هل القبلات المحرمة يمكن أن تكون حلا مؤقتا لتفريغ طاقات الشباب المكبوتة على أساس أنها من صغائر الذنوب التي تكفرها الحسنات؟؟
إن غياب المنهج العلمي الذي يقوم على قواعد ثابتة وآليات عمل منطقية يوقع صاحب الدعوة في إشكاليات علمية ومنهجية تؤثر سلبا على بحثه ودعوته. فهل يمكن أن يفتي عالم دين بإباحة القبلات بين الشباب والفتيات باعتبارها من صغائر الذنوب التي تكفرها الحسنات، وعلى أساس أنها من [اللمم] المستثنى في قوله تعالى في سورة النجم [الآية32]:
"الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ....."؟؟!
صحيح أن كثيرًا من علماء السلف [سنة وشيعة] ذهبوا إلى أن كلمة [اللمم] تعني صغائر الذنوب، ومنها النظرة، والغمزة، والقبلة، والمضاجعة، والمباشرة [دون فعل الزنا نفسه]، ولكن هل يُعقل أن يكون أحد منهم قد أفتى بإباحة هذه المقدمات كحل جزئي لتفريغ الطاقات المكبوتة بين الشباب نظرًا لتأخر سن الزواج، وافتقاد الوظيفة المناسبة التي تمكنهم من تحمل أعباء وتكاليف الحياة الزوجية، وغير ذلك من الضغوط الاجتماعية، وهم يعلمون أن الإصرار على فعل السيئة [كالقبلة المحرمة مثلا] يجعلها من الكبائر التي يجب اجتنابها أولا حتى يغفرها الله تعالى كسيئة استنادا إلى قوله تعالى: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يذْهِبْنَ السَّيئَات»"؟؟
إذن فهناك فهم خاطئ لما أورده علماء السلف من تفسير لمعنى كلمة [اللمم] أدى إلى إخراج معناها من سياقه [اللغوي] وتوظيفه حسب هوى أنصار الإباحية. وكذلك استنادهم إلى بعض المرويات المفتراة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والتي تخدم هذا التوجه الإباحي. والذي يؤكد هذا الفهم الخاطئ أن القرآن الحكيم قد جاء بدستور أخلاقي، وبضوابط وحدود، يستحيل معها أن يسمح بمثل هذه الإباحية التي تؤدي إلى الوقوع في الكبائر لا محال. ومن هذه الضوابط:
أولا: يقول الله تعالى في سورة النور:
"وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ...."[الآية33].
فلم يقل الله تعالى فليفرغ الذين لا يجدون نكاحا طاقاتهم المكبوتة، بممارسة القبلات والأحضان .... حتى يغنيهم الله من فضله بالزواج!! وحين أمرهم الله تعالى بالاستعفاف أمرهم وقد وضع لهم نظاما ومنهجا لحياتهم وتعاملاتهم يحمي غرائزهم من أن تثار أو تهيج، رحمة بهم، وحتى لا يقعون في معصية الله وهم في سكرة هذه الغرائز المشتعلة.
لقد جاء القرآن الحكيم يضع للناس المنهج والنظام الذي يحميهم أصلا من الوقوع في الذنوب، ويساعدهم على اجتنابها، وعدم الاقتراب من حدودها. وهنا لنا أن نتسأل:
هل يعني الأمر الإلهي باجتناب الذنوب أن يكون المحرم فعله هو [الذنب] نفسه فقط، أما مقدماته التي تؤدي إلى اقترافه فلا شيء عليها؟! وهل عدم وجود عقوبات على فعل هذه [المقدمات] يؤكد أنها من صغائر الذنوب المباح فعلها، ولكن بشرط أن يتوب الإنسان منها بعد كل مرة يفعلها؟! فهل إذا قال الله تعالى في سورة النساء:
"إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [31].
وقال في الآية [48]:
"إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً".
