في قفص صغير في زاوية الغرفة.. خمس بيضات ترقد فوقها بلبلة بديعة الألوان، تحضنها برفق وحنان، وتبعث فيها الدفء والأمان، تملؤها سعادة غامرة، تشعرك أنها تتباهى بما تملك، ويملؤها الأمل بالمستقبل.
مرت الأيام وفقست البيضات الخمس، عن خمسة بلابل صغيرة لم يكتمل جمال ريشها بعد، تفتح مناقيرها الغضة الصفراء لتلتقم غذاءها من منقار البلبل الأم، التي لا تخطئ في توزيع الغذاء على صغارها بالتساوي.
كبرت الفراخ قليلا، وامتلأ القفص بالحركة والضجيج. كانت البلبل الأم تحث بلابلها الصغيرة على الطيران داخل القفص المغلق لتحط فوق القصبة المستقيمة، أو تتعلق بشباك القفص، صعودا ونزولا، حتى بدأت البلابل الصغيرة تفعل ذلك في جد ونشاط.
كان الأطفال الصغار في المنزل يتابعون كل حركة تصدر من البلابل، وكان بعضهم يقلد رفرفات أجنحتها، وزقزقات مناقيرها، وهي تمتد نحو البلبل الأم لالتقاط الطعام، وربما ركض بعضهم نحو أمه وألصق فمه بفمها وهو يحرك يديه كالجناحين، فإذا لم يحظ بلقمة حظي بقبلة وضمة صدر حنون، تختلط فيها خفقات قلب الأم مع دقات قلب الصغير.
وكانت الأم تتأمل المشهد بأحاسيس يعجز اللسان عن التعبير بها.. منزل يضم أما وخمسة أطفال، وقفص يضم بلبلا وخمسة فراخ!! يا للتوافق العجيب!!
فاجأها أحد الأطفال سائلا: يا أمي.. لماذا لا يشارك هذا البلبل الصغير البلابل الأخرى في محاولة الطيران؟! ولماذا يختلف صوته عن أصواتها؟!
قالت الأم: لعله جائع يا بني..
قال الابن الكبير: لا يا أمي.. إنه أعمى.. أعمى يا أمي!! انظري.. ليست له عينان!
أحست الأم بوخزة أليمة في فؤادها، وثارت أسئلة متتابعة في ذهنها عن مستقبل هذا البلبل الأعمى: كيف سيعيش؟ وكيف سيطير؟ وخصوصا أن البلبل الأم كانت تنشغل مع البلابل الأخرى لما تحدثها من حركة وضجيج تخطف اهتمام الأم إليها.
لاحظ الأبناء غياب البسمة من وجه أمهم المشرق، وهي تحدث نفسها بهمس: كيف سيعيش.. كيف سيعيش؟!
فقال أحدهم باندفاع فضولي واضح: يستحيل أن يعيش يا أمي.. لأنه لا يستطيع الاعتماد على نفسه في أي شيء!
وقال آخر: إن أمه ستتركه، لأن العصافير لا تهتم بأبنائها طويلا!
انشغلت الابنة الصغيرة بالبلبل الأعمى، وصارت تتعهده بالتربية.. تطعمه وتسقيه، تفتح منقاره وتضع فيه الحب، وتقربه من الماء وتغمس منقاره فيه ليشرب، آملة أن يبقى على قيد الحياة، وأن يكبر ويطير مثل البلابل الأخرى.
وكانت الأم تشجعها على ذلك، أما الأولاد الآخرون فكانوا يتعاطفون مع أختهم أحيانا في خدمة البلبل الأعمى، ويتضاحكون أحيانا أخرى!.
انطوى البلبل الأعمى على ذاته، واضعا منقاره تحت جناحه، وبدأ جسمه الكليل يرتجف، ويتجمع على نفسه ويختلج، يحاول أن يرفع رأسه من دون جدوى.
كان الأولاد كلهم يراقبون المشهد بصمت عميق، وحزن واضح على وجوههم! لا ترف عيونهم، وترتجف شفاههم انتظارا للحظة مرتقبة!!
انفرج منقار البلبل الغض الأصفر انفراجا صغيرا وبقي كذلك!! فصرخت الابنة الصغيرة صرخة مفزعة: لقد مات.. مات يا أمي..!
انطلقت الأم كالريح العاصف من الغرفة القريبة إلى غرفة الأولاد، وألقت بنفسها على ولدها الصغير الذي ولد كفيفا ظنا منها أنه هو الذي مات!
كانت الأم تعيش قلقا مضاعفا منذ لاحظت البلبل الأعمى، وكان كل كلمة يقولها الأولاد عن البلبل الأعمى تحسبها عن فلذة كبدها الكفيف!
هرع الأولاد خلف أمهم، فوجدوها منكبة على سرير أخيهم تنشج بالبكاء، وتشد أخاهم الكفيف إلى صدرها، وتملأ وجهه بالقبلات الحانية، وهي تلهج بالدعاء:
ـ يا رب حرمت ابني من البصر فلا تحرمه من البصيرة!
وفي غمرة وجوم الأولاد تشجع الولد الكبير فقال: يا أمي.. مات البلبل.. البلبل الأعمى!
