ما أقسى البشر عندما يطغون جماعياً ... !!
ياله من سيل عرم لا يرحم من أمامه !!!
فلا يسمع صراخه ... ولا يمد له يده عندما يستخدمه وهو يستغيث .. بل يدفعه أمامه في غير اكتراث !
ان طغيان الفرد أهون أنواع الطغيان ، فهو فرد في كل حال ... وتزيله الجماعة ، ويزيله فرد تافه بوسيلة ما .
أما طغيان الجموع فهو أشد صنوف الطغيان فمن يقف أمام التيار الجارف والقوة الشاملة العمياء ....
كم احب حرية الجموع ، وانطلاقها بلا سيد ، وقد كسرت اصفادها وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء .
ولكني كم أخشاها وأتوجس منها !!!
إني احب الجموع كما أحب أبي . وأخشاها كما اخشاه .
من يستطيع في مجتمع بدوي بلا حكومة أن يمنع انتقام أب من أحد أبنائه ... نعم كم يحبونه ... وكم يخشونه في ذات الوقت ... هكذا احب الجموع وأخشاها ، كما أحب أبي وأخشاه .
كم هي عطوفة في لحظة السرور ، فتحمل أبناءها على اعناقها ... فقد حملت هانيبال وباركليز.. وسافونارولا ودانتون وروبسبيير ... وموسيليني ونيكسون ... وكم هي قاسية في لحظة الغضب ، فتآمرت على هانيبال وجرعته السم وأحرقت سافونارولا على السفود ... وقدمت بطلها دانتون للمقصلة ... وحطمت فكي روبسبيير خطيبها المحبوب وجرجرت جثة موسوليني في الشوارع وتفت على وجه نيكسون وهو يغادر البيت الأبيض بعد أن أدخلته له وهي تصفق !!!
ياللهول من يخاطب الذات اللاشاعرة كي تشعر ... من يناقش عقلاً جماعياً غير مجسد في أي فرد !!!
من يمسك يد الملايين ... من يسمع مليون كلمة من مليون فاه في وقت واحد .. من في هذا الطغيان الشامل يتفاهم مع من ... ومن يلوم من ومن المن ذاته ؟!!
أمام هذا اللهيب الاجتماعي الذي يحرق ظهري ... أمام مجتمع يحبك ولا يرحمك ... أمام أناس يعرفون ما يريدون من الفرد ولا يأبهون لما يريده الفرد منهم ...
يفهمون حقوقهم عليك ... ولا يفهمون واجبهم نحوك ...
أمام نفس الجموع التي سممت هانيبال وأحرقت سافونارولا وهمشت رأس روبسبيير والتي أحبت معمر القذافي دون أن تخصص له كرسياً في دار خيالة أو منضدة في مقهى ...
هذا ما فعلته وتفعله الجموع بأبطالها العظام ... فبماذا أطمع أنا البدوي الفقير التائه في مدينة عصرية مجنونة ... أهلها ينهشونني كلما وجدوني :ابن لنا بيتاً غير هذا..
أمدد لنا خطاْ ارفع من ذلك ...
ارصف لنا طريقاً في البحر... ازرع لنا حديقة... اصطد لنا حوتاً !
اكتب لنا تعويذة...اعقد لنا قراناً !!!
اقتل لنا كلباً... اشتر لنا هراً !
بدوي فقير تائه لا يحمل حتى شهادة الميلاد... عصاه على كتفه لا يقف أمام الإشارة الحمراء... ويخاصم الشرطي و لايخشاه... و يأكل بلا غسل يديه... ويطب ما يعقيه في سيره برجله حتى ولو أصاب به واجهة متجر زجاج... أو وقع على وجه عجوز شمطاء... أو حطم نافذة بيت أبيض جميل.
لا يعرف طعم الكحول ولا حتى البيبسي كولا او صودا ..يبحث عن ناقة في ميدان الشهداء و فرس في الساحة الخضراء... ويحوش الغنم من ميدان طمسون .
هذه الجموع التي لا ترحم حتى منقذيها أحس أنها تلاحقني... تحرقني وحتى وهي تصفق احس أنها تطرق !!!
أنا بدوي ، أمي ، لا أعرف حتى صنعة الزواق ولا أعرف حتى معنى المجاري ... وأشرب ماء المطر وماء البئر بكلتا يدي... وأصفي يرقات الضفادع بطرف عباءتي ، ولا اتقن السباحة لا على بطني ولا على ظهري ، ولا أعرف شكل النقود ...