هل معنى ذلك أن العبد ما دام يجتنب الكبائر فإن الله تعالى يكفر عنه ما يفعله من سيئات [ما دون الشرك] عن عمد وإصرار دون توبة، أم أن التوبة شرط لتكفير السيئات؟! وإذا كانت التوبة شرطا لتكفير السيئات، فهل يحل للمسلم أن يفعل السيئات بنية التوبة بعدها؟! وماذا لو أنه أصر على فعلها؟!
إن أحكام الشريعة الإسلامية [المتعلقة بضبط شهوات النفس] جاءت أصلا لحماية النفس من الوقوع في شراك السيئات، وذلك بالنهي عن [الاقتراب] من حدودها، وليس فقط بالنهي عن [ارتكابها]. تدبر قول الله تعالى في سورة الأنعام:
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً .... وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .... ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [151] وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ...." [152].
وتدبر قوله تعالى في سورة الإسراء:
".... وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً" [32].
ونلاحظ هنا أن الله تعالى لم يقل "ولا تفعلوا الزنى"، وإنما قال "ولا تقربوا الزنى".
وكما نهت أحكام الشريعة عن الاقتراب من السيئات أمرت أيضا باجتنابها، فقال تعالى في سورة المائدة:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [90].
وقال تعالى في سورة الشورى:
"وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ" [37].
حتى الظن السيئ الذي محله القلب أمرت الشريعة باجتنابه، فقال تعالى في سورة الحجرات:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ....." [12].
فهل تنسجم هذه المنظومة الوقائية مع فتوى إباحة القبلات؟؟!!
ثانيا: لقد وضعت الشريعة الإسلامية ضوابط لوسائل الإدراك باعتبارها منافذ إثارة الشهوات، فقال تعالى في سورة النور:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [30] وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ..." [الآية31].
فهل يرى أنصار إباحة القبلات أن على المسلم والمسلمة اللذان سيأخذان بهذه الرخصة أن [يغضا البصر] قبل ممارسة هذه القبلات، التزاما بأحكام الشريعة الإسلامية، وحتى لا يقعان في ذنب آخر وهما لا يدريان؟؟!! وإذا قاما [بغض البصر] فهل يمكن أن يؤتي هذا الغض ثماره مع ما كشف عنه العلم من مدى تأثير القبلة على الجهاز العصبي للطرفين؟؟
يقول الدكتور عبد الهادي مصباح في مقال له بصحيفة المصري اليوم، في ٢/٣/ ٢٠٠٨، بعنوان [القبلات يا أستاذ جمال] مبينا تأثير القبلة على الجهاز العصبي إلى حد لا يستطيع الإنسان بعد فترة من تفاعلها مع الطرف الآخر أن يكتفي بها: "أما عن التأثير الفسيولوجي للقبلة، فالشفاة تحتوي علي أكبر عدد من المستقبلات الحسية التي تتمثل في الجزء الأكبر من مركز الإحساس في المخ، وب فالقبلة تفجر إفراز سلسلة من الموصلات العصبية والكيميائية والهرمونية التي تنطلق من خلال الملامسة بالشفايف، فتؤدي إلي الإثارة والهياج الجنسي، والإحساس بالقرب الحميمي، ليس هذا فحسب، بل إن تأثيرها يمتد ليشمل المراكز التي تؤثر عليها المخدرات والمنشطات المسببة للإدمان من خلال إفراز مادة الدوبامين، وعملها علي مراكز الرضا والحافز والسرور في المخ" ا.هـ
ثم تدبر كيف نهى الله تعالى المرأة عن كل فعل من شأنه أن يظهر زينتها الخفية، فما بالنا بالقبلات!! فيقول الله تعالى استكمالا للآية [31] من سورة النور:
"... وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [31].
وحتى القواعد من النساء، اللاتي من المفترض ألا يحركن شهوة عند الرجال منهيات عن إبداء زينتهن الخفية، فقال تعالى في نفس السورة:
"وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [60].
