التوفيق بين آيات قرآنية تثبت السمع والكلام للكفار في الحشر تارة وتنفيه عنهم تارة أخرى
السؤال: يتحدث الله تعالى في سورة مريم الآية 38 عن المشركين حينما يقول ( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) . وفي سورة الإسراء آية 97 ذكر الله سبحانه ( وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) . ليس هناك من احتمالية التناقض في القرآن ؛ لكني ليس لدي العلم الأساسي لفهم ذلك ، فلو ألقيت الضوء على هذا الأمر فلربما ساهم في ارتقاء إيماني .
الجواب :
الحمد لله
ليس بحمد الله في نصوص الوحي ما يناقض بعضه بعضاً ، وقد يسَّر الله تعالى لكتابه من يُعنى به تفسيراً لكلماته وتوضيحاً لمشكلاته وبياناً لما ظاهره التعارض ، وهؤلاء هم الراسخون في العلم الذين فقهوا مراد ربِّهم تعالى في كتابه فوضعوا الأمور في نصابها وبيَّنوا للناس ما أغلق فهمه عليهم .
والإشكال الذي ذكره الأخ قديم الإيراد ، وقد أجاب عليه العلماء أجوبة محكمة مسددة ، أبرزها جوابان :
الجواب الأول :
أن مشاهد اليوم الآخر ومراحله كثيرة ، ففي بعضها يكون الكفار عمياً وبكماً وصُمّاً على الحقيقة ، وفي بعضها الآخر يرون ويتكلمون ويسمعون .
وهو قول أبي حيان وابن القيم وابن كثير والشنقيطي وغيرهم كثير .
قال الإمام الطبري – رحمه الله - :
فإن قال قائل : وكيف وصف الله هؤلاء بأنهم يحشرون عمياً وبكماً وصُمّاً وقد قال ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ) فأخبر أنهم يرون ، وقال ( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا . وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) فأخبر أنهم يسمعون وينطقون ؟ .
قيل : جائز أن يكون ما وصفهم الله به من العَمى والبكم والصمم يكون صفتهم في حال حشرهم إلى موقف القيامة ، ثم يجعل لهم أسماع وأبصار ومنطق في أحوال أُخَر غير حال الحشر .
" تفسير الطبري " ( 17 / 559 ، 560 ) .
وقال ابن كثير – رحمه الله - :
وقوله : ( عُمْيًا ) أي : لا يبصرون ( وَبُكْمًا ) يعني : لا ينطقون ( وَصُمًّا ) : لا يسمعون . وهذا يكون في حال دون حال ؛ جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكمًا وعميًا وصمّاً عن الحق ، فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه .
" تفسير ابن كثير " ( 5 / 123 ) .
والجواب الثاني :
أن النظر والكلام والسمع المُثبت لهم خاص بما لا فائدة لهم فيه ، والمنفي عنهم خاص بما لهم فيه فائدة ، فهم لا يرون ولا يسمعون شيئاً يسرهم ، ولا ينطقون بحجة .
وهو مروي عن ابن عباس والحسن البصري .
قال الإمام الطبري – رحمه الله - :
ويجوز أن يكون ذلك ، كما روي عن ابن عباس قوله ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ) ثم قال ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا ) وقال ( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) وقال ( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) ، أما قوله ( عُمْيا ) : فلا يرون شيئا يسرّهم ، وقوله ( بُكْما ) : لا ينطقون بحجة ، وقوله ( صُمًّا ) : لا يسمعون شيئاً يسرّهم .
" تفسير الطبري " ( 17 / 560 ) .
والقول الأول أظهر وأقوى .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – في ذكر وجوه الجمع بين ذلك :
قوله تعالى ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّا ) الآية ، هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن الكفار يُبعثون يوم القيامة عمياً وبكماً وصمّاً ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى ( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ) , وكقوله ( وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ) ، وكقوله ( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً) الآية ، والجواب عن هذا من أوجه :
الوجه الأول : هو ما استظهره أبو حيان من كون المراد مما ذكر حقيقته ، ويكون ذلك في مبدأ الأمر ، ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم ، فيرون النار ويسمعون زفيرها ، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع .
الوجه الثاني : أنهم لا يرون شيئاً يسرهم ، ولا يسمعون كذلك ، ولا ينطقون بحجة ، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه ، وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وروي أيضاً عن الحسن كما ذكره الألوسي في تفسيره ، فنزَّل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به كما تقدم نظيره .
الوجه الثالث : أن الله إذا قال لهم ( اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) وقع بهم ذاك العمى والصم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج ، قال تعالى ( وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) ، وعلى هذا القول تكون الأحوال الثلاثة مقدَّرة .
" دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ( ص 143 ) .
وفي " أضواء البيان " ( 4 / 129 ) قال : أظهرها عندي : الأول .
وقد فصَّل ابن القيم رحمه الله الحال الذي يُحشرون فيه على وجوههم عمياً وبكماً وصمّاً وهو من موقف الحشر إلى وقت دخولهم النار ، وأنهم يكونون قبل ذلك يرون ويتكلمون ويسمعون.
قال ابن القيم – رحمه الله - :
وفصل الخطاب : أن الحشر هو الضم والجمع ، ويراد به تارة : الحشر إلى موقف القيامة كقوله النبي صلى الله عليه وسلم ( إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ) وكقوله تعالى ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) ، وكقوله تعالى ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) يراد به : الضم والجمع إلى دار المستقر ، فحشر المتقين : جمعهم وضمهم إلى الجنة ، وحشر الكافرين : جمعُهم وضمُّهم إلى النار ، قال تعالى ( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ) ، وقال تعالى ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ . مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) فهذا الحشر هو بعد حشرهم إلى الموقف وهو حشرهم وضمهم إلى النار ؛ لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا ( يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ . هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) ثم قال تعالى ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) وهذا الحشر الثاني ، وعلى هذا : فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني من الموقف إلى النار ، فعند الحشر الأول : يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون ، وعند الحشر الثاني : يُحشرون على وجوههم عمياً وبكماً وصمّاً ، فلكل موقف حال يليق به ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته ، فالقرآن يصدِّق بعضُه بعضاً ، ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) .
" مفتاح دار السعادة " ( 1 / 45 ، 46 ) .
والله أعلم