن تعيش وزارة الاعلام فى دور صاحب الرسالة، بينما لا عمل لها أكثر من شراء مسلسلات وبرامج بلا تقدير للاحتياجات الحقيقية للسوق وبلا ترتيب للرسالة الإعلامية التى ينبغى توصيلها للمشاهد المصرى.
تذكروا فقط أن قناة واحدة فقط من بين كل هذه الباقة التى ننفق عليها الملايين، تحتل رقم 6 فى ترتيب القنوات الأكثر مشاهدة، وتسبقها فى ذلك قنوات خاصة لا تنفق ربع ما ينفقه اتحاد الإذاعة والتليفزيون !!
وتذكروا أيضا أن عددا كبيرا من القنوات الرسمية لا مكان لها على خريطة المشاهدة، رغم مستويات الإنفاق المخيفة التى تشترى بها الوزارة المسلسلات والبرامج!!
وتذكروا أيضا، وأنتم أصحاب الفكر والرسالة الوطنية، أن البساط ينسحب من بين يدى تليفزيون مصر، وأن قنوات فقيرة وقليلة الحيلة، ولا تملك خزائن المال العام، تتفوق على تليفزيون مصر فى التأثير وترسل إلى الرأى العام ما تشاء من رسائل.. فهل يطرف لكم جفن؟ أو يتحرك فيكم الشجن حزنا على (الرسالة) التى بين أيديكم؟
وأخيرا تذكروا أننا نتحدث فى المضمون وفى الموضوع، لا فى الشكليات وقضايا ما تحت الحزام، فأنتم أكبر من ذلك، كما نظن، والقضية أيضا أكبر من ذلك، كما نعتقد.