بل ولقد وجه الله تعالى الخطاب لنساء النبي يأمرهم فيه بعدم الخضوع بالقول حتى لا يصادف هذا الخضوع قلبا مريضا، فتتحرك شهوته بسبب ذلك. فيقول تعالى في سورة الأحزاب:
"يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً [32].
فكيف يكون مجرد خضوع المرأة بالقول محرما في الشريعة الإسلامية، خشية أن يصادف قلبا مريضا فيفتن به وتهيج غرائزه، ثم نأتي نحن اليوم لنبيح للشباب والفتيات القبلات كعلاج للضغط والكبت الجنسي الذي يعانون منه بسبب ظروفهم الاجتماعية التي لا تمكنهم من الزواج؟! وإذا كانت جميع المجتمعات تعاني من تصرفات أصحاب هذه القلوب المريضة التي تتأثر بتصرفات النساء وكلامهن اللين، أو بحركات أجسادهن المثيرة للشهوات [وقد تكون هذه التصرفات من طبائعهن لا يقصدن من ورائها إثارة الرجال] فإن هذا يدعونا إلى إخراج هذه الآية من سياقها الخاص بنساء النبي إلى التشريع العام الصالح لكل زمان ومكان، للمحافظة على سلامة المجتمعات وضبط سلوكيات أفرادها.
لقد نشرت صحيفة جاكرتا بوست الإندونيسية خبرًا بعنوان "السجن عشر سنوات عقوبة القبلة في إندونيسيا" تقول فيه: "من المتوقع أن يصدر في إندونيسيا قانون للعقوبات يجعل القبلة في الطريق العام جريمة عقوبتها السجن لمدة تصل إلى عشر سنوات مع غرامة مالية بحد أقصى 32 ألفاً و800 دولار. ويأتي مشروع تعديل القانون في إطار سلسلة من الإجراءات تهدف إلى حماية الأخلاق ومنع الرجال والنساء من الإقامة سويا خارج نطاق الزواج، مما يستوجب مداهمات للمنازل المشتبه فيها". [شبكة الأخبار العربية، الثلاثاء19/2/2008].
والغريب أنه في الوقت الذي بدأت فيه بعض الدول الإسلامية في وضع سلسلة من الإجراءات لحماية مجتمعاتها من الأفعال الفاضحة في الطريق العام، وخاصة القبلات، نأتي نحن وننصح الدول بتخصيص [هايد بارك] يمارس فيه الشباب هذه القبلات علنا لأن منعها فيه خطر عليهم!! فهل يتفق ذلك مع الضوابط السابق بيانها، والتي فرضتها الشريعة الإسلامية على وسائل الإدراك لحمايتها من استقبال ما لا يحمد عقباه؟!
ثالثا: نأتي إلى الآية التي وردت فيها كلمة [اللمم] والتي أثيرت حولها الشبهات.
يقول الله تعالى في سورة النجم، مبينا صفات المحسنين:
"الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ...." [النجم32]
لقد فهم أنصار إباحة القبلات أن كلمة [اللمم] في هذه الآية تعني السيئات الصغيرة، ومنها القبلة والضمة والمضاجعة ...، وما دامت الحسنات يذهبن السيئات، إذن فلا بأس من إباحة ذلك لمن لم تتيسر لهم ظروف وإمكانات الزواج، بشرط أن يكثروا من الحسنات لتكفر عنهم سيئاتهم. وهذا طبعا فهم معوج لنصوص الذكر الحكيم، لما يلي:
إن مصطلح [صغائر الذنوب] لم يرد ذكره في القرآن مطلقا كمقابل لـ [كبائر الذنوب]. إن الجزاء ليس على حجم الذنب وإنما على آثاره، فقد يقول الإنسان كلمة لا يلقي لها بالاً تكون ثمرتها مفاسد عظيمة. وقد تختلف آثار اقتراف السيئات على المجتمع باختلاف مقام ومكانة فاعليها. فجزاء إتيان نساء النبي الفاحشة غير جزاء إتيان غيرهن. يقول الله تعالى في سورة الأحزاب:
"يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [30]
والجزاء على ارتكاب السيئة في المسجد الحرام يختلف عن ارتكابها في مكان آخر. يقول الله تعالى في سورة الحج:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [25]
