قصيدةِ البُردةِ المباركةِ كاملةً
للإمام شرف الدين أبي عبد الله محمد بن سعيد البوصيري
مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ
أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَمِ
وأومَضَ البرقُ في الظَّلمـاءِ مِن اِضَمِ
أَم هَبَّتِ الريحُ مِن تلقــاءِ كــاظِمَةٍ
وما لقلبِكَ اِن قلتَ اسـتَفِقْ يَهِــمِ
فـما لِعَينـيك اِن قُلتَ اكْفُفَـا هَمَـتَا
ما بينَ منسَــجِمٍ منه ومُضْـطَـرِمِ
أيحَســب الصَبُّ أنَّ الحبَّ مُنكَتِــمٌ
ولا أَرِقْتَ لِــذِكْرِ البـانِ والعَلَـمِ
لولا الهوى لم تُرِقْ دمعـــا على طَلِلِ
به عليـك عُدولُ الدمـعِ والسَّـقَمِ
فكيفَ تُنْكِـرُ حبا بعدمـا شَــهِدَت
مثلَ البَهَـارِ على خَدَّيـك والعَنَـمِ
وأثبَتَ الـوَجْدُ خَـطَّي عَبْرَةٍ وضَـنَى
والحُبُّ يعتَـرِضُ اللـذاتِ بالأَلَـمِ
نَعَم سـرى طيفُ مَن أهـوى فـأَرَّقَنِي
مِنِّي اليـك ولَو أنْصَفْـتَ لَم تَلُـمِ
يــا لائِمي في الهوى العُذْرِيِّ مَعـذرَةً
عن الوُشــاةِ ولا دائي بمُنحَسِــمِ
عَدَتْـــكَ حالي لا سِـرِّي بمُسْـتَتِرٍ
اِنَّ المُحِبَّ عَنِ العُــذَّالِ في صَمَـمِ
مَحَّضْتَنِي النُّصْحَ لكِنْ لَســتُ أسمَعُهُ
والشَّـيْبُ أبعَـدُ في نُصْحٍ عَنِ التُّهَمِ
اِنِّي اتَّهَمْتُ نصيحَ الشَّـيْبِ فِي عَذَلِي
مِن جهلِـهَا بنذير الشَّـيْبِ والهَـرَمِ
فـانَّ أمَّارَتِي بالسـوءِ مــا اتَّعَظَت
ضَيفٍ أَلَـمَّ برأسـي غيرَ مُحتشِـمِ
ولا أعَــدَّتْ مِنَ الفِعلِ الجميلِ قِرَى
كتمتُ سِـرَّا بَــدَا لي منه بالكَتَمِ
لــو كنتُ أعلـمُ أنِّي مــا أُوَقِّرُهُ
كما يُرَدُّ جِمَاَحُ الخيــلِ بالُّلُـجُمِ
مَن لي بِرَدِّ جِمَــاح مِن غَوَايتِهَــا
اِنَّ الطعـامَ يُقوِّي شــهوةَ النَّهِمِ
حُبِّ الرّضَاع وَإِِِنْ تَفْطِمْهُ يَنفَطِــمِ
فـلا تَرُمْ بالمعاصي كَسْـرَ شـهوَتهَا
والنَّفسُ كَالطّفلِ إِنْ تُهمِلْه ُشَبَّ عَلَى
اِنَّ الهوى مـا تَـوَلَّى يُصْمِ أو يَصِمِ
فاصْرِف هواهــا وحاذِر أَن تُوَلِّيَهُ
واِنْ هِيَ استَحْلَتِ المَرعى فلا تُسِـمِ
وراعِهَـا وهْيَ في الأعمال سـائِمَةٌ
مِن حيثُ لم يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسَـمِ
كَـم حسَّــنَتْ لَـذَّةً للمرءِ قاتِلَةً
فَرُبَّ مخمَصَةٍ شَـــرٌّ مِنَ التُّـخَمِ
واخْشَ الدَّسَائِسَ مِن جوعٍ ومِن شِبَعٍ
مِن المَحَـارِمِ والْزَمْ حِميَـةَ َالنَّـدَمِ
واستَفرِغِ الدمعَ مِن عينٍ قَـدِ امْتَلأتْ
واِنْ همـا مَحَّضَـاكَ النُّصحَ فاتَّهِـمِ
وخالِفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِـمَا
فأنت تعرفُ كيـدَ الخَصمِ والحَكَـمِ
ولا تُطِعْ منهما خصمَا ولا حكَمَــا
أنِ اشـتَكَتْ قدمَــاهُ الضُّرَّ مِن وَرَمِ
ظَلمتُ سُـنَّةَ مَن أحيــا الظلامَ الى
