وجوب تذكر المؤمن رسالته في هذه الأرض
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) [المنافقون/9-11]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ وَبِأَلاَّ يَشْغَلَهُمْ مَا لَهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِهَّمْ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ مَنِ التَهَى عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ بِمَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينتِهَا ، فَإِنَّهُ مِنَ الخَاسِرِينَ الذِينَ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ .
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى الإِنْفَاقِ فِي طَاعَتِهِ مِنَ المَالِ الذِي جَعَلَهُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَحِينَ أَجَلُهُمْ فَيَقُولُ هَؤُلاَءِ الذِينَ قَصَّرُوا فِي الطَّاعَةِ ، وَفِي الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ : يَا رَبِّ لَوْ أَنَّكَ أَخَّرْتَنِي مُدَّةً يَسِيرَةً ، فَأْنْفِقَ فِي طَاعَتِكَ ، وأَسْتَجِيبَ لأَمْرِكَ ، وأَكُونَ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ ، الذِينَ تَرْضَى عَنْهُمْ .وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ : إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا الطَّاعَاتِ ، وَيُنْفِقُوا فِي أَوْجُهِ الخَيْرِ وَالبِرِّ قَبْلَ أَنْ يَحِينَ أَجَلُهُمْ ، لأَنَّهُمْ إِذَا حَانَ أَجَلُهُمْ فَلاَ مَجَالَ لِلتَّأْخِيرِ وَالإِمْهَالِ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُهُ العِبَادُ .
" هو لقاء لآيات اللّه مع المؤمنين ، بعد أن استمعوا إلى ما تنزّل فى المنافقين من آيات ..
وكان من حكمة الحكيم العليم ، أن يلفت المؤمنين إلى أنفسهم ، بعد أن أراهم المنكرة للإنسان الضال المنحرف ، ليكون لهم فيه عبرة وعظة .. وحتى لا يشغل المؤمن كثيرا بأمر هؤلاء المنافقين ، وحتى لا يقف كثير من المؤمنين عند حد النظر إلى هذه الصور المتحركة بين عينيه ، التلهي والتسلية .. جاءت هذه اللفتة السماوية إليهم ، ليخرجوا بمشاعرهم وتصوراتهم عن هذا الموقف ، ولينظروا فى أنفسهم هم ، وليراجعوا حسابهم مع ذواتهم ، فقد يكون فيهم من هو على صورة هؤلاء المنافقين ، أو على شبه قريب منها ، وهذا يقتضيه أن يصحح وضعه ، إن أراد أن يكون فى المؤمنين ..
أما كيف يقيم ميزانه السليم على طريق الإيمان ، فهو أن يكون كما دعا اللّه المؤمنين إليه فى هاتين الآيتين : وهو ألا يشغل عن ذكر اللّه بالأموال والأولاد ، وألا يكون ذلك همه فى الحياة الدنيا ، فيستغرقه متاع هذه الحياة ، ويقطعه عن ذكر اللّه ، وعن النظر إلى الآخرة ، وما فيها من حساب وجزاء .. فإن من يفعل ذلك فقد خسر نفسه ، وأوردها موارد الهلاك فى الدنيا ، والعذاب الأليم فى الآخرة ..
فإذا انخلع الإنسان عن سلطان الاشتغال بالأهل والولد ، وعن الغفلة عن ذكر اللّه ـ كان طلب البذل منه للإنفاق فى وجوه الخير ، أمرا مقبولا ، يمكن أن يمتثله ويستجيب له ، حيث خرج من هذا السلطان المتحكم فيه ، الآخذ على يده ، وهذا هو السر ـ واللّه أعلم ـ فى تقديم النهى على الأمر .. فإن الانتهاء عن المنكر والقبيح ، مدخل إلى إتيان المعروف والحسن من الأمور ..
إن الانتهاء عن القبيح أشبه بالشفاء من داء يغتال عافية الجسد ، فإذا عوفى الجسد من هذا الداء ، كان من الطبيعي بعد ذلك ، أن تقوم ملكات الإنسان وحواسه بوظائفها كاملة .. فكما لا يدعى إلى حمل التكاليف والأعباء مريض ، كذلك لا يدعى إلى القربات والحسنات من هو مقيم على المعاصي ، ملازم للمنكرات ..
وإن التربية الحكيمة لمثل هذا ، هو أن يطبّ له من هذا الداء المتمكن منه ، فإن هو أقلع عنه ، كان من الممكن الانتقال به من جانب المعاصي إلى حيث البر والإحسان .. ولهذا كان من مقررات الشريعة : أن دفع المضار مقدّم على جلب المصالح!! وقوله تعالى : « مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ » ـ هو حثّ على المبادرة بطاعة اللّه ، والإعداد اليوم الآخر ، قبل فوات الأوان ، حين يهجم الموت على غرة أو دون إنذار سابق ، فيجد المرء نفسه وقد حضره الموت ، وفاته ما كان يراود به نفسه من طاعة اللّه ، ومن فعل الخير ، وعندئذ يود أن لو استأنى به الموت قليلا ، وترك له فرصة من الوقت ، يتدارك فيه ما فات ، ويصلح ما أفسد .. ولكن هيهات ، هيهات! « فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ » (34 : الأعراف) وقوله تعالى : « فأصدق » منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية ، الواقعة بعد الطلب ، وهو الرجاء المفهوم من قوله تعالى : « لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ؟ فَأَصَّدَّقَ ».. فلولا هنا بمعنى « هلا ».وأصدق : أصله أتصدق ، قلبت التاء صادا ، وأدغمت فى الصاد ..
