(الرفيق )
م يتركني هذا الرفيق لحظة واحدة طوال عمري !
صبي في مثل سني .. وسيم أنيق صغير الحجم ، سريع البديهة حاد الذكاء .. يتحدث عدة لغات بطلاقة و يغني أغاني غريبة لا أعرف من أين تعلمها .. لم يكن يدرس في المدرسة كما أخبرني ، فغالباً لا توجد في عالمه مدارس كما أفهمني .. و لكن توجد وسائل أخرى للتعليم و هي أفضل من وسائلنا و أكثر جدوى و الأهم أنها أسهل و أيسر و أسرع و أنجع .. فيكفي أن يردد الإنسان كلمة ما عدد معين من المرات ليلم بكل المعلومات و الموضوعات المتعلقة بهذه الكلمة مهما كثرت !
ورغم كل مميزات رفيقي هذا فإنه كانت توجد مشكلتين تنغصان علينا صداقتنا و رفقتنا الطيبة .. أولهما أننا لم نكن نلتقي إلا في الحمام .. فقد كان مصر على عدم الظهور إلا في الحمام .. و هذا بالنسبة لي كان حرية شخصية !
المشكلة الثانية كانت إصرار أمي و أبي على أن رفيقي هذا من عالم خيالي .. و أنه لا وجود له إلا في أوهامي .. و لكن أبواي كانا غير مقنعين في هذه المزاعم .. فرفيقي هذا كان له وجود مادي كامل .. جسم و طول و ارتفاع و سمك وحجم محدد وملامح ثابتة وظل ويشغل حيزاً من الفراغ .. فكيف يكون مجرد وهم .. لابد أن أبواي هما اللذين يتوهمان و لست أنا !
..............................
كبرنا معاً خطوة بخطوة و درجة بعد درجة .. و عندما وصلت إلى الصف السادس الابتدائي زاد طولي فجأة و أصبحت طويلاً نحيفاً قوي البنية .. و كذلك حدث هذا الأمر معه !
حتى الآن ؛ و رغم مرور خمسة أعوام على بداية تعارفنا و لقاءنا الأول المثير ؛ و هو لقاء سأروي لك الكثير عنه بعد قليل ؛ لم أكن قد فطنت إلى أن رفيقي الغامض هذا يشبهني كثيراً .. فلم أكن أعبأ كثيراً بتفحص ملامحه بقدر ما كنت أحب الإنصات إلى حديثه المشوق المليء بالمعلومات الغريبة و المعارف العجيبة التي لا أعرف من أين و لا كيف حصلها .. حتى أصواتنا لم أدرك أنها متقاربة و متشابهة .. و لعل ذلك يرجع إلى حقيقة يجهلها كثير من الناس و هي أن الإنسان ؛ غالباً ؛ لا يسمع نبرة صوته الحقيقي بأذنيه لذلك فهو إذا ما سمع صوتاً مشابهاً لصوته لا يدرك هذه الحقيقة و لكن يدركها الآخرون ..
وهكذا مضينا نتحدث معاً كل ليلة و نلعب و نغني و ندرس و نحلم معاً .. لا يعكر صفونا شيء سوى موقف والداي الغريب منه .. حتى قرر والداي عرضي على هذا الطبيب المقيت .. و لكنني كنت قد وعدتك بأن أحكي لك عن لقاءي الأول معه .. فأسمع يا سيدي وأنصت لعلك تستفيد !
..............................
