دخل العيادة .. شاب وسيم يمشى بخطوات وئيدة واضح أنها مترددة . صافحني وجلس , وحييته ورحبت به وحاولت تخفيف درجة توتره وتردده الذي بدا
على وجهه ، ولكنه بادرني وقال لي : دكتور أغثني !!!!
قلت له : أنا هنا لمساعدتك وغوثك ، ماذا تريد ؟
قال لي : لا أدرى كيف ابدأ حديثي ، فالأمر صعب أخطر مما تتصور.
قلت له : هون عليك ، فما مشكلة إلا ولها حل .. حدثني بهدوء وأنا أسمعك.
قال لي : سأحاول ... وقبل أن ينطق بكلمة رأيت دمعتين تتأهبان للقفز من فوق جفنيه ، ولكنه أنقذهما وإلتقطهما بقطعة من المنديل الورقي.
ثم استجمع شجاعته وقال : أنا لا أستحق الحياة ، أنا لا أستحق احترام الناس ، أنا يجب أن أعدم ، يجب أن يقام على الحد ، لقد كفرت !!
وحينما أنهى هذه العبارات كانت الدموع تتسابق للقفز من عينيه بل أنها أصبحت سيلا منهمرا . ولم يكفه ما يحمل من مناديل ورقية لدفعه أو تجفيفه. فأمددته بالمزيد ، وبعد قليل حاول أن يتماسك ويستجمع كلماته التي ذابت في هذا السيل المنهمر ، ولكنه وجدني أبادره بقولي : هذه أول مرة أرى فيها مذنبا يبكى بهذه الدموع ولا يطمع في مغفرة ربه وعفوه.
وكأني بهذا الكلام قد حطمت القشرة التي كانت على فوهة البركان. ووجدت الدموع تزيد وعلا صوت نحيبه وقال : إلا أنا فأنا لا أستحق مغفرة أو عفو.
قلت له : هدئ من روعك وأخبرني كيف ذلك.
قال لى - وهو لا يزال يعانى من أثر الدموع والنحيب - كل الناس تذنب وتتوب ولا ترجع إلى الذنب ، وإذا رجعت ترجع بعد فترة، أما أنا فأذنب الذنب نفسه فى اليوم مئات المرات وأحاول أن أجد الفرصة لأتوب فأجد نفسى أعود إلى الذنب قبل التفكير فى التوبة.
قلت له : كيف ذلك ؟ أرجوك وضح لى.
قال : كنت إنسان متدين أؤدي فرائض ربى ولا أعصاه ، ولا أقول على نفسى أننى ملتزم ولكنى مثل كل الناس . حتى قرأت كتابا عن النفاق و الكُفر ، وبعدها انقلبت حياتى جحيما.
أصبح كل تفكيرى يتجه عصبا عنى فى اتجاه كل كلمة فيها ازدراء أو سب لكل ما هو مقدس فى دينى . حتى ربى - سبحانه وتعالى - ذكرته بذلك السب والازدراء.
لا أدري، وكلما حاولت دفع هذه الأفكار ومقاومتها أزداد تعبا وقلقا. وكلما لجأت إلى الصلاة أو أداء أى دعاء أو ذكر أجد الكلمات تتحول فى ذهنى إلى الاستهزاء والازدراء. فأتأكد أنى لن تقبل لى توبة ولن يشملنى عفو ربى ولا مغفرته.
لقد انهارت كل دفاعاتى فلم أستطع المقاومة وأنا أستحق أن يقام علىّ الحد وأن أعدم، وحينما رويت لأحد علماء الدين هذه الكارثة نصحنى بالحضور إليك يا دكتور، فهل عندك حل لمشكلتى ؟!
وهنا سكت مريضى ونظر إلى وكله ترقب وأمل أن يجد حلا لمشكلته وأجبته بسرعة كى لا أطيل فترة ترقبه " نعم بالتأكيد هناك حل "، وبدأت حديثى وهو يسمع بإنصات واهتمام.
قلت له : هذه حالة مرضية معروفة تسمى الوسواس القهرى ...
فقاطعنى وقال : أنا ؟أعلم أن الذى يوسوس لى بهذه الأفكار هو الشيطان وأنى أستعيذ منه كثيرا ولكن لا فائدة فإنه يعود بعد قليل أشرس من ذى قبل، حتى تصورت أنه قد سيطر على أفكارى بالكامل وانهارت دفاعاتى فى وجهه ولم أعد أستطيع مقاومته فقد تغلب علىّ وأصبحت أسيرا لوسوسته ....
