حقائق القرآن ليست كأساطير الحضارات السابقة
السؤال : قال تعالى : ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) القلم . وقال تعالى : ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ) الفرقان . وقال تعالى : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ) الأنفال . فعلى ما يبدو من سياق هذه الآيات أن أصحاب مكة كانوا قد سمعوا بهذه الآيات من قبل ، وإلا لماذا كانوا يردون بهذا الرد ، بل إن هناك بعض المؤرخين من يقول إن حكايات وأساطير خلق الكون كانت حكايات ذائعة الصيت ، وأن وصف القرآن لهذه الآيات والحقائق لا يختلف كثيراً عما ترويه الأساطير البابلية والسومرية . وقد ذُكر في تفسير الجلالين عند تفسير قوله : ( قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ) أن هذه العبارة قالها النضر بن الحارث ؛ لأنه كان تاجراً يسافر في الأمصار ، وأنه اشترى كتباً تحتوي على الحكايات الفارسية ، وأنه كان يقص هذه القصص على أصحابه من أهل مكة ، وكان يقول : إن هذا القرآن ليس سوى قصص وخرافات وأكاذيب الأولين . السؤال : كيف نستطيع أن ندحض ونفند هذه الادعاءات على ضوء الحقائق التاريخية ؟ أرجو تزويدي بشرح علمي يتوافق مع المنطق . وجزاكم الله خيراً .
الجواب :
الحمد لله
ينبغي أن نعلم أولا ، حتى يكون بحثا بحثا علميا جادا ، أن كلام كفار قريش لم يكن نقاشا جادا ، ولم تكن رغبة صادقة في المعرفة والوصول إلى الحقيقة ، إنما كان مجرد محاولات للتكذيب ، وصرف القلوب والأسماع عن القرآن ، كان محاولة لإغماض العيون عن ذلك النور الجديد الذي جاء ، كما قال الله عنهم : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) فصلت/26 ، والآيات في هذا كثيرة جدا ، وأحداث السيرة ترجمان واقعي لذلك ، لمن شاء أن يراجعها ويعلم ما فيها .
ومن هذا الباب كان اتهام الكفار القرآن الكريم بأنه من أساطير الأولين ، كما حكى الله عز وجل ذلك عنهم في آيات كثيرة ، فقال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) الأنعام/25، وقال عز وجل : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) الأنفال/31، وقال عزَّ مِن قائل : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) النحل/24، ونحو ذلك من الآيات .
وإذا كان هذا القائل ، أو غيره ، قد زعم أن القرآن أساطير الأولين ، وهو جاد في تهمته ، وعنده من العلم ما يمكنه من المطابقة بين الأمرين ، ليثبت أن القرآن مأخوذ من هذه الأساطير ؛ فيقال له : القرآن قد تحداك ، وتحدى البشر جميعا أن تأتوا بشيء من مثله ؛ فهلا أخذتم من أساطير الأولين كما أخذ ، وأتيتم بقرآن مثله ، إن كنتم صادقين ؟!! ولا أدل على كذب كفار قريش من قولهم " لو نشاء لقلنا مثل هذا " فما الذي أقعدهم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن ، كما تحداهم الله بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) سورة البقرة/23.
وهلا أتى النضر بن الحارث ، وهو صاحب الحكايات والأساطير الذي جاء بها ، هلا أتى بقرآن مثل الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، - أو بعشر سور ، أو بسورة مثل القرآن - ليثبت للناس انتصاره في تحدي القرآن ، وأن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد كذب في دعواه إنه من عند الله ؟!!
فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وتذكروا يا أولي الألباب !!
يقول العلامة الشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله :
" وهنا يقال بالبديهة لمن يزعم في هذا المصدر أو ذاك ، أنه الأساس الذي بنى عليه القرآن أخباره ، يقال : " إذا كان هذا المصدر صالحا بالفعل للأخذ عنه ، ألم يكن طبيعيا ، وفي متناول معارضيه أن يلجأوا إليه ، ويحطموا به طموح محمد ... ؟!!" .
انتهى من"مدخل إلى القرآن الكريم" ، د. محمد عبد الله دراز (135) .
