ومع أن الشيخ محمد عبده قد تأثر في نشأته الأولى بشخصية صوفي مستنير من أقاربه إلا أنه في نهاية المطاف تأثر بآراء جمال الدين الأفغاني واتخذ محمد عبده من التصوف موقفا ألب عليه مشايخ الطرق الصوفية في مصر كما نرى حركة التجديد لدى الشاعر والفيلسوف محمد إقبال –الذي نشأ في أسرة متصوفة- قد اقترنت بهجوم لا هوادة فيه على ما أسماه التصوف العجمي واعتبره غريبا عن روح الإسلام وتعاليمه.
أما الإمام أحمد ابن حنبل فكان شديد الإنكار على الصوفية لما في أقوالهم من البدع. يقول ابن كثير: إن سبب كراهية أحمد لصحبة الصوفية أن في كلامهم عن التقشف وشدة السلوك ما لم يرد به شرع ومن التدقيق ومحاسبة النفس ما لم يأت به أمر وكان الإمام أحمد يحذر الحارث المحاسبي ويحذر منه، فلما قيل له إن فيما يقول الحارث وفيما يكتب عبرة رد قائلا: من لم يجد العبرة في كلام الله لن يجدها في هذه الكتب.
وفي الجهة المقابلة يؤكد الدكتور أحمد صبحي أستاذ الفلسفة الإسلامية أنه يجب ألا نتجاهل حلاوة التصوف ودوره في إثراء مضامين الدين وفي أنه قدم للفكر الإنساني بعامة والإسلامي بخاصة تحليلا نفسيا ذا غاية أخلاقية لأغوار النفس البشرية كما قدم للفكر الفلسفي نظريات في الوجود ومباحث في المعرفة. وأضاف صبحي قائلا: وربما كان الأمر يسيرا لو أمكن أن نعزل أدعياء التصوف عن الصوفية الخالصين لله المخلصين لطريقتهم فنجرد التصوف عما ألحق به.
سبب التسمية
اختلفت الآراء حول اشتقاق اسم التصوف ومعناه فالذين يريدون التصوف إسلاميا خالصا يردون اللفظ إلى "الصفاء" أو إلى الصف –في الصف الأول بين يدي الله- إو إلى أهل الصفة- من فقراء المهاجرين الذين اتخذوا صفة مسجد رسول الله لهم مقاما أو إلى الصوف لباس الزاهدين والمتقشفين..
أما الذين يريدون أن يجعلوه غريبا عن الإسلام دخيلا عليه يردون اللفظ إلى "سوفيا" اليونانية أو "جيمنوسوفيا" الحكيم العاري ليرد التصوف إلى الهند.
التصوف والحياة المادية
عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وعرف المسلمون حياة الترف والبذخ وانغمسوا في الشهوات كان لابد أن يثور الوجدان الداخلي لدى بعض الأتقياء على ذلك. يقول ابن خلدون في مقدمته: عندما فشى الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم التصوف.
ولما كان ظهور التصوف رد فعل لحياة الترف فقد ظهر الصوفية في المدن التي بلغت ذروة التحضر والحياة المترفة.. في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة.. ففي هذه المدن نجد أمثال أبي نواس يقضون الليالي الحمراء في أحضان الشهوة الآثمة مستبيحين الحرمات وفيها أيضا أمثال رياح بن عمرو القيسي ممن لايعرفون غير البكاء والتهجد والتضرع إلى الله أو ممن تراه هائما بين المقابر يستلهم العظات من الموتى هكذا كانت الحضارة العباسية في بغداد مسجدا وحانة قارئا وزمارا ساهرا في تهجد وساهدا في طرب.. وجاء التصوف ليقدم للناس قيما تعارض ما يحيونه فقدم الزهد والتواضع وإنكار الذات والإشارة بالفقر لأن القيم المادية لم تجلب للناس سوى الشقاء.
ويتمثل ظهور التصوف كثورة للوجدان الديني ضد حياة الترف في صور كثيرة منها قصة حياة رابعة العدوية (ت181هـ) التي تمثل التصوف أصدق تمثيل ففي حياتها الأولى كانت تعزف على الناي في حانات البصرة فإذا بها تكسر الناي الذي يمثل حياتها ورزقها لتتوب إلى بارئها وتتغنى بأناشيد الحب الإلهي وبذلك تكون قد انتقلت من مرحلة الزهد إلى مرحلة التصوف.
ومن صور التصوف قصة حياة الأمير إبراهيم بن أدهم المتوفي عام 162 هـ الذي قرر التخلي عن حياة الأمراء بما فيها من لهو وترف وفضّل أن يكسب من عمل يده في زراعة البساتين.