ابتسمت وقلت له : لا يا سيدى أنا لم أقل الشيطان الذى يسمى الوسواس الخناس ولكنه وسواس آخر يسمى الوسواس القهرى، وهو يختلف تماما عن الوسواس الخناس.
فالوسواس الخناس كما قلت شيطان بمجرد أن تستعيذ بالله منه يفر ويخنس ولا يعود إلا بعد فترة . أما الوسواس القهرى فهو مرض عضوى يصيب خلايا المخ وبالذات المواد الكيميائية المسئولة عن توصيل الإشارات العصبية داخل خلايا المخ . وعندها تضعف الإرادة ويظهر الشك فى البديهيات والمسلمات والمقدسات عند المتدينين أمثالك
تبدأ الأفكار فى مناقشة هذة المسلمات والبديهيات والشك فيها وكذلك التقليل من شان المقدسات والاستهزاء بها وإحتقارها وليس هذا خلل فى الايمان أو العقيدة .بل أنة إمتحان صعب للايمان والعقيدة وهذة الدموع وهذا النحيب خير دليل على نجاحك فى هذا الامتحان ومقاومتك لهذة الشكوك وعدم الاستسلام لها .
وكل محاولة للمقاومة وكل دمعة تزرفها ترفعك عند الله درجات ولا تؤدى بك كما قلت للكفر أو إقامة الحد
وهنا إنفرجت اساريرة قليلاًولمعت عيناة وتوقفت الدموع فيها وإن لم تخل نظراتة من حيرة وتردد .وقال وما العلاج وكيف الخلاص
قلت لة العلاج سيكون ذو شقين
الشق الأول :هو أن تحافظ على ما أنت علية من مقاومة ودفاع عن أغلى ما عندك وهو عقيدتك
الشق الثانى :هو سلاح سوف أمدك بة ليساعدك فى تقوية دفاعاتك وتحملك للهجمات الوسواسية بدون قلق أو ياس ولكن بنجاح تشعر معة أنك قادر على التغلب علية حتى يندحر هذا العدو ويذهب إلى غير رجعة .
وكتبت له تذكرة ة الدواء واخذها منى وهو ينظر إليها مرة وألى مرة أخرى وكأنه يقول لى - هل هذا صحيح ؟ ، أيمكن ان تضع هذه التذكرة الطبية حدا لمعاناتى وآلامى ؟
وفهمت ما يفكر فيه وقلت له : استمر على الدواء لمدة أسبوعين وعُد إلى لتقول لى ما الأخبار .
قام وصافحنى بحرارة وأحسست أنه استمد من عينى الثقة التى قصدت أن أمده بها ، وخرج على غير الطريقة التى دخل بها، خرج بخطوات واثقة ثابتة وكله أمل ورجاء أن يتخلص من مشكلته.
وبعد أسبوعين عاد إلىّ ...
ودخل على شخص غير الشخص عينية كلها فرحة وسعادة ويكاد يقفظ ليصل الىًويصافحنى بل ويعانقنى ويقول لى أشكرك لقد أغثتنى إن هذا الدواء سحر لقد إختفت كل الوساوس وعدت كما كنت طبيعي تماماً
تركتة حتى أنهى حديثة وقلت لة -الحمد لله ،ليس هذا الدواء سحر كما قلت ولكن مقاومتك ودفاعك هى التى أكسبتك قوة من فترة المعاناة السابقة وبمجرد حصولك على السلاح اللازم إنتصرت فى المعركة لم تنتة ولابد من الانتظام على الدواء والمقاومة المدة المقررة حتى تطمئن إلى أن هذة الوساوس لن تهاجمك مرة أخرى
قال لى -وهل سأحتاج إلى العلاج ثانية؟-
قلت لة -نعم ،لابد من الأنتظام علية بضعة شهور حتى لا تعود إليك الحالة مرة أخرى وتحدث إنتكاثة -
فقال لى -لا أرجوك ،لا أريد أن أعود إلى ذلك التفكير مرة ثانية سأستمر شهور وإن شئت سنوات
فقلت لة لا بل شهور ......وشكرنى وخرج على وعد بالعودة مرة أخرى فى موعد حددناة سويأ للمتابعة
وخرج من عندى بعدما شكرنى أن أغثتة وذلك حينما دخل علىً قائلا:
دكتور .......أغثنى.