ثانياً :
إن مجرد هذا القول من قريش هي دعوى خصم في مواجهة خصمه ، وما لم يقم الدليل البيِّن عليها : لن يكون لها أية قيمة في ميزان النقاش العلمي الصحيح ؛ وفي القرآن الكريم ما يدل على تصديق ما سبق ، وأن كفار قريش لم يكونوا على علم بقصص القرآن الكريم ، وإنما أرادوا التهمة المجردة بالتكذيب .
تجد ذلك في قول الله تعالى : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) هود/49.
وقوله عز وجل : ( وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ . مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ) ص/6-7.
وقوله سبحانه وتعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) النمل/76.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" إبطال لقول الذين كفروا : ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) فإن القرآن وحي من عند الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فكل ما فيه فهو من آثار علم الله تعالى ، فإذا أراد الله تعليم المسلمين شيئا مما يشتمل عليه القرآن فهو العلم الحق ، ومن ذلك ما اشتمل عليه القرآن من تحقيق أمور الشرائع الماضية والأمم الغابرة مما خبطت فيه كتب بني إسرائيل خبطا من جراء ما طرأ على كتبهم من التشتت والتلاشي وسوء النقل من لغة إلى لغة في عصور انحطاط الأمة الإسرائيلية " انتهى باختصار.
" التحرير والتنوير " (20/30)
ثالثا :
ليس يكفي لمن يريد أن يثبت دعواه ضد القرآن الكريم أن يأتي بحقيقة في القرآن ليقول إن هذه الحقيقة كانت معروفة قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أن هذا الحدث التاريخي موجود عند أهل الكتاب ، أو عند غيرهم من أهل الأخبار ؛ فلا يقول عاقل إن على القرآن أن يخالف حقائق العلم والعقل المعروفة في زمانه حتى يثبت للناس أنه قد أتى بكل جديد ، وليس مطلوبا منه أن يخترع تاريخا جديدا للخلق والناس ، حتى يصدقوا أنه لم يتأثر بمعارف أهل التواريخ ؛ فهذا لا يقوله عاقل يعرف ما يقول .
يقول الأستاذ الدكتور عبد العظيم المطعني رحمه الله في مناقشة مثل هذه الشبهة :
" الاقتباس عملية فكرية لها ثلاثة أركان:
الأول: الشخص المُقتَبَس منه.
الثانى: الشخص المُقتَبِس (اسم فاعل).
الثالث: المادة المُقتَبَسَة نفسها (اسم مفعول).
والشخص المقُتَبَس منه سابق إلى الفكرة ، التى هى موضوع الاقتباس ، أما المادة المقُتَبَسَة فلها طريقتان عند الشخص المُقِتَبس ، إحداهما: أن يأخذ المقتبس الفكرة بلفظها ومعناها كلها أو بعضها. والثانية: أن يأخذها بمعناها كلها أو بعضها كذلك ويعبر عنها بكلام من عنده.
والمقتبس فى عملية الاقتباس أسير المقتبس منه قطعاً ودائر فى فلكه ؛ إذ لا طريق له إلى معرفة ما اقتبس إلا ما ذكره المقتبس منه. فهو أصل ، والمقتبس فرع لا محالة.
وعلى هذا فإن المقتبس لابد له وهو يزاول عملية الاقتباس من موقفين لا ثالث لهما:
أحدهما: أن يأخذ الفكرة كلها بلفظها ومعناها ، أو بمعناها فقط.
وثانيهما: أن يأخذ جزءً من الفكرة باللفظ والمعنى ، أو بالمعنى فقط.
ويمتنع على المقتبس أن يزيد فى الفكرة المقتبسة أية زيادة غير موجودة فى الأصل ؛ لأننا قلنا: إن المقتبس لا طريق له لمعرفة ما اقتبس إلا ما ورد عند المقتبس منه ، فكيف يزيد على الفكرة والحال أنه لا صلة له بمصادرها الأولى إلا عن طريق المقتبس منه.
إذا جرى الاقتباس على هذا النهج صدقت دعوى من يقول إن فلاناً اقتبس منى كذا.
أما إذا تشابه ما كتبه اثنان ، أحدهما سابق والثانى لاحق ، واختلف ما كتبه الثانى عما كتبه الأول مثل:
1- أن تكون الفكرة عند الثانى أبسط وأحكم ، ووجدنا فيها مالم نجده عند الأول.
