.ولكن صبرا على وانتظروا قليلا....فكاتب المقال لم يقل تلك العبارة من عندياته وانما اقتبسها من القران الكريم:
(ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ) الدخان-...48
فالقرءان الكريم يستخدم اسلوبا يسمى ..((المفارقة))...وهو يعنى ان المنطوق يرمى الى معنى اخر يحدده الموقف التبليغى...وبذلك يكون المفارقة نوعامن التضاد بين المعنى المباشر للمنطوق والمعنى غير المباشر....ويقترب هذا المفهوم قليلا من المفارقة الدرامية...حيث تنطق الشخصية المسرحية بشئ له—عندها وعند الشخصية الاخرى التى تخاطبها—معنى ما...ولكن هذا الشئ الذى تنطق به له –عند المشاهدين-
معنى مختلف.....فالمفارقة هى(لغة الفكر والصلابة والبراعة وسرعة الخاطر)
وتتعدد صور المفارقة ووظائفها...ومنها ان تكون سلاحا للهجوم الساخر والتهكم والاستهزاء الذى يكمن فى قول نقيض الشئ المقصود قوله فعلا
كقولك للجاهل للاستهزاء به(يا عاقل)
فالتهكم كما يقول الزراكشى(اخراج الكلام على ضد مقتضى الحال
كقوله تعالى"(ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ) الدخان-...48))
وموضوع المقال الذى تحت بصرك يتناول اسلوب التهكم فى القران
ولم نجد من لا احد يصلح كمثال لهذا التهكم خير من --ابو جهل..العزيز الكريم---
---قالى تعالى فى محكم اياته:-
(( إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ } * { طَعَامُ ٱلأَثِيمِ } * { كَٱلْمُهْلِ يَغْلِي فِي ٱلْبُطُونِ } * { كَغَلْيِ ٱلْحَمِيمِ } * { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } * { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ } * { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } * { إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ))الدخان-48
--هذه الاية خطاب لابى جهل لانه قال
مابين جبليها-يقصد مكة-أعز ولا اكرم منى)) أورده الزركشى فى –البرهان-سخر القرءان من السادة كثيرا لينبه الاتباع الى حقيقتهم فى الدنيا فانه يسخر من حالهم فى الاخرة ليبين للعامة والاتباع مصيرهم فى الاخرة
وخطورة السخرية انها تتجه الى جوهر الشخصية بما تتضمن هذه الشخصية من كرامة وكيان اجتماعى ولو كان اتجاه السخرية اتجاه عداوة تقليدية عادية لكن اخف وطاة مهما يبلغ الضرر لكنه اتجاه احتقار والفرق بعيد بين-- العداوة والاحتقار—فانك قد تعادى شخصا بأى صورة من صور العداء وقد تبلغ كراهيتك أياه أى مبلغ ولكن فيما بينك وبين نفسك-تحترمه ولاتحتقره وقد تعترف له بفضائل رغم كرهك اياه....ولكنك حين تحتقر شخصا فمعناه أانك نزلت بقدره وانك لا تشعر نحوه باحترام وانك لا ترضى با يكون ندا للك او مكافئا...اما العداوة فان الاصل فيها التقارب والتكافؤ بين الخصمين ولما وصفت بأنها خصومة او عداوة...
واذا نظرنا الى نفسية المسخور منه حين يجد نفسه قد وضع فى هذا الموضع المهين سنرى مدى الايلام النفسى له وهذا ما تهدف اليه سخرية القرءان ازاء اعداء الله...فهى تلاحقهم فى كل موقع الامر الذى يحط من قدرهم ويحطم قوتهم المعنوية...بل ان اسلوب السخرية فى القران لايسمح لمن توجه اليهم بأن يرتقوا الى درجة العداء بل ولا الى درجة الادمية فى بعض الاحيان فتصورهم فى صورة الماشية احيانا....وفى صور اسوأ منها احيانا اخرى
ومن ذلك – اى من صور السخرية-هذه التى نحن معها....... فانها منصبة على شخص متميز....انزلته من موقع التعالى والقيادة الضالة على وصورته بمحل الاية موضوع البحث.
و الساخرة... تتمثل هنا... فى تعبير(ذ ق انك أنت العزيز الكريم) وهى طرافة تثير الفكاهة او العجب او الضحك لانها تفاجئ الذهن بما لم يكن يتوقع او بعكس ما كان يتوقع....
والذهن هنا يتابع وصف العذاب الرهيب الذى يعد لهذا السيد الذى يحتل وحده قمة السيادة فى المجتمع فى حياته الدنيا ويتابع الاهانة والاذلال
الذى يعامل به فى الاخرة....فقد أعد له عذاب فظيع ثم أخذوه الى هذا العذاب فى اسوأصور الاذلال لمثله(خذوه فاعتلوه الى سواء الجحيم)
والعتل هو الجذب فى عنف وقسوة وهذا أبلغ اهانة لهذا السيد وكذلك حين يقال(ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم)
وحينئذ يكون واضحا فى ذهن السامع ان كل ما سيأتى فيما يتعلق بهذا الزعيم لا بد ان يكون عذابا واذلالا قياسا من السياق السابق ولكنه يفاجأ
بأن الاسلوب يأخذ مجرى النقيض من السياق السابق حيث يقولون له
(ذ ق انك انت العزيز الكريم) وهذا التعبير يتضمن رفقا وتكريما لهذا الزعيم من ناحيتين:-
1-لفظ (ذق)فيه رقة ولطف حيث انه يستعمل فى اختبار طعم الاشياء ذات الطعم ومن يقوله يكون عادة واثقا من لذة طعم هذا الشئ فبائع الفاكهة لن يقول لك (ذ ق)بضاعته الا اذا كان واثقا من طيب طعمها....فكذلك حين يقال لهذا الزعيم (ذق) فأن الامر يقتضى الثقة من لذة طعم ما يقدم له.
وهذه سخرية بالغة من هذا الزعيم لان ما يقدم له لا يذاق اصلا..لانه نار تتلظى هذا فضلا عن ان ما يقدم اليه ليذوقه فحسب وانما ليملأمنه جوفه
2- تعبير(أنك أنت العزيز الكريم)...فيه اسلوب تاكيد...واسلوب قصر فالتاكيد بلفظ (أن)ومعناه تاكيد نسبة العزة والكرم الى هذا الزعيم—الذى هو الان فى حضيض الذل والمهانة—فينظر هذا الزعيم حوله يبحث عن المخاطب بهذه الصفة—فتأتى قمة السخرية باستخدام القصر فى (انت) اى انت وحدك المقصود دون غيرك...وهذه سخرية اشد من الاولى
فالسخرية هنا تتضمن القول :--
((لقد كنت فى الدنيا سيدا مطاعا...وكنت متفردا بالسيادة والعزة
فهل يغنى عنك اليوم هذاحيث كفرت وعصيت و وصددت عن سبيل الله؟))
واخيرا...مشهد الختام لا يخلوا هو ايضا من السخرية حين يقولون مشيرين الى العذاب(ان هذا ما كنتم به تمترون)اى انكم كنتم تكذبون بوجود العقاب فى الاخرة.....فهذا هو العذاب.
المراجع:
1-مشاهد يوم القيامة...سيد قطب
2- المفارقة القرانية.... د محمد العبد
3- الايضاح......للخطيب القزوينى
4-دلائل الاعجاز ....للجرجانى