ولكن كل من يقابلني يطلب مني شيئاً من تلك الأشياء مع أني أعطيته الكثير منها... فأنا لا أملكها في الحقيقة ولكن خطفتها من أيدي اللصوص ومن أفواه الفئران ومخالب الكلاب ووزعتها على أهل المدينة باسم فاعل خير قادم من الصحراء , بوصفي محرر عقود وأصفاد .
إن ما سرقه المخانب وأفسده أحدهم رفيق أهل الكهف والجرذان ، يحتاج إلى وقت طويل وجهد أكثر من فرد...
ولكن أهل المدينة العصرية المجنونة تطلبه مني في الحال ، وشعرت أني أنا الوحيد الذي لا أملك شيئاً ، ولهذا لم أطلب مثلهم سمكرياً وأسطى... زورقاً... وحلاقاً... الخ ، وحيث إني لم أطلب لأني لا أملك فصار وضعي متميزاً ... بل شاذاً... ولهذا تعرضت وأتعرض في كل ساعة تقريباً لهذه المضايقات ، ولكن لا أنكر أني أنا أيضاً ساهمت في ذلك... وظلمت نفسي... فأنا صاحب فكرة النهر الصناعي العظيم لأني لا أعرف كما قلت المجاري والسمكرة والشبكات الضيقة ، وطالبت بأن يريحني هذا النهر العظيم من هذه الطلبات وأسبابها.
فحتى تمردي على الشرطي نشر موجة من الاستهتارفي المدينة كلها ... وسمعوا بإسمي ، وبعضهم صفق لي وبعضهم شتمني ... وشرطة النجدة تريد أن تتخلص مني ... وعجوز كانت أماً للشرطي تصابت هي أيضاً وطمعت في ، وعندما رفضت حاولت أن تخلق لي مشاكل ... وقد يحاربونني بكلاب الشرطة الغبية .
وأنا الذي شجعتهم على أكل الحوت وصيده حتى يتركوا لي شياهي ... إنسان بسيط ... وفقير... لست من سلالة ملكية بل من سلالة بدوية .. ولا أحمل شهادة دكتوراه ...فلا أحب الطبيب لأنهم يسمونه دكتوراً !!!
ولهذا لم يتمكن من تطعيمي ضد الحساسية ، فأنا حساس جداً خلافاً لأهل المدينة الذين تم تطعيمهم منذ زمان بعيد ، وعلى جرعات تاريخية من أيام الرومان إلى الترك واخيراً الميلكان ... وأنا كما تقرأون وتضحكون لا أنطق مثلكم كلمة ( الأمريكان ) أو ( الأمريكين ) – بالراء – بل انطقها باللام لأني لا أعرف معنى أمريكا فالذي اكتشفها ( كولمبس ) .
ولكن هي تملك القوة ... وتملك العملاء ... وتملك القواعد في مناطق النفوذ .
وتملك حق النقض لصالح الاسرائيلين ، وملكت أخيراً بيتاً عند نقطة تفرع فرعي رشيد ودمياط ، وحوله مزرعة جاموس فهي إمبريالية ، إذن هي اميلكا .
هكذا قال الحاج مجاهد ولد عمتي عزة بنت جداي غنيمة أخت الكونتيسا ماريا .
عموماً أنا جنيت على نفسي بدخولي المدينة طواعية ، ولا وقت لذكر السبب ، المهم كان ظرف تحدي فحسب ، إذن أرجوكم أن تتركوني أرعى شياهي التي تركتها في الوادي تحت رعاية أمي .. ولكن أمي ماتت وكذلك أختي الكبيرة ، وقيل ان لي أخوة ذكوراً وإناثاً قد قتلهم الباعوض ، اتركوني وهمومي ... لماذا تطاردوني وتعرفوني على صبيانكم ؟
حتى أصبحوا هم أيضاً يضايقونني في كل مكان، ويجرون ورائي ... ويقسمون أنه هو ... لماذا تحرمونني من الراحة ؟... بل حتى من المشي في شوارعكم ، أنا بشر مثلكم أحب التفاح ، لماذا تمنعوني من السوق ؟
ثم على فكرة لماذا لا تعطوني جواز سفر ؟ ... ولكن ماذا أعمل به ؟ فأنا ممنوع من الخروج لغرض السياحة أو العلاج إلا إذا كنت مكلفاً بمهمة فقط ، لهذا قررت أن أفر بنفسي إلى جهنم ، وسوف أروي لكم الطريق الذي يؤدي إليها ، ثم أصف لكم جهنم ذاتها ، وكيف رجعت منها مع نفس الطريق ... إنها مغامرة حقاً ، ومن أغرب القصص الواقعية ... وأقسم لكم أنها ليست من صنع الخيال ...