2- أو أن يصحح الثانى أخطاء وردت عند الأول ، أو يعرض الوقائع عرضاً يختلف عن سابقه.
فى هذه الحال لا تصدق دعوى من يقول إن فلانا قد اقتبس منى كذا.
ورَدُّ هذه الدعوى مقبول من المدعى عليه ، لأن المقتبِس (اتهامًا) لما لم يدُر فى فلك المقتبَس منه (فرضاً) ؛ بل زاد عليه وخالفه فيما ذكر من وقائع ، فإن معنى ذلك أن الثانى تخطى ما كتبه الأول ، حتى وصل إلى مصدر الوقائع نفسها ، واستقى منها ما استقى . فهو إذن ليس مقتبِساً ، وإنما مؤسس حقائق تلقاها من مصدرها الأصيل ، ولم ينقلها عن ناقل أو وسيط.
وسوف نطبق هذه الأسس التى تحكم عملية الاقتباس على ما ادعاه القوم هنا وننظر:
هل القرآن عندما اقتبس ، كما يدعون من التوراة ، كان خاضعاً لشرطى عملية الاقتباس وهما: نقل الفكرة كلها ، أو الاقتصار على نقل جزء منها ، فيكون بذلك دائراً فى فلك التوراة ، وتصدق حينئذ دعوى القوم بأن القرآن (معظمه) مقتبس من التوراة ؟
أم إن القرآن لم يقف عند حدود ما ذكرته التوراة فى مواضع التشابه بينهما ؟ بل:
1 عرض الوقائع عرضاً يختلف عن عرض التوراة لها.
2 أضاف جديداً لم تعرفه التوراة فى المواضع المشتركة بينهما.
3 صحح أخطاء " خطيرة " وردت فى التوراة فى مواضع متعددة.
4 انفرد بذكر " مادة " خاصة به ليس لها مصدر سواه.
5 فى حالة اختلافه مع التوراة حول واقعة يكون الصحيح هو ما ذكره القرآن . والباطل ما جاء فى التوراة بشهادة العقل والعلم .
إذا كان الاحتمال الأول هو الواقع فالقرآن مقتبس من التوراة..
أما إذا كان الواقع هو الاحتمال الثانى فدعوى الاقتباس باطلة ويكون للقرآن فى هذه الحالة سلطانه الخاص به فى استقاء الحقائق وعرضها ، فلا اقتباس ، لا من توراة ولا من إنجيل ولا من غيرهما.
لا أظن أن القارئ يختلف معنا فى هذه الأسس التى قدمناها لصحة الاتهام بالاقتباس عموماً.
وما علينا بعد ذلك إلا أن نستعرض بعض صور التشابه بين التوراة والقرآن ، ونطبق عليها تلك الأسس المتقدمة ، تاركين الحرية التامة للقارئ سواء كان مسلماً أو غير مسلم فى الحكم على ما سوف تسفر عنه المقارنة ؛ أنحن على صواب فى نفى الاقتباس عن القرآن ؟.
والمسألة بعد ذلك ليست مسألة اختلاف فى الرأى يصبح فيها كل فريق موصوفاً بالسلامة ، وأنه على الحق أو شعبة من حق.
وإنما المسألة مسألة مصير أبدى من ورائه عقيدة صحيحة توجب النجاة لصاحبها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أو عقيدة فاسدة تحل قومها دار البوار ، يوم يقدم الله إلى ما عملوا من عمل فيجعله هباءً منثوراً" انتهى.
ثم طبق رحمه الله هذه القاعدة على بعض النماذج التي يتبين بها بطلان الدعوى .
فليراجع بحثه مطولا ، والذي نشر في كتاب "حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين" ص (139) وما بعدها ، والذي نشرته وزارة الأوقاف المصرية . [ والكتاب يوجد على الموسوعة الشاملة بعنوان "شبهات المشككين" .
