~~الضياع~~
تتـلألأ نجوم السماء في ليلـة أشبه بالـدق علـى الـدرع الكـبير .. تدق السـاعة منــادية
بالثانية عشرة بعد منتصف الليل .. الطقس قارص البرودة, تلتف الغيوم بكثافة حول البدر
المضيء .. ولـحظـات حـتى بدأ المـطر بالهـطول .. والشـوارع لم تعد تتجلّى بأناس كثيرين,
والأزقّة مليئة بالشبان المـتســامريـن ..وبيـن هـذا وذاك .. يـمشـي رجـل شـاب طويل
القامة .. ليس كثيرا .. مـمشوقـا في مشـيتـه, يحــــاول الإسراع لكن شدة البرودة تمنعه من
التحكم في سرعته, يضع يديه في جيوب معطفه الجلدي اللامع الذي يتبلل بقطـرات المـطر
المتتابعة, وكأنه لا يدري أين تأخـذه قدماه, يمشي وينـظر حـوله, ينظــر بعينين يكاد يفتحهما,
ينظر بمقلتـين تتلألآن كالبلّور الملون في وسط الظـلام علـى ضـوء القـمر .. ولا تـزال
الـسماء تمطـر, وهـو يـحتمـي بـقبعـة مـخمـلية كـالقبعات الــفرنسية, ومعــطفه الأسـود
الثقيل اللذي يـلوح مع الهواء, ومشيته التي تتـباطأ كـل ثـانيـة عـن الأخـرى .. ثم يـبدأ
المـطر بالتوقف فجأة .. لـــم يعلم لماذا ولكنه تمنّى وقوفـه .. وأخذ يكـت قطرات الماء عن
معطفه الجلدي .. ترشق الأرض كرذاذ الياقوت المكسر عـلى الطـريق .. واقـفا بجـانب
عمـود المصـباح الكهربائي الطويل .. في حديقة عامة .. مليئة بالأزهـار وأوراق الشـجر
المـتناغمة علـى أغصـانـها, ولا أحـد .. ثـم أعـاد يديـه إلـى جيـبيه, وراودتـه قشـعريرة
ضمـت كـتفاه إلـى رقبـته .. فرفـع عيـناه إلـى السـماء يـتأملها .. ولكنّه بدا سارحا في
شيء ما .. وعيناه تبرقان كلمعان النحاس الذّهبي, ثم أنزل رأسه ومـدّ يـده المبللـة إلى
قبـّعتـه ..وانتزعها عن رأسه الغارق بماء المطر..وأخذ يلوح برأسه يمينا ثم يسارا
يحاول إبعاد الماء..وقصاصات شعره اللامعة الطويلة تطــير ذهابــا وإيــابا مع
هزّة رأسـه..ثم التفــت بنظرة إلى إمرأة تجلس على كرسي بعيد في الـحديقة,بـدت حـزينـة،
وجسدها المـبلل بالـماء..
يرتجف بردا وخوفا..وشعرها الذهبي الذي يتمايل مع كل هبّة نسيم بارد..أراد أن
يسـأل,لمــاذا أنتي وحدك هنا؟!!.... إنه يتمتم مع نفسه..ثم قال بصوت خفيف..ربّما تعيش
مأساتي! أو أنّها تستعيد شخصيتها!!؟... فوقع أرضا إثر صدمة عنيفة بشخص كان
يركض بأقصى سرعتـــــه
يتنفّس بسرعة هائلة وكأنه لم يتوقّف لمدّة شهر كامل..قال: ....أنا آسف ياسيدي!!.. فتطير
قبّعة الشاب بعيدا ورذاذ الماء ينتشر إثر الوقــعةعلـــى تــجمّع مائي صغير.. تبللت ثياب
الشاب ووقف الرجل الهوجائيّ ومد يده يريد أن ينتشل الشاب الأنيق
فنظر الشاب بسخط وردّ يده بضربة أصدرت صوتا عاليا..في هذه الأثناء.. كانـت المـــرأة قــد
وصلت مكان الحادث, تسأل بصوت ناعم مبحوح بسبب البرد: هل حصل شيء؟!..هـــل أنـــت
بخير؟!!.. فرفع الشاب نفسه..وشعره الناعم يلف عيناه ووجهه إلى الأرض..والبرد يرعـــش
جسده الذي غرق بالماء, ومعطفه الذي أصبح أثقل..رفع رأسه ببطء ونظر إلى الفتاة بعمـــق
وقال: أنا بخير..ثم التفت إلى الرجــل بغضب..فصدم لمنظره المـــهترء الــباهت.. إنــه رجـــل فقير..كان يتأهب للهرب..وقد اعتذر بحرارة وهو بأقصى حالات الرعب..فأترث الشاب لحاله وقال: إذهب لم
يحصل شيء .. وفي نفسه حزن كبير أثقل كاهله ينصب ألما على قلبه,فينكمش
جسده ويتألم, ثم يذهب إلى كرسي تاركا الفتاة واقفة, لاتعلم ماذا تقول..لم يأبه بها..ونظراتهـا
التي لا يستطيع تفسيرها..ثم جلس على ذالك الكرسي الخشبي الأقرع..ولا يتكلّم كلمة واحـــدة
يتبع...