وأما قوله تعالى : « وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ » فهو مجزوم ، لأنه واقع فى حيّز جواب الشرط ، المفهوم كذلك من قوله تعالى « لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ » فهو بمعنى « لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ » ! ..
وهذا الأسلوب من النظم لا يكون فى غير القرآن ، ونظمه المعجز ، الذي يملك بسلطانه التصريف فى الكلمات ، كما يملك سبحانه وتعالى بقدرته التصريف فى كل شىء .. فلقد تسلط أسلوب الطلب : « لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ » تسلط على الفعلين : أصدق ، وأكون .. جاعلا الفعل الأول مسببا عنه ، وجاعلا الفعل الثاني جوابا له ..والسؤال هنا : ما الحكمة من مجىء النظم فى الآية على هذا الأسلوب ؟
ولما ذا لم يجىء الفعلان الواقعان فى حيز الطلب ، منصوبين معا ، أو مجزومين معا ؟
وما سر هذه التفرقة بين الفعلين ، فيكون أحدهما مسبّبا ، على حين يكون الآخر جوابا ؟
نقول ـ واللّه أعلم ـ : إن هذا الاختلاف بين الفعلين ، هو اختلاف فى أحوال النفس ، وتنقلها من حال إلى حال ، فى هذا الموقف المشحون بالانفعالات والأزمات ..
فالموت حين يحضر هذا الإنسان الذي يدافع الأيام بالتسويف والمماطلة فى الرجوع إلى اللّه ، وعمل الصالحات ـ هذا الموت المطل على هذا الإنسان ، يردّه إلى صوابه ، ويوقظه من غفلته ، ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان ، وقد بلغت الروح الحلقوم ، فلا يجد هذا الإنسان بين يديه إلا الأمانىّ ، وإلا الرجاء فيقول : « رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ! ».
. إن ذلك هو أقصى أمانيه ، وهو غاية مطلوبه .. ثم يخيل إليه من لهفته ، وشدة حرصه على هذا المطلوب ، أنه ـ وقد تمناه ـ أصبح دانيا قريبا ، وأنه قد استجيب له فعلا ، وأن يد الموت قد تراخت عنه قليلا إلى أجل .. وهنا ينطلق مع هذا الأمل فرحا مستبشرا ..إنه الآن يستطيع أن يتصدق .. وإنه إن يتصدق يكن من الصالحين ، الذين يفوزون برضا اللّه ورضوانه .. ولهذا يخرج من باب الأمانىّ ، ليدخل فى باب العرض والطلب .. إن تؤخرني إلى أجل قريب أكن من الصالحين .. ولكن هذه الفرحة سرعان ما تختفى ، وتغرب شمسها من نفسه ، إذ يجىء قوله تعالى : «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها » فيردّه هذا إلى مواجهة الموت ، الذي خيّل إليه أنه فرّ من بين يديه! إنه حلم لحظة ، فى صحوة الموت أو غيبوبته ، سرعان ما يذهب كما تذهب الأحلام ..
وتحرير معنى الآية ـ على هذا المفهوم الذي فهمناها عليه ، هو : هلّا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق .. وإن أصدق أكن من الصالحين ، الناجين ، من هذا الهول العظيم. الذي يطلّ بوجهه من قريب.
" والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة إذا لم يستيقظ القلب ، ويدرك غاية وجوده ، ويشعر أن له هدفا أعلى يليق بالمخلوق الذي نفخ اللّه فيه من روحه ، فأودع روحه الشوق إلى تحقيق بعض صفاته الإلهية في حدود طاقته البشرية. وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض لا لتلهيه عن ذكر اللّه والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان. ومن يغفل عن الاتصال بذلك المصدر ، ويلهه عن ذكر اللّه ليتم له هذا الاتصال «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .. وأول ما يخسرونه هو هذه السمة. سمة الإنسان. فهي موقوفة على الاتصال بالمصدر الذي صار به الإنسان إنسانا. ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء. مهما يملك من مال ومن أولاد.
ويلمسهم في موضوع الإنفاق لمسات متنوعة في آية واحدة ..«وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ» .. فيذكرهم بمصدر هذا الرزق الذي في أيديهم. فهو من عند اللّه الذي آمنوا به والذي يأمرهم بالإنفاق.«مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ...» ..فيترك كل شيء وراءه لغيره وينظر فلا يجد أنه قدم شيئا لنفسه ، وهذا أحمق الحمق وأخسر الخسران.
ثم يرجو حينئذ ويتمنى أن لو كان قد أمهل ليتصدق وليكون من الصالحين! وأنى له هذا؟ : «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها»؟ وأنى له ما يتقدم به؟ «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ»؟
إنها اللمسات المنوعة في الآية الواحدة. في مكانها المناسب بعد عرض سمات المنافقين وكيدهم للمؤمنين.
ولو إذ المؤمنين بصف اللّه الذي يقيهم كيد المنافقين .. فما أجدرهم إذن أن ينهضوا بتكاليف الإيمان ، وألا يغفلوا عن ذكر اللّه. وهو مصدر الأمان ..وهكذا يربي اللّه المسلمين بهذا القرآن الكريم .. "
ـــــــــــــــــ