كان عمري وقتها ست سنوات.. و رغم صغر سني حين مررت بهذه التجربة الفريدة إلا أنني ما زلت أذكرها ثانية بثانية و كأنها وقعت بالأمس فحسب .. ففي ليلة حارة من شهر يوليو أصابتني حمى غريبة و غلا جوفي بحرارة بالغة جعلتني مثل الأرنب المشوي .. و حضر الطبيب و كتب لي نحو سبعة أنواع من الأدوية كانت كلها ؛ و لله الحمد ؛ كريهة المنظر و مقززة الطعم .. المهم بقيت أمي بجواري طيلة الليل تعمل لي كمادات باردة و تعطيني الدواء مرة بعد مرة ، بينما كنت أنا راقداً في فراشي أتصبب عرقاً و قد انفتحت مثانتي كالبالون المثقوب ، فأخذت أتردد على الحمام كل دقيقتين .. و ظللت هكذا طيلة الليل حتى أصابني إرهاق أشد من الحمى ذاتها .. و قبل الفجر بساعتين استيقظت من نومي على منام غريب لا أعرف ما إذا كان حلماً أم كابوساً و كنت أتصبب عرقاً بغزارة و أشعر أن مثانتي موشكة على الانفجار ، بينما كانت أمي مستغرقة في نوم عميق على مقعد بجوار فراشي و قد هدها التعب و السهر فراحت في النوم و لم تعد تشعر بشيء حولها .. نهضت من فراشي بحذر محاولاً عدم إقلاق أمي المسكينة .. مشيت على أطراف أصابعي و خرجت من غرفتي فوجدت نور الصالة مطفأ ، و هذه لم تكن من عادة أمي التي كانت تترك لنا ؛ أنا و أخوتي ؛ نور الصالة مضاء طوال الليل حتى لا يخف أحدنا إذا ما أراد الذهاب ليلاً إلى الحمام .. المهم أنني دخلت إلى الحمام و أضأت النور .. و جلست إلى المرحاض .. و قبل أن أقضي حاجتي فوجئت بالنور ينطفأ من تلقاء نفسه .. ففزعت و نهضت من مكاني و ذهبت إلى زر النور و ضغطت عليه مرة و اثنتين و ثلاثة حتى أضاء أخيراً .. عدت للجلوس فوق المرحاض و بعد ربع ثانية أنطفأ النور مرة أخرى .. هنا فزعت حقاً و كدت أصرخ طلباً للنجدة و بلغ بي الفزع حداً جعلني أبول على الأرض و أنا واقف .. و لكنني لاحظت نوراً غامضاً ينعكس على المرآة رغم أن الحمام مظلم بالكامل .. اقتربت من المرآة بحذر لأعرف مصدر هذا الضوء المنعكس عليها .. لم يكن الضوء موزعاً عشوائياً فوق المرآة بل كان مرتسماً على شكل هالة ؛ أو بيضة ؛ وسط المرآة .. تطلعت ملياً لهالة الضوء هذه ، كنت مأخوذاً أكثر مني خائفاً أو مرعوباً .. أخذت أتطلع إلى المرآة فترة طويلة دون أن يحدث شيء حتى هممت بالانصراف عنها .. و لكن فجأة لمحت ظلاً خافتاً يتحرك داخل هالة الضوء هذه .. ارتعبت و نظرت خلفي لأني تخيلت أن هناك من يقف ورائي .. فلما نظرت خلفي تأكدت من عدم وجود أحد آخر سواي في الحمام .. اطمأننت قليلاً و عدت للتحديق في المرآة و هنا وجدت صورتي منعكسة في المرآة وسط هالة الضوء بالضبط .. تعجبت لأن موقعي بالنسبة لها لا يسمح بأن تتكون صورتي في وسطها تماماً .. شدني هذا الأمر الغريب فمددت يدي إلى ظلي المنعكس و لكن يدي بقيت ممدودة خمس دقائق كاملة دون أن يقدم ظلي على فعل المثل !
شعرت بشيء غريب يسحرني و يجذبني فاقتربت أكثر و أكثر من المرآة حتى ألصقت وجهي بها .. فتضخمت ملامحي و تورمت بشكل مثير للضحك .. و هنا وجدت نفسي أضحك .. أضحك و أضحك دون سبب واضح .. و لكن ظلي اللعين بقي صامتاً عابساً .. و ظللت أضحك حتى سرت إليه عدوى الضحك فأبتسم لي ابتسامة خفيفة .. مددت له يدي ففعل المثل حتى تلامست أيدينا في وسط المرآة و في قلب هالة الضوء الغامضة .. بعد ثانية كان هناك صبي صغير في مثل سني و حجمي يقف أمام المرآة مبتسماً لي بثقة و براءة ..