رابعا: لقد سمى الله تعالى الكبائر، التي يجب ألا يقترب من حدودها عباد الرحمن، بالسيئات، فإذا وقعوا فيها فعليهم بالتوبة والإيمان، والعمل الصالح، فقال تعالى في سورة الفرقان:
"إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [70]
وطبعا من شروط هذه التوبة أن يعاقب المسيء على ذنبه، إن كان القرآن قد نص على عقوبة لهذا الذنب. وهذا دليل على أن التوبة لا تقبل من إنسان يصر على فعل السيئة وفي نيته أن الحسنات سيذهبن هذه السيئات!!! فالإنسان إذا ترك نفسه تعيش الخواطر السيئة حتى تحيط به، وتصبح جزءا من تفكيره، فإن هواه سيدفعه يوما لا محالة إلى ارتكاب الكبائر، ومن ذلك الشرك بالله تعالى. يقول الله تعالى في سورة الفرقان:
أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [43] أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [44]
وتدبر قول الله تعالى في سورة البقرة مخاطبا بني إسرائيل ومبينا كيف تتحول السيئة إلى كبيرة:
"وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [80] بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [81]
فانظر كيف أن ارتكاب سيئة واحدة، ثم الإصرار عليها، يدخل صاحبها جهنم خالدا فيها. فالسيئات كلها سميت باسم نفس الذنوب، بداية بالشرك بالله وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق .....، وانتهاء بخواطر وحديث النفس [أي الذنوب القلبية].
خامسا: وهل سيحاسب الله تعالى الإنسان على خواطره النفسية وذنوبه القلبية، والتي هي معنى من معاني "اللمم"؟؟
يقول الله تعالى في سورة البقرة: "لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [284].
ويقول تعالى في سورة الأنعام:
"وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [120].
ويقول تعالى في نفس السورة:
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [151].
وتدبر قوله تعالى في سورة الأعراف:
"قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [33].
فإذا ذهبنا إلى علماء اللغة لنتعرف على المعنى اللغوي لكلمة [اللمم] وجدنا أن من معانيها قولهم: إن كلمة [اللمم] في الأصل مأخوذة من الإلمام ومعناها الاقتراب من شيء دون أدائه. وهو الهم بالمعصية من جهة مقاربتها في حديث النفس بها من غير مواقعتها، وهو ما خطر على القلب. فأصل [اللمم] أن يلم الإنسان بالشيء من غير أن يرتكبه، يقال: ألم بكذا، إذا قاربه ولم يخالطه .... والعرب تستعمل الإلمام في المقاربة والدنو، يقال: ألم يفعل كذا، بمعنى: كاد يفعل. [انظر لسان العرب، معاني القرآن للفراء، المفردات للراغب الأصفهاني].
وإذا تدبرنا الآيات السابقة وجدناها تتحدث عن فواحش وآثام ظاهرة وباطنة. فأما الظاهرة فالأمر باجتنابها معروف. فماذا عن اجتناب الفواحش والآثام الباطنة المحرمة في قوله تعالى:
"قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ...." [الأعراف33]؟؟
وهل هناك علاقة بين المعنى اللغوي لكلمة [اللمم] السابق ذكره، واجتناب هذه الذنوب الباطنة، في قوله تعالى في سورة النجم:
"الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ....." [الآية32]؟؟؟
علينا أولا، وقبل أن نجيب على هذا السؤال، أن نتفق على عدة حقائق:
أ) إذا كانت الذنوب الباطنة مجرد خواطر عارضة، ومما لا يستطيع الإنسان تجنبه، فهذه لا مؤاخذة بها، إذ لا طاقة للمكلف بصرفها عنه.