تحتَ الحجارةِ كَشْــحَاَ ًمُتْرَفَ الأَدَمِ
وشَدَّ مِن سَغَبٍ أحشــاءَهُ وطَـوَى
عن نفسِـه فـأراها أيَّمَـــا شَمَمِ
وراوَدَتْــهُ الجبالُ الشُّـمُّ مِن ذَهَبٍ
اِنَّ الضرورةَ لا تعــدُو على العِصَمِ
وأكَّــدَت زُهدَهُ فيها ضرورَتُــهُ
والفريقـين مِن عُـربٍ ومِن عَجَـمِ
محمدٌّ سـيدُ الكــونينِ والثقَلَـيْنِ
أبَـرُّ في قَــولِ لا منـه ولا نَعَـمِ
نَبِيُّنَـا الآمِرُ النَّــاهِي فلا أَحَــدٌ
لكُــلِّ هَوْلٍ مِن الأهـوالِ مُقتَحَمِ
هُو الحبيبُ الــذي تُرجَى شـفاعَتُهُ
مُستَمسِـكُونَ بِحبـلٍ غيرِ مُنفَصِـمِ
دَعَـا الى اللهِ فالمُسـتَمسِـكُون بِـهِ
ولم يُـدَانُوهُ في عِلــمٍ ولا كَـرَمِ
فــاقَ النَّبيينَ في خَلْـقٍ وفي خُلُـقٍ
غَرْفَا مِنَ البحرِ أو رَشفَاً مِنَ الدِّيَـمِ
وكُــلُّهُم مِن رسـولِ اللهِ مُلتَمِـسٌ
مِن نُقطَةِ العلمِ أو مِن شَكْلَةِ الحِكَـمِ
وواقِفُـونَ لَدَيــهِ عنـدَ حَدِّهِــمِ
ثم اصطفـاهُ حبيباً بارِيءُ النَّسَــمِ
فَهْوَ الـــذي تَمَّ معنــاهُ وصورَتُهُ
فجَـوهَرُ الحُسـنِ فيه غيرُ منقَسِـمِ
مُنَـزَّهٌ عـن شـريكٍ في محاسِــنِهِ
واحكُم بما شئتَ مَدحَاً فيه واحتَكِـمِ
دَع مــا ادَّعَتهُ النصارى في نَبِيِّهِـمِ
وانسُب الى قَدْرِهِ ما شئتَ مِن عِظَـمِ
وانسُبْ الى ذاتِهِ ما شـئتَ مِن شَـرَفٍ
حَـدٌّ فَيُعـرِبَ عنـهُ نــاطِقٌ بِفَمِ
فَــاِنَّ فَضلَ رســولِ اللهِ ليـس له
أحيـا اسمُهُ حين يُـدعَى دارِسَ الرِّمَمِ
لو نـاسَـبَتْ قَـدْرَهُ آيـاتُهُ عِظَمَـاً
حِرصَـاً علينـا فلم نرتَـبْ ولم نَهِمِ
لم يمتَحِنَّــا بمـا تَعيَــا العقولُ بـه
في القُرْبِ والبُعـدِ فيه غـيرُ مُنفَحِمِ
أعيـا الورى فَهْمُ معنــاهُ فليسَ يُرَى
صغيرةً وتُكِـلُّ الطَّـرْفَ مِن أَمَـمِ
كـالشمسِ تظهَرُ للعينَيْنِ مِن بُــعُدٍ
قَــوْمٌ نِيَــامٌ تَسَلَّوا عنه بـالحُلُمِ
وكيفَ يُــدرِكُ في الدنيــا حقيقَتَهُ
وأَنَّــهُ خيرُ خلْـقِ الله كُـــلِّهِمِ
فمَبْلَغُ العِــلمِ فيه أنــه بَشَــرٌ
فــانمـا اتصَلَتْ مِن نورِهِ بِهِــمِ
وكُــلُّ آيٍ أتَى الرُّسْـلُ الكِـرَامُ بِهَا
يُظهِرْنَ أنـوارَهَا للنــاسِ في الظُّلَمِ
فـاِنَّهُ شمـسُ فَضْلٍ هُـم كــواكِبُهَا
بالحُسـنِ مشـتَمِلٌ بالبِشْـرِ مُتَّسِـمِ
أكــرِمْ بخَلْـقِ نبيٍّ زانَــهُ خُلُـقٌ
والبحرِ في كَــرَمٍ والـدهرِ في هِمَمِ
كالزَّهرِ في تَرَفٍ والبـدرِ في شَـرَفٍ
في عسـكَرٍ حينَ تلقاهُ وفي حَشَــمِ
كــأنَّهُ وهْـوَ فَرْدٌ مِن جلالَتِــهِ
مِن مَعْــدِنَيْ مَنْطِـقٍ منه ومبتَسَـمِ
كـــأنَّمَا اللؤلُؤُ المَكنُونُ في صَدَفٍ
طوبى لمُنتَشِـقٍ منـــه ومـلتَثِـمِ
لا طيبَ يَعــدِلُ تُرْبَـا ضَمَّ أعظُمَهُ
يـــا طِيبَ مُبتَـدَاٍ منه ومُختَتَـمِ