وقد قدم الصوفية معاني باطنة لشعائر الدين وعباداته من طهارة وصلاة وزكاة وحج. فليست الطهارة مجرد غسل البدن أو الأعضاء بالماء دون تطهير الباطن من الرذائل، فظاهر الطهارة هو تطهير الجوارح من الأحداث والأخباث وباطنها.. تطهيرها من المعاصي والآثام وهذه أول درجة مطلوبة من الطهارة تليها درجة أخرى للخواص هي تطهير القلب من الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة تليها درجة ثالثة لخواص الخواص وهي تطهير السر عن كل شيء سوى الله.. وإذا شرع المصلي في الصلاة فإن استقباله القبلة يعني أنه قد صرف همه عن كل شيء ليتوجه إلى الله، والنية تعني عزم المصلي على الإمتثال لله والكف عن المعاصي، والتكبير يعني ألا يكون في قلب المصلي شيء أكبر من الله.
والغفلة من مبطلات الصلاة لأن الخواطر الواردة والأفكار الشاغلة للمصلي عن الله يجمعها أصل واحد: حب الدنيا وذلك رأس كل خطيئة ولا تقبل صلاة من رجل في بطنه لقمة من حرام ولو صلى المصلي وعليه ثوب بعشرة دراهم منها درهم واحد من حرام فلا صلاة له.. والصوم ثلاث درجات: صوم العموم وهو كف البطن والفرج عن الشهوة، وصوم الخصوص وهو كف السمع والبصر واللسان واليد وسائر الجوارح عن الآثام.. فإن من صامت على عهد رسول الله عن الطعام ولكنها اغتابت جيرانها فقد صامت عن الحلال وأفطرت على الحرام لقوله تعالي {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} الحجرات:12. فالغيبة إفطار حرام ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " خمس يفطرن الصائم: الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة".. أما صوم خصوص الخصوص فهو كف القلب عن الخطرات المذمومة.
ويتشدد الصوفية في وجوب السر في آداء الزكاة فلا تقبل في نظرهم صدقة من مراءٍ ولا منان ولا متحدث بصدقة ولا يصح للمتصدق أن يستعظم في نفسه ما أعطى بل عليه دائما أن يستصغر العطية لأن الطاعة كلما استصغرت عظمت والمعصية كلما استعظمت صغرت ولا يتم معروف إلا بثلاثة أمور: تصغيره وتعجيله وستره.
ولما كان الحج أكثر العبادات رمزية لذلك كان أكثر أركان الدين عرضة لتجرؤ بعض الصوفية على قدسية شعائره فنسب إلى رابعة العدوية أنها قالت عن الكعبة: هذا الصنم المعبود في الأرض وأنه ما ولجه الله ولا خلا منه و "الحلاج" يقول: الحج بالهمة أي إمكان أن يقضي المسلم مناسك الحج قضاء في عقر بيته.. ولقد غفل هؤلاء الصوفية عن المعنى الحقيقي للرمز بالنسبة للبيت الحرام أنه رمز وحدة المسلمين الروحية في مشارق الأرض ومغاربها وإذا كان الجنود في ميادين القتال يقتلون دون إعلامهم لأنها رمز مجد أوطانهم ولا يزعم زاعم أنهم يحاربون ويموتون من أجل " قطعة قماش " كذلك الكعبة تشق لها الرحال لأنها رمز وحدة المسلمين وتماسكهم والتقائهم وهذا هو مقصد سيدنا إبراهيم من دعائه "واجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم" ومن ثم فإن دعوى أنها صنم معبود أو إمكان الاستغناء عن الحج إلى البيت الحرام بالحج بالهمة إنما هي من أخطاء الصوفية.
التفسير الرمزي للقرآن
يلجأ الصوفية للتفسير الرمزي للقرآن فيقولون في الآية 13 من الشورى " الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب " الناس على قسمين: قوم وصلوا بكرامة الله إلى طاعة الله وهؤلاء قد اجتباهم وقوم وصلوا بطاعة الله إلى كرامة الله وهؤلاء قد هداهم.
وفي قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة } البقرة:30.. يقولون: خلق الله آدم بيده وأسجد له ملائكته وأسكنه الجنة نصف يوم خمسمائة عام ثم نزل به إلى الأرض وما أنزله الله الأرض لينقصه وإنما ليكمله فكان نزول كرامة لا نزول مهانة فإنه كان يعبد الله في الجنة بالتعريف فأنزله إلى الأرض ليعبده بالتكليف فلما توفرت له العبوديتان استحق أن يكون خليفة.. وقد جعل "الحلاج" من نفسه محاميا عن إبليس الذي رفض السجود لآدم بحجة أن السجود لا يكون لغير الله وإبليس لم يحتج بهذا القول بل لأنه خلق من نار وآدم من طين كما أن أمر السجود كان من باب التكريم وليس العبادة.