ب) وإذا كانت هذه الذنوب مما تتمناه النفس، ولكنها لا تقدر على فعله لعدم توافر الظروف الإمكانات المحققة لذلك، فهذا لاشك سيحاسب عليه الإنسان إن مات وهو على هذا الحال. أما إذا خرجت هذه الذنوب من دائرة القلب إلى فعل الجوارح، فإن الحساب لاشك سيكون مختلفا.
ج) أما إذا كانت هذه الذنوب مما يتعلق بملة التوحيد وإخلاص العبودية لله تعالى، وغير ذلك مما أساسه الإرادة الذاتية والعزم القلبي، فإن المؤاخذة به تتوقف على مدى تمكن ذلك من النفس، والآثار المترتبة عليه. مثال ذلك:
ــ الذنوب المتعلقة بالأيْمان [وأصلها عقد القلب] حيث يقول الله تعالى في سورة البقرة:
"لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ ...." [الآية 89].
ويقول تعالى في نفس السورة:
"لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ" [225].
ــ الذنوب المتعلقة بكتمان الشهادة [وأصلها عقد القلب] حيث يقول الله تعالى في سورة البقرة:
".... وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [283]
ــ الذنوب المتعلقة بحب إشاعة الفاحشة [وأصلها عقد القلب] حيث يقول الله تعالى في سورة النور:
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [19]
وغير ذلك من الذنوب القلبية التي منها ما يدخل في طوق المكلف أن يصرفها عن نفسه، ومنها ما لا يستطيع أن يصرفها حتى تأمره بالسوء فيفعله، أو يفعل مقدماته، كمسألة القبلة والضمة والمضاجعة .... إلى آخره، ثم يتذكر الله، فيندم على فعله، ويتوب إلى ربه، ويعزم على عدم العودة إليه أبدا.
فإن كانت هذه الذنوب من مقدمات كبائر الإثم والفواحش، فهذا هو [اللمم] المستثنى من كبائر الإثم والفواحش التي أمر الله باجتنابها في آية سورة النجم، والتي عقب عليه بقوله تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ".
سادسا: إن المحور الأساس في كل ما سبق بيانه، والذي يدور حوله ضعف الإنسان ومعصيته لربه، هو عدم الإصرار على هذه المعصية. تدبر قوله تعالى في سورة آل عمران:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [135]
والفاحشة: من كبائر الذنوب [ظاهرة كانت أم باطنة] والتي تتعدى آثارها إلى الغير. وظلم النفس: اقترافها الذنوب التي لا تتعدى آثارها ذات النفس. وسواء كان الذنب فاحشة أو ظلما للنفس، فإن الله تعالى يحذر من الإصرار عليه. وفي هذا السياق يقول تعالى في سورة النساء:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [17]
وتطلق الجهالة على ظلم النفس إذا تُركت حتى تطغى غرائزها الجامحة. تدبر قوله تعالى، حكاية عن يوسف:
"قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ [33]
فقوله تعالى: "أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ" بيان بأن عمل السوء لا يكون إلا مصاحبا لظلم النفس. وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجهل [الذي هو انتفاء العلم] لأن ذلك لا يسمى جهالة، وإنما هو من معاني لفظ الجهل، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنها معصية لم يكن آثما ولا يجب عليه إلا أن يتعلم ذلك ويتجنبه فيما بعد.
لذلك عندما يدعو الإنسان ربه قائلا: "رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا"، فإنه لا يقصد الخطأ والنسيان اللذان يقعان عن جهل أو عدم إرادة، وإنما ما كان للإنسان دور وإرادة في فعله. يقول الله تعالى في سورة النساء:
وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [18]
فهؤلاء الذين يصرون على عمل السيئات حتى يأتيهم الموت بغتة فيرون سكرته وعلائمه، هؤلاء لا تقبل توبتهم. لذلك كان على الإِنسان ألا يؤخر توبته، فقد يأتيه الأجل على حين غفلة، فتغلق في وجهه أبواب التوبة، ويتساوى مع الذين يموتون وهم كفار.