مصراتة لم تعد مدينة فوق قطعة من أرض ليبيا، أو تجمعاً بشرياً يتعاطى الحياة كما يفعل بقية سكان الأرض. لا، مصراتة الآن معنى، وجرح، وصرح، عملاق يشتعل، يراه الناس من كل مكان وسيشع في كل زمان، مصراتة، أسطورة الحرية، أسطورة الزمان. لو كان الهواء يعبَّأ في القوارير المزخرفة، لعبِّئ هواؤها في أجمل القوارير ليكون عطراً للحرية، ولتمكَّنَ البشر لأول مرة من أن يستنشقوا الحرية عطراً. ولو كان للتراب أن يكون معدناً يغطي قيمة العملات، لَحُقَّ لتراب مصراتة أن يكون أغلى الأغطية لكل أنواع العملات. إن الشمس عندما تسطع فوق أديم مصراتة يصير ضوؤها وهجاً قدسياً يشع بطقوس الحرية
وقف يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهى خاوية، هكذا كان حال على الشيخ، صاحب أحد المحال التجارية فى سوق الخضر بشارع طرابلس بمدينة مصراتة، بعدما داهمت دبابات كتائب القذافى السوق، واتخذت منها معسكراً لشن هجماتها على مدينة طرابلس، خاصة شارعها الرئيسى، الذى كان يمد المدينة بجميع مستلزماتها الغذائية والطبية.
«على» لم يتوقع أن تقتحم الدبابات الأسواق، بصفتها مقار مدنية ضيقة وأن عمليات الاشتباك بين ثوار المدينة وكتاب القذافى ستقتصر على الشوارع الخارجية للمدينة، فترك محله التجارى بعدما أحكم غلقه، وجلس فى منزله مترقباً توقف إطلاق النار.
يحكى «على» وعلامات اليأس المغلفة بفرح الانتصار مرتسمه على وجهه: «نصحنى أصدقائى من أصحاب المتاجر المحيطة بى بنقل تجارتى إلى المخازن بعيداً عن السوق، ولكننى لم أنصت إليهم بحجة أن عمليات الضرب والقصف سوف تكون بعيدة عن المحال وستقتصر على الشوارع الخارجية للمدينة مثل أى اشتباكات، ولكن كتائب القذافى فاجأتنا باقتحامها السوق وتمركزها بداخلها واتخاذها مقراً لعملياتها العسكرية».
وعلى بعد خطوات قليلة من محل «على»، ستجد العشرات من دبابات كتائب القذافى يحتل سوق الخضروات، الذى يتوسط مجموعة محال لبيع المواد الغذائية وأسواق الأسماك والصوف والشعير والغلال، واتخذت من المحال المحيطة أماكن للاختباء والنوم، فملابسهم وبقايا أطعمتهم من لحوم مقددة وزجاجات عصائر فارغة مازالت متناثرة داخل هذه المحال.
الدمار الذى لحق سوق الخضروات المتفرعة من شارع طرابلس التجارى، لا يمثل واحداً بالمائة من الدمار الذى لحق بالمبانى السكنية المتواجدة على جانبى الشارع، التى هوى بعضها من قذائف الدبابات، وأضرم النار فى البعض الآخر نتيجة قذائف الهاون، بينما ظل بعضها متماسكاً متحدياً قذائف «أر بى جى».
رمضان بشير الشنبة، واحد من ثوار شارع طرابلس، الذين خاضوا قتالاً ضد كتائب القذافى طوال 3 أشهر، فقد خلالها العشرات من أبناء عمومته دفاعاً عن بيوتهم وحرمة منازلهم، وقف ملتفاً بسلاح يبدو غريباً عن أسلحة الثوار «الكلاشينكوف»، فالسلاح الذى كان يحمله أكثر تعقيداً وحداثة، سألناه عن السلاح فأجاب ضاحكاً: «هذا السلاح من غنائم الحرب».
لم يكن السلاح الذى يحمله الشنبة هو الغنيمة الوحيدة التى حصل عليها خلال اشتباكه مع قوات القذافى، بحسب قوله، وإنما واحد من عشرات الغنائم التى حصل عليها خلال اشتباكاته مع الثوار وإن اختلفت هذه الغنائم بين سيارات مقاتلة وأسلحة مضادة للطيران وأطعمة وعصائر كان يقتات بها أنصار القذافى أثناء حصارهم لشارع طرابلس الذى استمر 40 يوماً.
الشنبة عرض علينا جولة فى الشارع يشرح خلالها كيف دارت الاشتباكات، وكيف استعاد أهالى مصراتة مدينتهم رغم بدائية أسلحتهم، لتبدأ الجولة من جراج صغير خلف عمارة الأوقاف فى شارع طرابلس، اتخذ منها الشنبة وأقاربه مقراً لكتيبتهم، التى قسمها بين قناصة واستطلاع، قناصة يختبئون بين المنازل، وفرق استطلاع تراقب تحركات كتائب القذافى التى اتخذت من أسطح المنازل مقراً لها، ليحددوا أوقات راحتهم وتناوبهم وأماكنهم فوق أسطح العمارات.
يقول الشنبة: فى البداية كان قناصة القذافى يستهدفون الأطفال والنساء مستخدمين السلاح المضاد للطيران لإدخال الرعب فى قلوب الأهالى، لذلك كان الهدف الرئيسى للثوار فى ذلك الوقت هو إخراج النساء والأطفال من المبانى السكنية، وايداعهم فى مكان آمن خوفاً من أن يقعوا فريسة فى أيدى الكتائب، وبالفعل تم نقلهم إلى أماكن آمنة بالقرب من ساحل البحر والجبل على أطراف المدينة.