قال لي بصوته الجميل الذي يشبه تغريد العصافير تحت نافذتي :
- " كيف حالك ؟! "
فقلت له بثقة و قد تبخر خوفي و أحسست بشعور عجيب :
- " أنا بخير الآن .. شكراً لك ! "
..............................
في الصباح كنت سليماً معافى كالثور .. بل كان يمكنني أن أركل الثور نفسه لو أن أحداً طلب مني ذلك .. تعجبت والداتي و سعدت بذلك و أخذت تثني على براعة الطبيب و شطارته و مهارته و قالت لأبي و هي تمسد على شعري الأسود الناعم :
- " لقد شفي الولد على يديه في ليلة واحدة .. لن نلجأ لطبيب سواه مرة أخرى و سوف يكون طبيب أسرتنا الدائم ! "
غير أن ما لا تعلمه أمي أن الذي شفاني ليس براعة طبيبها الأحمق ؛ الذي كاد يقتلني بأنواع غير مناسبة من الأدوية كما قال لي صديقي الجديد ؛ و لا يحزنون .. بل هي بركات صديقي الجديد و قدراته الخارقة ، فقد جعلني أقع على ساقي في الحمام وأعطاني نقطة من سائل أسود غليظ بدون طعم .. و بعد أن شربتها مباشرة تبولت كمية ضخمة من سائل أخضر زلالي مقزز و بعدها شعرت براحة عميقة لم أشعر بها منذ أن غادرت رحم أمي .. عندها قال لي صديقي بوجهه الطيب الباسم :
- " لن تصبك أي أمراض أبداً بعد الآن ! لقد استللت استعداد جسدك للإصابة بالأمراض إلى الأبد ! "
و فعلاً .. فحتى وصلت إلى المدرسة الثانوية لم أصب بأي من أنواع الأمراض المنتشرة ..لا صداع و لا أنفلونزا ولا لوز ولا التهابات و لا زائدة دودية ولا أي شيء !
..............................
لم يستطع الطبيب النفسي أن يفعل أي شيء حيال موضوع صديقي ( الخيالي ) هذا !
حاول كثيراً ؛ و عبر جلسات علاج نفسي طويلة مرهقة ؛ أن يفهمني أن صديقي هذا مجرد وهم اخترعته من خيالي لأستحوذ على اهتمام والداي خاصة بعد وصول شقيقي التوأم الصغيرين ؛ اللذين استحوذا على اهتمام أمي و وقتها ؛ و لأكتسب أهمية خاصة في الأسرة .. و أخذ يحدثني عن عقلي الباطن و عقلي الواعي و الرغبات المكبوتة المكتومة في اللاشعور .. و كل هذا الهراء الذي يردده تلاميذ ( فرويد ) النجباء كلما واجههم ما يجهلونه من أسرار الكون و الطبيعة البشرية التي لا يريدون أن يعترفوا بتميزها و تفردها عن سائر مخلوقات الله .. و لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بجهلهم فيلقون به على المرضى المساكين الذين يخرجون من عيادتهم بدستة أمراض نفسية زائدة عما دخلوا به !
فالمشكلة الرئيسية لم تكن في أنا .. بل كانت في إصرار أبي و أمي و إخوتي و الطبيب على أن صديقي هذا غير موجود .. دون أن يحاولوا مناقشة الأمر جدياً أو البحث عن الحقيقة لكي يريحوا أنفسهم .. حتى واجهتهم الحقيقة التي يرفضون الاعتراف بها !!
..............................
حدث هذا عندما كنت في المرحلة الثانوية .. مرحلة الموت و الفشل أو التشبث بالحياة و النجاة كما حورتها وزارة تعليمنا الرشيدة .. و بالتحديد