لكن الأم لم تلتفت إليه، وبقيت منكبة على بلبلها الكفيف!
************ م * نقو* ل************
مرت الأيام وفقست البيضات الخمس، عن خمسة بلابل صغيرة لم يكتمل جمال ريشها بعد، تفتح مناقيرها الغضة الصفراء لتلتقم غذاءها من منقار البلبل الأم، التي لا تخطئ في توزيع الغذاء على صغارها بالتساوي.
كبرت الفراخ قليلا، وامتلأ القفص بالحركة والضجيج. كانت البلبل الأم تحث بلابلها الصغيرة على الطيران داخل القفص المغلق لتحط فوق القصبة المستقيمة، أو تتعلق بشباك القفص، صعودا ونزولا، حتى بدأت البلابل الصغيرة تفعل ذلك في جد ونشاط.
كان الأطفال الصغار في المنزل يتابعون كل حركة تصدر من البلابل، وكان بعضهم يقلد رفرفات أجنحتها، وزقزقات مناقيرها، وهي تمتد نحو البلبل الأم لالتقاط الطعام، وربما ركض بعضهم نحو أمه وألصق فمه بفمها وهو يحرك يديه كالجناحين، فإذا لم يحظ بلقمة حظي بقبلة وضمة صدر حنون، تختلط فيها خفقات قلب الأم مع دقات قلب الصغير.
وكانت الأم تتأمل المشهد بأحاسيس يعجز اللسان عن التعبير بها.. منزل يضم أما وخمسة أطفال، وقفص يضم بلبلا وخمسة فراخ!! يا للتوافق العجيب!!
فاجأها أحد الأطفال سائلا: يا أمي.. لماذا لا يشارك هذا البلبل الصغير البلابل الأخرى في محاولة الطيران؟! ولماذا يختلف صوته عن أصواتها؟!
قالت الأم: لعله جائع يا بني..
قال الابن الكبير: لا يا أمي.. إنه أعمى.. أعمى يا أمي!! انظري.. ليست له عينان!
أحست الأم بوخزة أليمة في فؤادها، وثارت أسئلة متتابعة في ذهنها عن مستقبل هذا البلبل الأعمى: كيف سيعيش؟ وكيف سيطير؟ وخصوصا أن البلبل الأم كانت تنشغل مع البلابل الأخرى لما تحدثها من حركة وضجيج تخطف اهتمام الأم إليها.
لاحظ الأبناء غياب البسمة من وجه أمهم المشرق، وهي تحدث نفسها بهمس: كيف سيعيش.. كيف سيعيش؟!
فقال أحدهم باندفاع فضولي واضح: يستحيل أن يعيش يا أمي.. لأنه لا يستطيع الاعتماد على نفسه في أي شيء!
وقال آخر: إن أمه ستتركه، لأن العصافير لا تهتم بأبنائها طويلا!
انشغلت الابنة الصغيرة بالبلبل الأعمى، وصارت تتعهده بالتربية.. تطعمه وتسقيه، تفتح منقاره وتضع فيه الحب، وتقربه من الماء وتغمس منقاره فيه ليشرب، آملة أن يبقى على قيد الحياة، وأن يكبر ويطير مثل البلابل الأخرى.
وكانت الأم تشجعها على ذلك، أما الأولاد الآخرون فكانوا يتعاطفون مع أختهم أحيانا في خدمة البلبل الأعمى، ويتضاحكون أحيانا أخرى!.
انطوى البلبل الأعمى على ذاته، واضعا منقاره تحت جناحه، وبدأ جسمه الكليل يرتجف، ويتجمع على نفسه ويختلج، يحاول أن يرفع رأسه من دون جدوى.
كان الأولاد كلهم يراقبون المشهد بصمت عميق، وحزن واضح على وجوههم! لا ترف عيونهم، وترتجف شفاههم انتظارا للحظة مرتقبة!!
انفرج منقار البلبل الغض الأصفر انفراجا صغيرا وبقي كذلك!! فصرخت الابنة الصغيرة صرخة مفزعة: لقد مات.. مات يا أمي..!
انطلقت الأم كالريح العاصف من الغرفة القريبة إلى غرفة الأولاد، وألقت بنفسها على ولدها الصغير الذي ولد كفيفا ظنا منها أنه هو الذي مات!
كانت الأم تعيش قلقا مضاعفا منذ لاحظت البلبل الأعمى، وكان كل كلمة يقولها الأولاد عن البلبل الأعمى تحسبها عن فلذة كبدها الكفيف!
هرع الأولاد خلف أمهم، فوجدوها منكبة على سرير أخيهم تنشج بالبكاء، وتشد أخاهم الكفيف إلى صدرها، وتملأ وجهه بالقبلات الحانية، وهي تلهج بالدعاء:
ـ يا رب حرمت ابني من البصر فلا تحرمه من البصيرة!
وفي غمرة وجوم الأولاد تشجع الولد الكبير فقال: يا أمي.. مات البلبل.. البلبل الأعمى!
لكن الأم لم تلتفت إليه، وبقيت منكبة على بلبلها الكفيف!
************ م * نقو* ل************