التوكل
لا يختلف الصوفية في ذلك عن المتكلمين حيث تسلطت عليهم أفكار مسبقة فأولوا الآيات بما يوافق معتقدهم ولما كانت فكرة التوكل من أهم مقامات الصوفية فأنهم خلطوا بينها وبين التواكل وكان تأثير ابن عطاء الله السكندري في هذا الصدد خطيرا للغاية منذ القرن الثامن إلى اليوم إذ التزمت الصوفية لاسيما الشاذلية بأفكاره ومازالت هذه الطرق تنوء تحت كاهل التواكل وترك الأسباب بإسم إسقاط التدبير.
الشاذلية
الشاذلية هي أكثر الطرق الصوفية عددا وأشدها أثرا وابن عطاء الله تلميذ أبي العباس المرسي تلميذ أبي الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة ولا يعرف لمعظم مؤسسي الطرق مؤلفات فيما عدا أحزاب وأدعية وأوراد.. ولكن ابن عطا الله له مؤلفات يعكف مريدو الشاذلية على حفظها وأسلوبه جد خطير لأن فيه بلاغة في التعبير ولكنه بلاغة تشيع في المريدين نوعا من التخدير وتشل بما فيها من إيقاع موسيقي مصدره "السجع" ملكة النقد العقلي.. ولا تدور كتاباته غالبا إلا حول هذا المعنى: التجرد من الأسباب وإسقاط التدبير غلافا متجاهلا أن التوكل هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اعقلها وتوكل" وذلك حين سأله سائل عن ناقته أدعها وأتوكل، فجعل عليه الصلاة والسلام الأخذ بالأسباب أو عقال الناقة مصاحبا للتوكل بل سابقا عليه.. والانبياء وكلهم قدوة التمسوا الأسباب فيعقوب يطلب من بنيه ألا يدخلوا مصر من باب واحد وحينما أمر الله موسى أن يذهب إلى فرعون إنه طغى.. التمس موسى الأسباب فطلب من الله أن يشد عضده بأخيه لأنه أفصح منه لسانا.. وهكذا لا نجد مفهوما للتوكل عند أحد من الأنبياء يفيد إسقاط التدبير أو استبعاد الأسباب فذلك مفهوم غريب عن روح الإسلام دين العمل والجهاد.
أسرار الحروف
ولعبت أسرار الحروف دورها في بعض التفسيرات الصوفية ويشير ابن خلدون إلى تأثر الصوفية المتفلسفين بطائفة الإسماعيلية الشيعية فالألف هو مظهر صورة العماد الذي هو النفس الرحماني والوحداني وتستثير الحروف المفتتح بها بعض السور وجدان الصوفية فـ "ألم" في مفتتح سورة البقرة: الألف إشارة إلى الله لدى القشيري و "اللام" إلى جبريل و "الميم" إلى محمد أي أن ذلك الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.. ويسرف متفلسفة الصوفية المتأثرون بالفيثاغورية والأفلاطونية المحدثة في الغوص في أسرار الحروف والأعداد وهم في ذلك بلا شك قد أشربوا مذهب الإسماعيلية وإخوان الصفا.
ونبذ الصوفية العقل – إلا قليلا منهم- وأنكروا العلم الكسبي لا باعتباره غير مؤد إلى معرفة الله فحسب بل باعتباره حائلا يحول دون الوصول إلى الله إذ إن الإشراقات الإلهية لا ترد إلا على قلب فارغ من كل هم ومن كل علم وتمسكوا بالغيبيات والخرافات واعتقدوا بسلطان مطلق للأولياء لا بوصفهم وسطاء وشفعاء إلى الله فحسب بل أضيفت عليهم القدرة الخارقة.
الصوفية بين السنة والشيعة
كان التصوف ومازال همزة الوصل بين مختلف الفرق خصوصا بين أهل السنة والشيعة ليس لأن الصوفية من أهل الحلول الوسطى وإنما لأنهم يدفعون بالمريدين عن المجادلات والمشاحنات ويميلون إلى عدم الانتصار للنفس ومن ثم فقد أصبح التصوف يجمع بين أهل السنة والشيعة فضلا عن اعتناق أهل السنة منهم أفكارا شيعية معتدلة كأفضلية الإمام "علي" ونسبتهم طريقتهم إليه.. يقول ابن خلدون: أنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى الإمام "علي" رضي الله عنه بل ذهب كثير منهم سنة وشيعة إلى اعتناق القول بأن النبي صلي الله عليه وسلم قد أفضى بالعلم الروحي إلى "علي".
كما أن هناك التقاء في كثير من الأفكار بين التشيع والتصوف إذ الدين لدى الفريقين طاعة رجل فالمرجع في أحكام الدين لدى الشيعة هو الإمام.. كما أن من لم يكن له شيخ على حد تعبير "البسطامي" فشيخه الشيطان ومصدر العلم لدني أو إلهي عند الفريقين، وقد أثبت الشيعة العصمة لأئمتهم كما أثبت الصوفية الحفظ لشيوخهم.. فهناك أفكار ذاعت وانتشرت بين أهل السنة وهي أفكار شيعية وذلك بتأثير وتوسط من التصوف.