الليلة الأولي والليلة الأخيرة
الفرق بين الليلة الأولي والليلة الأخيرة للفراق أننا في الليلة الأولي نكون أكبر من كل شئ فلا يتسع لنا
شئ وفي الليلة الأخيرة نكون أصغر من كل شئ فلا نتسع لشئ .
أولي ليالي الفراق ما أثقلها من ليلة .
كأن جبال الأرض استقرت فوق هذا القلب الصغير المرتجف تحت رياح الفراق خوفا ورعبا .
كأن الوجود ما عاد يعرفني كأني ما عدت أعرف نفسي كأني أصبحت بلا هوية ولا ذاكره تدلني إلي
الطريق وتأخذني إلي عالمي .
كأن القمر يتنكر لي يشيح بوجهه عني بخجل من مواجهتي كي لا أقرأ تفاصيل حكايتي المميتة فيه .
كان غرفتي التي ألفتها تحولت إلي محطات غربة فما عدت أنتمي إليها وما عادت محتوياتها تنتمي إلي .
كأن الورود التي احتفظت بها لكي أزين بها قلبي لك في ليلة العمر قد تحولت إلي غابات شوك تدمي
أناملي كلما اقتربت منها .
كأن ضفائري التي سقيتها أدمع غيابك كي تنمو شوقا إليك باتت تلتف حول عنقي وتخنقني .
كأن عيناي اللتان بكتاك سنوات العمر قد تحجرتا بعد أن جفت أنهارهما من تكرار البكاء فوق وسائد
الشوق إليك .
كأن يداي اللتان نقشتا لك أجمل عبارات العشق وراقصتاك خيالا واحتضنتا وجهك خيالا قد شلتا فما عادتا
تقويان علي الحركة والتلويح لك مودعتين فوق أكوام الحكاية .
كأن الحكاية فتحت أبوابها وسقطت حصونها المنيعة فلم تعد سكنك ولم تعد وطني وأصبحنا نتجول في
أرجاء صفحاتها كالغرباء .
كأن نحيب أطفالك في دفاتر الأحلام يعلو ويعلو ليذكرني كم كنت امرأة حالمة حين ظننت أن الدفاتر قد
تكون للأحلام خزائن .
كأن النيران تشتعل في هذا الجسد الصغير فتلتهم دمه وتحول القلب إلي قطعة من جمر ملتهب
وتخلفني كالرماد تحت رياح غيابك .
كأن مرآتي التي استهلكت أجمل ليالي العمر أحدثها عنك ما عادت تذكر من ملامحك شئ سوي مخالبك
وأنيابك في الليلة الأخيرة .
كأن هاتفي الذي اعتاد أن يهديني الفرح بصوتك قد فقد قدرة الفرح وتحول رنينه إلي بكاء مؤلم متواصل .
كأن رسائلي التي نزفتها لك ذات حب وشوق وعتاب تحولت إلي أوراق صفراء باردة تشبه أوراق الوصايا
وكان الحب ما اشتعل بين سطورها يوما .
كأن ذاكرتي تستعيد قوتها ووعيها وتعيد لي العمر من بدايته وتفتح أمامي صفحات أحرقتها من العمر
فتحرقني بها .
كأن الكائنات قد ماتت ووحدي بقيت علي قيد الحياة أجمع شتاتي المبعثر حولي والمبعثر مني والمبعثر
بي .
كأن سقف الغرفة قد التصق بقاعها وكأنني بين السقف والقاع ألفظ أخر أنفاسي كأني أسمع صوت
أقدامهم وهم يرحلون واحدا تلو الأخر بعد أن وضعوني في قبري ووضعوا التراب فوقي وأهدوني للوحدة
والظلام بلا حدود .
كأني ما كنت يوما شيئا يذكر كأن الليلة الأولي لفراقك صهرتني كالشمع أذابتني كالثلج سربتني كالماء
بين أنامل الحياة .
. مع تحياتي لكم .
. محمد القلب الطيب .