ويقول الدكتور عبد المحسن المطيري – في معرض الرد على من زعم أن القرآن نقل من غيره - :
" 1- لقد تكفل الله تعالى بالرد على هذه الشبهة : وبالسبر والتقسيم نقول : إن القرآن يمكن أن يأتي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أربع طرق : من عند نفسه ، من عند شخص ، من كتاب ، من الله تعالى , أما من عند نفسه فقد تقدم معنا الرد على هذه الشبهة بأكثر من عشرة أوجه . أما من عند شخص ؛ فمن هو هذا الشخص ؟ أكثر الطاعنين على أنهم نصارى أو يهود ، فرد الله تعالى عليهم أن لسان أولئك القوم ولغتهم أعجمية ، ولكن لغة هذا القرآن عربي مبين ، فكيف للأعجمي أن يأتي بأعلى الفصاحة وذروة البلاغة في اللغة العربية : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) النحل/103. أما من كتاب ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب : ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) العنكبوت/48. فلم يبق إلا أنه من الله تعالى .
2- العهد القديم لم يكن مترجما إلى اللغة العربية قبل الإسلام ، وقد نص على ذلك المستشرقون أنفسهم ، فهذا (جوتين) يقول عن صحائف اليهود : إن تلك الصحائف مكتوبة بلغة أجنبية . وقد أشارت الموسوعة البريطانية إلى عدم وجود ترجمة عربية لأسفار اليهود قبل الإسلام ، وأن أول ترجمة كانت في أوائل العصر العباسي , وكانت بأحرف عبرية .
كيف إذن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم منها، لابد على المستشرقين أن يفتروا كذبة جديدة , وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم درس لغة التوراة فكان يترجمها للقرآن ؟!!.
3- ومن لطائف الاستدلال على أنه لم ينقل من غيره ما يذكره العلماء في فوائد أسباب النزول ؛ إذ يذكرون أن من فوائد أسباب النزول أن دلالته على إعجاز القرآن , وأنه من الله تعالى من ناحية الارتجال ، فنزوله بعد الحادثة مباشرة يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين ، أو من كتب السابقين ، فلو كان ينقل كتابه من كتب غيره , لكان إذا سأله سائل يتريث حتى يراجع الكتب التي عنده , وينظر ماذا تقول في هذه المسألة ثم يجيب ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل , بل يسأله الرجل فيعطيه الجواب الموافق للصواب ، الذي لم يكن قرأه ولا عرفه إلا في هذه اللحظة التي نزل عليه فيها , وقد ذكرت في مبحث أدلة صدق النبي وقائع كثيرة تدل على هذا المعنى .
4- من أوضح الأدلة على رد دعوى النقل من غيره : التحدي أن يأتي بمثله ، كما تقدم تفصيل هذا في الردود العامة .
5- لو كان القرآن مأخوذا من التوراة والإنجيل والكتب السابقة , لما استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يتحدى الناس ويقدم على هذا الخطأ الفادح ؛ لأن هذه الأصول المنقول عنها موجودة في متناول أيدي الجميع ، فلماذا يتحدى الناس بشيء موجود ، ألا يخشى أن يقوم بعض الناس بالرجوع إلى مراجعه والعمل مثل عمله فينكشف !
6- ثم هذه الأساطير والمراجع ليست خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم , بل هي كتب متداولة بيد الجميع , فلماذا لا تحضرون لنا هذه الكتب التي نقل منها ؟!
7- افتراض تعلم النبي صلى الله عليه وسلم من نصارى الشام ويهود المدينة وغيرهم لا يتفق مع الحقيقة التاريخية التي تحدثنا عن الحيرة والتردد في موقف المشركين من رسول الله في محاولتهم لتفسير ظاهرة الرسالة ؛ لأن مثل هذه العلاقة مع النصارى أو اليهود لا يمكن التستر عليها أمام أعداء الدعوة من المشركين وغيرهم الذين عاصروه وعرفوا أخباره وخبروا حياته العامة بما فيها من سفرات ورحلات .
8- وجود بعض الشرائع في القرآن التي تتفق مع ما في التوراة والإنجيل أو حتى ما عند العرب ليس في هذا دليل على أنه مأخوذ منها ، فالقرآن لم يأت لهدم كل شيء , بل لتصحيح الخطأ وإقرار الحق ، فالصدق والشجاعة والكرم والحلم والرحمة والعزة كل هذه المعاني موجودة عند كفار مكة ومع هذا جاء الإسلام ولم يغير منها شيئا ، بل باركها وحث عليها ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ) ولم يقل : لأنشئها .