إني هربت بالفعل إلى جهنم مرتين فراراً منكم ، ولكي أنجو بنفسي فقط ... إن أنفاسكم تضايقني ... وتقتحم علي خلوتي... وتغتصب ذاتي ... وترغب بنهم وشراهة شرسة في عصري وشرب عصارتي ولعق عرقي ، ورشف أنفاسي... ثم تغطني مودعة لتعود الكرة ... أنفاسكم تلاحقني كالكلاب المسعورة ، ويسيل لعابها في شوارع مدينتكم العصرية المجنونة ، وعندما أهرب منها تتعقبني عبرخيوط العنكبوت وورق الحلفا ... لذلك فررت إلى جهنم بنفسي فقط ...
الطريق إلى جهنم ليست كما تتوقعون... وكما وصفها لنا الدجالون الذين يصورونها لنا من خيالهم المريض ... أصفها لكم أنا الذي سلكتها بنفسي مرتين ، وتمكنت من المنام والراحة في قلب جهنم... وأقول لكم إني جربت ذلك ، وكانت أجمل ليلتين في حياتي تقريباً هما اللتان قضيتهما في قلب جهنم بنفسي فقط...
إن ذلك أفضل عندي ألف مرة من معيشتي معكم... أنتم تطاردونني وتحرمونني من الراحة مع نفسي ، فاضطررت للهروب إلى جهنم..
إن الطريق إلى جهنم مفروش بالبساط الطبيعي على امتداد الأفق ، وأنا أشق طريقي نحوها بفرح وغبطة ... وبعد انحسار البساط وجدتها مفروشة بالرمل الناعم... وصادفتني اسراب من الطيور البرية من نفس الأنواع التي تعرفونها ، بل وجدت حتى بعض الحيوانات المستأنسة ترتع وتفلا... ولكني فوجئت بانحدارات شديدة أمامي ، وأرض منخفضة .
حتى توقفت بتردد ، وإذا بجهنم تطل من الأفق، ليست حمراء كالنار... وليست ملتهبة كالجمر... وقفت لا خوفاً من التقدم نحوها... فأنا أحبها وأرغب في وصالها ، فهي الملاذ عندما تطاردونني في مدينتكم المثلثة ...
وعندما تراءت لي من الأفق أمامي كدت أطير من الفرح ... وقفت لأسلك أقصر الطرق إليها .. وأخترت اقربها إلى قلبها... ولعلي اسمع لها زفيراً ، ولكن جهنم ساكنة تماماً وهادئة للغاية ... وثابتة كالجبال التي حولها... ويحيطها سكون عجيب... ويلفها وجوم رهيب... لم أر لهباً ولكن الدخان فقط يخيم فوقها...
انحدرت نحوها بشوق... مسرعاً في الخطى قبل مغيب الشمس... أملاً في الحصول على مرقد دافئ في قلبها قبل محاصرتي بحراسة جحيمكم التي انطلقت ورائي دون وعي مستخدمة أحدث وسيلة... وأقدم استعمالاً...!
أخيراً اقتربت جداً من جهنم ... واستطعت مشاهدتها عن كثب .. وأستطيع الآن أن أصفها لكم كما شاهدتها .. وأستطيع أن أجيب على أي استفسار يتعل بجهنم ، وموقعها ، وماهيتها ، وطقسها ...
واليكم ما شاهدته من الجهة الشرقية لجهنم التي اقتربت منها : أولاً لجهنم شعاب مظلمة ووعرة... ويخيم عليها الضباب ، وحجارتها سوداء محروقة منذ أقدم الزمان ، والعجيب حقاً هو أن الحيوانات البرية وجدتها تأخذ طريقها إلى جهنم قبلي فراراً منكم ، فحياتها في جهنم وموتها فيكم ..
تلاشى كل شيء من حولي ، عدا نفسي التي أحسست بوجودها أكثر من أي مكان وزمان آخر .. تقزمت الجبال... ويبست الأشجار ..وجفلت الحيوانات.. وغاصت في أدغال جهنم طلباً للنجاة .. وفراراً من الإنسان.. حتى الشمس حجبتها عني جهنم وأصبحت لا شيء .. لم يبق بارزاً إلا جهنم وأبرز ما فيها قلبها ، فاتجهت إليه دون صعوبة تذكر ..
أنا أيضاً ذبت في نفسي، ونفسي ذابت في ، واحتمى كل منا بالأخر ، وعانق كل منا الثاني وأصبحنا شيئاً واحداً ، لأول مرة ، لا لأن نفسي كانت خارجي ، ولكن جحيمكم لم يعطني فرصة لأخلو بنفسي وأتأمل معها... وأناجيها وتناجيني ..
