المنافقون يهربون من الجهاد فرارا من الموت
قال تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) [الأحزاب/12-17]
أَمَّا المُنَافِقُونَ فَظَهَرَ نِفَاقُهُمْ ، فَقَالَ مُعْتِبُ بْنُ قُشَيْرٍ مَا قَالَ ، وَقَالَ ضِعَافُ الإِيمَانِ وَالذِينَ فِي أًنْفُسِهِمْ رِيبَةٌ وَشَكٌ ، لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بالإِسْلامِ - { الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } : { مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } ، أَيْ لَمْ يكَنْ مَا وَعَدَنا بِهِ اللهُ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفِرِ بِالعَدُوِّ إِلا وَعْداً يَغُرُّنَا وَيَخْدَعُنا .
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ حِينَ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ المُنَافِقينَ ( كَعَبدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وأَصْحَابِه ) : يَا أَهْلَ المَدينةِ ( يَثْرِبَ ) لَيْسَ هذا المُقَامُ ، الذي تُقِيمُونَهُ مُرَابِطِينَ مَعَ النَّبِيِّ ، بِمُقَامٍ صَالِحٍ لَكُمْ ، فَارْجِعُوا إِلى مَنَازِلِكُمْ لِتَحْمُوهَا ، وَلِتُدَافِعُوا عَنْها وعَنْ عِيَالِكُمْ . واسْتَأْذَنَ فَريقٌ منْهُمُ النَّبِيَّ طَالِبينَ السَّمَاحَ لَهُمْ بِالعَوْدَةِ إِلى مَنَازِلِهِمْ ( وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ ) ، وَقَالُوا إِنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلى بُيُوتِهِمِ السُّرَّاقَ ، وأَ ، َّ بُيُوتَهُمْ ليسَ لَهَا مَنْ يَحْمِيها ( عَوْرَةٌ ) .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى هؤُلاءِ قَائِلاً : إِنَّ بُيُوتِهم لَيْسَتْ عَوْرَةً ، وَلاَ مُهَدَّدَةً مِنْ أَحَدٍ كَمَا يَزْعُمُونَ ، وَإِنَّما يُريدُونَ الفِرَارَ وَالهَرَبَ مِنَ القِتَالِ ، وَعَدَمِ إِعَانَةِ المُسْلِمِينَ فِي حَرْبِهِمْ أَعْدَاءَ اللهِ .
وَلَوْ دَخَلَ عَلَيهِمُ الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوانِبِ المَدِينَةِ ، وكُلِّ قُطْرِ مِنْ أَقْطَارِها ( وَقيلَ بَلِ المَقْصُودُ بُيُوتُهُمْ ) وَطَلبُوا إِليهِم الارْتِدَادَ عَنِ الإِسْلامِ ، والعَوْدَةَ إِلى الشِّرْكِ ، ( لَو سُئِلُوا الفِتْنَةَ ) لَفَعَلُوا ذَلِكَ سَرِيعاً دُونَ تَرَدُّدِ مِنْ شِدَّةِ الهَلَعِ وَالجَزَعِ ، وَهذا دَلِِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِمْ . وَكَانَ هؤلاءِ المُسْتَأْذِنُونَ - وَهُمْ بَنُوا حَارِثَةَ - قَدْ هَرَبُوا مِنَ القِتَالِ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَفَرُّوا مِنْ لِقَاءِ العَدُوِّ ، ثُمَّ تَابُوا وَعَاهَدُوا اللهَ عَلَى أَلاَّ يَعُودُوا إِلى مِثْلِها ، وَلاَ يَنْكُصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ ، وَمَنْ عَاهَدَ اللهَ فإِنَّ اللهَ سَيَسْأَلُهُ عَنْ عَهْدِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيَجْزِيهِ بِه . فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ المُسْتَأْذِنِينَ الهَارِبينَ مِنْ قِتَالِ العَدُوِّ وَلِقَائِهِ : إِنَّ الفرَارَ مِنَ القِتَالِ لَنْ يَنْفَعَكُمْ وَلَنْ يَدْفَعَ عَنْكُمْ مَا قَضَاهُ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ مَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ ، وَإِذا نَفَعَكُمْ الفِرَارُ فَلَمْ تُقْتَلُوا فِي سَاحَةِ الحَرْبِ ، فَإِنَّ بَقَاءَكُمْ فِي الدُّنيا مَحْدُودُ الأًَجْلِ ، وَمَتَاعَكُمْ فِيها مَتَاعٌ قَليلٌ ، وَسَيَأْتي المَوْتُ في الموعِدِ المُحَدَّدِ لاً يَتَأَخَّرُ وَلاَ يَتَقَدَّمُ .وَقُلْ لَهُمْ : لَيْسَ فِي الأَرْضِ أَحَدُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ قَضَاءَ اللهِ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِليكُمْ ، فَإِنْ أَرَاد اللهُ بِكُمْ شَراً فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّهُ عَنْكُمْ ، وَلاَ أَنْيَحُولَ دُونَ وَقُوعِهِ بِكُمْ : وَإِنْ أَرَادَ بِكُمْ خَيْراً وَرَحْمَةً ، فَلا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَحُولَ دُونَ وَصُولِ ذلك إِلَيْكُمْ ، فَالأَمْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللهِ ، يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ . وَلَنْ يَجِدَ هؤلاءِ المُنَافِقُونَ وَلِيّاً لَهُمْ غيرَ اللهِ ، وَلاَ نَاصِراً يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا قَضَاهُ اللهُ ، وَمَا قَدَّرَهُ عَلَيهِمْ مِنْ سُوءٍ وَبَلاَء .
" إن قدر اللّه هو المسيطر على الأحداث والمصائر ، يدفعها في الطريق المرسوم ، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة.والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه ، في موعده ، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر. ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فارّ. فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب ، في موعده القريب. وكل موعده في الدنيا قريب ، وكل متاع فيها قليل ولا عاصم من اللّه ولا من يحول دون نفاذ مشيئته. سواء أراد بهم سوءا أم أراد بهم رحمة ، ولا مولى لهم ولا نصير ، من دون اللّه ، يحميهم ويمنعهم من قدر اللّه.
فالاستسلام الاستسلام. والطاعة الطاعة. والوفاء الوفاء بالعهد مع اللّه ، في السراء والضراء. ورجع الأمر إليه ، والتوكل الكامل عليه. ثم يفعل اللّه ما يشاء. "
ــــــــــــــــ