أبــانَ مولِدُهُ عن طِيــبِ عنصُرِهِ
قَــد أُنـذِرُوا بِحُلُولِ البُؤسِ والنِّقَمِ
يَــومٌ تَفَرَّسَ فيــه الفُرسُ أنَّهُـمُ
كَشَـملِ أصحابِ كِسـرَى غيرَ مُلتَئِمِ
وبـاتَ اِيوَانُ كِسـرَى وَهْوَ مُنْصَدِعٌ
عليه والنهرُ سـاهي العَيْنِ مِن سَـدَمِ
والنارُ خـامِدَةُ الأنفـاسِ مِن أَسَـفٍ
وَرُدَّ وارِدُهَـا بــالغَيْظِ حينَ ظَـمِي
وسـاءَ سـاوَةَ أنْ غاضَتْ بُحَيرَتُهَـا
حُزْنَـاً وبـالماءِ ما بـالنار مِن ضَـرَمِ
كــأَنَّ بالنـارِ ما بالمـاءِ مِن بَلَـلٍ
والحـقُّ يظهَـرُ مِن معنىً ومِن كَـلِمِ
والجِنُّ تَهتِفُ والأنــوارُ ســاطِعَةٌ
تُسمَعْ وبـــارِقَةُ الاِنذارِ لم تُشَـمِ
عَمُوا وصَمُّوا فــاِعلانُ البشـائِرِ لم
بــأنَّ دينَـهُـمُ المُعـوَجَّ لم يَقُـمِ
مِن بعـدِ ما أخبَرَ الأقوامَ كــاهِنُهُم
مُنقَضَّةٍ وَفـقَ مـا في الأرضِ مِن صَنَمِ
وبعـد ما عاينُوا في الأُفقِِ مِن شُـهُبٍ
مِن الشـياطينِ يقفُو اِثْــرَ مُنهَـزِمِ
حتى غَــدا عن طـريقِ الوَحيِ مُنهَزِمٌ
أو عَسكَرٌ بـالحَصَى مِن راحَتَيْـهِ رُمِي
كــأنَّهُم هَرَبَــا أبطــالُ أبْرَهَـةٍ
نَبْـذَ المُسَبِّحِ مِن أحشــاءِ ملتَقِـمِ
نَبْذَا به بَعــدَ تسـبيحٍ بِبَـطنِهِمَــا
تمشِـي اِليه على سـاقٍ بــلا قَدَمِ
جاءت لِــدَعوَتِهِ الأشـجارُ سـاجِدَةً
فُرُوعُهَـا مِن بـديعِ الخَطِّ في الَّلـقَمِ
كــأنَّمَا سَـطَرَتْ سـطرا لِمَا كَتَبَتْ
تَقِيـهِ حَرَّ وَطِيـسٍ للهَجِــيرِ حَمِي
مثلَ الغمــامَةِ أَنَّى سـارَ ســائِرَةً
وكُــلُّ طَرْفٍ مِنَ الكفارِ عنه عَمِي
وما حوى الغـــارُ مِن خيرٍ ومِن كَرَمِ
وهُم يقولون مـا بالغــارِ مِن أَرِمِ
فالصدقُ في الغــارِ والصدِّيقُ لم يَرِمَـا
خــيرِ البَرِّيَّـةِ لم تَنسُـجْ ولم تَحُمِ
ظنُّوا الحمــامَةَ وظنُّوا العنكبوتَ على
مِنَ الدُّرُوعِ وعن عــالٍ مِنَ الأُطُمِ
وِقَـــايَةُ اللهِ أغنَتْ عَن مُضَــاعَفَةٍ
اِلا ونِــلتُ جِـوَارَاً منه لم يُـضَمِ
ما سـامَنِي الدَّهرُ ضيمَاً واسـتَجَرتُ بِهِ
اِلا استَلَمتُ النَّدَى مِن خيرِ مُسـتَلَمِ
ولا التَمســتُ غِنَى الدَّارَيْنِ مِن يَـدِهِ
قَلْبَاً اِذا نــامَتِ العينـانِ لم يَنَـمِ
لا تُنكِـــرِ الوَحْيَ مِن رُؤيَـاهُ اِنَّ لَهُ
فليسَ يُنـكَرُ فيهِ حـالُ مُحتَلِــمِ
وذاكَ حينَ بُلُــوغٍ مِن نُبُوَّتِــــهِ
ولا نــبيٌّ على غيــبٍ بمُتَّهَـمِ
تبــارَكَ اللهُ مــا وَحيٌ بمُكتَسَـبٍ
وأطلَقَتْ أَرِبَــاً مِن رِبــقَةِ اللمَمِ
كَــم أبْرَأَتْ وَصِبَـاً باللمسِ راحَتُهُ
حتى حَكَتْ غُرَّةً في الأَعصُرِ الدُّهُـمِ
وأَحْيت السَــنَةَ الشَّــهباءَ دَعوَتُهُ
سَـيْبٌ مِنَ اليمِّ أو سَـيْلٌ مِنَ العَرِمِ
بعارِضٍ جادَ أو خِلْتَ البِطَـاحَ بهــا
ظهُورَ نـارِ القِرَى ليـلا على عَـلَمِ