فنحن ، أقصد أنا ونفسي كمجرمين خطيرين في مدينتكم ، تخضعونا للتفتيش والمساءلة ، وحتى بعد أن تثبت براءتنا وتعرف هويتنا ، تودعونا السجن ، وتطوقوننا بحرس شديد ، ومرادكم دائماً أن تحولوا حتى بيني وبين نفسي ، لأن ذلك يساعد في راحتكم أنتم واطمئنانكم .
ما أحلى جهنم من مدينتكم !!!
لماذا رددتموني مرة أخرى ؟.. أريد أن أعود إليها .. بل أرغب في أن أسكن فيها !
الذهاب إليها بدون جواز سفر...أعطوني نفسي فقط..حاولتم الحيلولة بيني وبين نفسي .. ولكني بفراري إلى جهنم انتزعت نفسي منكم أيها العبيد المرتشون..أيتها النسانيس والحرباوات والخزز... والكلاب المهاجرة الجرباء .
يامن تخنستم نحو نفسي بخطى الثعالب .. وخاطبتموها بعواء الذئاب ونظرتم إليها بعيون الحرباء...
يامن رقصتم على أيديكم طيشاً لأنكم نلتم منها .. وفكرتم في إتيان العمليات البيولوجية الخمس في مرقدكم.. وأطبقتم مخالب الذئاب وأسنان الكلاب الصفراء عليها ..
يامن كنتم تنوون امتهانها ، وتسيطر تلطيخات البطولة المسرحية المزيفة فوق رفاتها ، يا من ألقوا بكم في بالوعات المجاري السوداء مع الصراصير، وقلتم لها نحن نخوض في بحر المنايا بحثاً عن لؤلؤ التيجان !
ولطختم أسمالكم بدم الفكارين وقلتم لها كنا في المعركة..و قدمتم لها شهدكم فرأته غسلينا و لا اطمع منكم في شيء احتفظوا لانفسكم بورق صناديق القمامة... وتركت لكم خوذتي الذهبية في القاهرة .. تلك الخوذة الصولجانية التي انتزعتها من الوكيل بعد أن سمعت وقرأت عنها .. وإن خاتم شبيك لبيك يصنع من الذهب المرصعة به ... وأن الذي يلبسها يصبح سلطاناً في التو والحين .. ويستطيع الجلوس على كرسي الملك بدون إخفاء .. وتتنحى من أمامه الملوك والرؤساء والأمراء غضباً عنهم .. ويستطيع إحياء الطفلة معيتيقة بعد موتها ، وإحياء حتى عمر المختار وسعدون وعبد السلام أبومنيار والجالط الذين استشهدوا جنوداً مجهولين...
والذي يلبسها تصبح من بين يديه أربعة ألاف مليون دينار أو أكثر أو أقل بقليل ويمكنه التصرف فيها كما يريد!!..
عموماً يصبح في يده خاتم شبيك لبيك الذي تريده يأتيك.. إذا طلبت سلاحاً يصير بين يديك من البندقية إلى الصاروخ عابر الحدود.. وحتى السراب يكون رهن إشارتك ، ناهيك عن الميج والسيخوي .
وتقدر تحبس وتطلق من تشاء من الانجليز رغم أنف تاتشر... وفي نفس الوقت إذا لبست هذه الخوذة الصولجانية السحرية ، تستطيع النوم بكل كسل ، حتى ولو رأيت الذئب يفترس غنمك أمام عينيك المفتوحتين .
يمكنكم إذن النوم وعيونكم مفتوحة عدة سنوات، حتى ولو كنتم بين أكوام من الكناسة والأوساخ ، لقد سمعت من صوت العرب أنكم محرومون من هذه الإمكانية الخلاقة ، وقرأت عن الخوذة الفولاذية .. عفواً الصولجانية السحرية ...
وسمعت أن إبليساً يحمل رقم صفر زائد واحد قد استحوذ عليها مدعياً أنه ملاك ... وشهد له بذلك ( تشرشل ، وأتلي وترومان ) .. وصدقتم أنتم تلك الأكذوبة وانطلقت عليكم الخدعة .. وكان عاقبة أمركم خسرى .
إلى أن أحسست بحالكم ، وسمعت خطيب الجمعة في مساجدكم يقول : إن حالنا لا يخفى عليك ... وعجزنا واضح بين يديك .. ولا ملجأ إلا إليك.. لبيك .. لبيك ...