إذن ليس من الضروري لكتاب هداية من هذا القبيل ، أن يشجب كل الوضع الذي كانت الإنسانية عليه قبله حتى يثبت صحة نفسه ، فمن الطبيعي أن يقر القرآن بعض الشرائع ، سواء في الكتب السابقة السماوية , أو في عادات الناس وأعرافهم ، وأما الخطأ فإنه لا يقره ، وقد نص القرآن على هذا المعنى في مثل قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يونس/37.
9- كيف يمكن اعتبار التوراة والإنجيل من أهم مصادر القرآن مع أن القرآن خالفها في كثير من الأشياء ؛ ففي بعض الأحداث التاريخية نجد القرآن يذكرها بدقة متناهية , ويتمسك بها بإصرار ، في الوقت الذي كان بإمكانه أن يتجاهل بعضها ، على الأقل تفاديا للاصطدام بالتوراة والإنجيل ، ففي قصة موسى يشير القرآن إلى أن التي كفلت موسى هي امرأة فرعون ، مع أن سفر الخروج يؤكد أنها كانت ابنته ، كما أن القرآن يذكر غرق فرعون بشكل دقيق , لا يتجاهل حتى مسألة نجاة بدن فرعون من الغرق مع موته وهلاكه ، في الوقت الذي نجد التوراة تشير إلى غرق فرعون بشكل مبهم ، ويتكرر نفس الموقف في قضية العجل ؛ حيث تذكر التوراة أن الذي صنعه هو هارون ، وفي قصة ولادة مريم للمسيح - عليهما السلام - وغيرها من القضايا .
10 - من المعلوم أن في القرآن ما لا وجود له في كتب اليهود والنصارى ، مثل : قصة هود وصالح وشعيب ، فكيف أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم ؟!!
11- وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من النصارى الذين خالطهم ؛ من أمثال سلمان وصهيب وورقة ، فلِمَ لم يفضحوه عندما سب النصارى وكفرهم في كتابه في عدة آيات ، حتى إن سورة المائدة ، وهي من آخر السور نزولا , كانت من أكثر السور تكفيرا للنصارى .
12-من تناقضهم زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ القرآن من سلمان وصهيب النصرانيين وابن سلام اليهودي وغيرهم ممن أسلم من أهل الكتاب ، وحقيقة الأمر أن إسلام هؤلاء حجة عليهم ، إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ القرآن والشريعة من أهل الكتاب ، فلماذا يتركون الأصل ويذهبون إلى الفرع ؟
13- لقد شهد المنصفون من المستشرقين بضد ذلك :
يقول المستشرق الإنجليزي لايتنر : بقدر ما أعرف من دِينَيِ اليهود والنصارى أقول بأن ما علمه محمد ليس اقتباساً , بل قد أوحى إليه ربه, ولا ريب بذلك .
ويقول هنري دي كاستري : ثبت إذن أن محمدا لم يقرأ كتابا مقدسا , ولم يسترشد في دينه بمذهب متقدم عليه " انتهى من كتاب " الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري " (الباب الثاني/الفصل الثاني/المبحث الأول/المطلب الثاني) (ص/46 بترقيم الشاملة)
وانظر كتاب " شوائب التفسير في القرن الرابع عشر الهجري " (شوائب التفسير في القصص القرآني)
على أن أهم الكتب التي تعرضت لهذه المسألة ، ودرستها دراسة علمية ـ في اللغة العربية ـ هي : كتاب "مدخل إلى القرآن الكريم" للعلامة الشيخ محمد عبد الله دراز رحمه الله ، وأيضا : كتاب "الظاهرة القرآنية" للمفكر الجزائري الكبير الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله .
ويستفاد أيضا من كتاب : "دفاع عن القرآن الكريم ضد منتقديه" للفيلسوف الكبير الدكتور عبد الرحمن بدوي ، وقد ألفه بالفرنسية ، ثم ترجم إلى العربية ، وإن كانت ترجمته سقيمة ، لكن ينتفع به .
والله أعلم .