يتابع: «وبعد الاطمئنان على أقاربنا بدأنا توزيع أنفسنا على الضواحى، ووضع خطط للكر والفر، وكانت الطريقة الوحيدة أمامنا هى اقتحام المبانى التى احتلتها الكتائب لقنصنا، وبالفعل تم وضع خطط لمداهمة المنازل من خلال إحداث ثقوب فى جدرانها، وهو ما حدث فى عمارة الأوقاف التى كان يوجد بها 5 من القناصة من جنسيات تنوعت بين مالى وتشاد وكوبا.
اقتحام العمارة جاء بعد مراقبة القناصة والأوقات التى يتبادلون فيها عمليات القنص، حيث اكتشف الثوار أن القناصين يتناولون حبوباً منبهة يصل مفعولها إلى 72 ساعة، ثم يأخذون بعدها قسطاً من الراحة لمدة 10 ساعات لكى يتمكنوا من مواصلة عمليات القنص، بحسب كلام الشنبة.
وبعد تحديد الوقت المناسب لاقتحام العمارة، كانت المفاجأة التى واجهت الشنبة ورفاقه من الثوار، هى وجود قناصات كوبيات بعضهن كان أعلى العمارة فى استعداد للقنص وأخريات كن يجلسن فى الطابق الارضى يتعاطين الهيروين والكحوليات وبحوزتهن نصف كيلو من الذهب الذى سرقنه من بعض محال السوق التجارية.
صعدنا إلى سطح عمارة الأوقاف لنرى الأماكن التى اتخذها قناصة القذافى مرتعاً لهم، لنجد جدران السطح يتخللها العديد من الثقوب فى جميع الأنحاء بعضها مطل على ضواحى الشارع والبعض الآخر مطل على الشارع الرئيسى.
رغم أن الثوار ألقوا القبض على قناصة القذافى فإن آثارهم مازالت موجودة فى المكان، فحبوب الفستق مترامية حول الكراسى المتحركة التى كانوا يرتكزون عليها لقنص أرواح أهالى شارع طرابلس تختلط بها بقايا طلقات «الخارق الحارق» وأكياس الشيكولاته وعلب العصائر والحليب.
لم يترك الشنبة وغيره من رفاقه بقايا كتائب القذافى من أسلحة وملابس تذهب هباء، وإنما أقاموا معرضاً يتوسط شارع طرابلس ليرى بقية أهالى مصراتة الوافدين من شوارع مناطق مجاورة ما تم قنصه، فهنا ملابس القناصات الكوبيات تتوسط المعرض بينما علقت أوراقهن الثبوتية فى بداية المعرض، بينما انتشرت مئات القذائف على مسافة بلغت 10 أمتار تم جمعها من شارع طرابلس، وتنوعت بين أسلحة الميلانو، الماتوشة، الهاون العادى والانشطارى، الجراد، الأر بى جى، كلاشنكات حديثة إسرائيلية الصنع، وهاون مورتن انشطارى جميع الاصناف من 59 حتى 155، وقذائف الـ 14.5 والـ23 والخارق الحارق.
على امتداد شارع طرابلس وفى منطقة بوشعالة، لم تسلم المساجد والمقابر والمواشى والمخابز من قذائف القذافى، هكذا بدأ الدكتور محمد عبدالسلام بن طه حديثه معنا خلال جولة «المصرى اليوم» فى شوارع مصراتة، بعد صلاة الظهر وأثناء استمرار قصف الدبابات لمدينة مصراتة، احتشد العشرات من النساء وكبار السن فى مساجد المدينة داعين الله لنصرة مدينتهم، كان من بينها مسجد الرحومات بمنطقة بوشعالة، التى فتحت مكبرات المسجد، التى لم تكف عن التكبير، لترد عليها كتائب القذافى بقصف شديد أطاح بمآذن المسجد ودار تحفيظ القرآن التى كان يتجمع فيها أهالى المنطقة.
أما الأموات، ومازال الكلام على لسان بن طه، فمقابر المدينة أخذت حظها هى الأخرى من القصف، والأهالى الآن يقومون بتطهيرها مراعاة لحرمة الموتى، وعلى بعد خطوات من المسجد توقف بنا بن طه، وأشار إلى إحدى الحفر التى تنبعث منها رائحة عفنة، قائلاً: «هذا المكان وجدنا فيه 4 جثث من المرجح أن تكون لمصريين نظراً لوجود عدد كبير من المصريين يسكن هذه المنطقة، فضلاً عن أن المساكن وجدناها ملطخة بالدماء ولا نعرف عن أصحابها شيئاً بينما شاهدنا بعض المصريين من جيراننا على القنوات الليبية يعترفون بأنهم مخربون وإرهابيون وهذا أمر غير صحيح».
ورغم أن الثوار سيطروا على مداخل ومخارج المدينة وأصبح لا يفصلهم عن طرابلس العاصمة سوى 150 كيلومتراً، بحسب عبدالكريم الكميتى، أحد الثوار، فإن الأهالى قاموا بتأمين الشوارع الداخلية للمدينة، وأحضروا حاويات كبيرة وملأوها بالرمال ليسدوا بها مداخل ومخارج المدينة، مرددين أنهم مازالوا فى حرب لا يعلم مصيرها إلا الله.