علاج قسوة القلوب
قال العلماء … علاج قسوة القلوب من وجوه :
أولاً : تلاوة القرآن وذكر الله .
قال تعالى : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" [ الأنفال/2 ] .
وقال تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين " [ يونس/57 ] .
وقال جل وعلا : " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا " [ الإسراء /82 ] .
فأرشدنا الله جل وعلا إلى أن الدواء الناجع الذي تطيب به القلوب القاسية هو ذكر الله تعالى ، وأعظمه تلاوة القرآن الكريم فإنَّه حياة القلوب ، والقلب الذي ليس فيه شيء من القرآن قلب خرب عشعشت فيه الشياطين ، قلب أغلف ، قلب محجوب عن رحمة الله تعالى .
ثانياً : صدق التضرع إلى الله ودوام اللجأ إليه والتباكي بين يديه.
فعليك بالإخلاص فإنه خلاصك ، ودوام الإنابة إلى رب العالمين ، واستحضر الموت أمام عينيك وهول المنقلب ، وعظيم جنايتك التي حالت بينك وبين ربك ، واستعن في ذلك بقراءة آيات الوعيد ، وقراءة الكتب التي تصف لك الدار الآخرة ، أو سماع الأشرطة التي يخشع لها قلبك ، وقم بين يديه ـ جل جلاله ـ مظهراً فقرك وشدة احتياجك إليه ، ولا بأس من أن تتباكى حينئذٍ إن لم تسعفك العبرات في مثل ذلك المقام ، ويمكنك أن تستعين ببعض الأدعية المأثورة .
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ يَدْعُو يَقُولُ : رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا ، لَكَ ذَكَّارًا ، لَكَ رَهَّابًا ، لَكَ مِطْوَاعًا ، لَكَ مُخْبِتًا ، إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي ، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي ، وَأَجِبْ دَعْوَتِي ، وَثَبِّتْ حُجَّتِي ، وَسَدِّدْ لِسَانِي ، وَاهْدِ قَلْبِي ، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي .
ثالثاً : حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير والتخويف والترغيب .
فلابد أن تقلع عن مجالس السوء ؛ فإنها من أعظم الأسباب الجالبة لقسوة وفساد القلب ، وبشكل عام لابد من الحذر من الخلطة السيئة فإنَّها من أشد أنواع الداء ، ولا يكون ذلك إلا بعكوف القلب واستكانته حيث رحمات الله المنزلة ، حيث يأنس بالاستماع إلى أخبار الصالحين فإن ذلك مما يلين القلوب وينجع فيها، إنها مجالس العلم ، والعلم عبادة القلب .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ " .. مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ .."
رابعاً : ذكر الموت
فيكثر من ذكر هادم اللذات ، ومفرق الجماعات ، وميتم البنين والبنات.
وقد كان رسول الله يتعاهد قلوب أصحابه بتذكيرهم بالموت .
فعن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ …"
قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي ، ويلين القلب القاسي ، ويذهب الفرح بالدنيا ويهون المصائب فيها ، إذ كفى بالموت واعظا وكفى به مفرقا ، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نُغِّص عليه لذته الحاضرة ، ومنعه من تمنيها في المستقبل ، وزهَّده فيما كان منها يؤمل ، إذ حب الدنيا رأس كل خطيئة ، والتعلق بالدنيا من أشد ما تقسو به القلوب ، والنفوس الراكدة والقلوب الغافلة تحتاج إلى بالغ الموعظة ونهاية السبل الموقظة ، وذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية ، والتوجه في كل لحظة إلى تلك الدار الباقية .
ولما كان طول الأمل السبب الرئيس في قسوة القلوب قال تعالى : " فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ " [الحديد/16] ، كان لذكر الموت أثره البالغ في قصر الأمل
واذكر الموت تجد راحة في إذكار الموت تقصير الأمل
كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة : الرحيل الرحيل ، فلما توفي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه فقيل : إنه قد مات فقال :
مازال يلهج بالرحيل وذكره حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظـا مـتشمرا ذا أهبة لم تلهه الآمال
الخامس : مشاهدة المحتضرين
وقد كان من هديه زيارة المحتضرين .
فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ : كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ قَالَ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ .
قال أهل العلم : إن في النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته وتأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذتها ، ويطرد عن القلوب سكراتها ، ويمنع الأجفان من النوم ، والأبدان من الراحة ، ويبعث على العمل ، ويزيد في الاجتهاد والتعب.
فهذه خمسة أمور ينبغي لمن قسا قلبه ولزمه ذنبه أن يستعين بها على دواء دائه ، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وإغوائه ، فإن انتفع بها فذاك ، وإن عظم عليه ران القلب واستحكمت فيه دواعي الذنب فعليه بالأمر السادس ، وهنا محل الشاهد .
السادس : زيارة قبور الموتى
فإنها تبلغ في دفع قسوة القلب ما لا يبلغه غيرها ، فزيارة القبور لها تأثير عظيم ، فوجودها أسرع ، والانتفاع بها أليق وأجود ، ولكن الزيارة تكون بآدابها ، فينبغي عليه أن يحضر قلبه في إتيانها وينوى صالحاً ، فيقصد بزيارته وجه الله تعالى ، وإصلاح فساد قلبه ويعتبر .
يقول رسول الله : " … فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ " وفي رواية
" فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ "