إضافةً إلى ما ذُكِر من حَثَّ أصحاب المعاصي على الإقلاع عنها، واالندم منها، والتوبة والاستغفار، والإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى-، وإتباع السيئة يالحسنة، وعدم القنوط من رحمة الله، وترك اليأس من روح الله، لإضافة إلى هذا وغيره نسوقُ هذه النصائح:
مفارقة موطن المعصية:
يستحب للعاصي القائم على معصية الذي يستطيع التخلص منها أن يفارق موطن المعصية.
فإذا كان هناك مَثَلاً: رجل متعلق بامرأة من النساء ولا يستطيع ان يمنع نفسه من ارتكاب المحرم معها ابتداء من النظرة المحرمة وانتهاءً بالفاحشة والعياذ بالله فخير علاج لهذا المبتلى بعد تقوى الله وطلب العون منه -سبحانه وتعالى-:
أن يفارق موطن المعصية ويترك المكان الذي تتواجد فيه المرأة، وذلك فراراً من فتنتها، ولأن الأماكن التي ارتُكبت فيها المعاصي تُذكِّر بهذه المعاصي.
ونحو ذلك:
إذا كان هناك شخص ابتلي بشرب الدخان والمخدرات فليترك أمكنة هذه الأدخنة والمخدرات، ويترك أصدقاء أصدقاء السوء الذين يتعاطونها ويفرُّ من هذه الأماكن.
وقد دلت على هذا جملةُ أدلة من الكتاب العزيز ومن سنة النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك:
حديث قاتل التسعة والتسعين نفسًا الذي قتل الراهب فأتمَّ به المائة، ففيه: أنه دُل على رجل عالم فقال: «إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟، فقال: "نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء". فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت. فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب...» [رواه مسلم].
ومن ذلك:
قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
ومن هذا الباب أيضًا قوله:
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140].
ومن هذا الباب كذلك:
تغريب الزاني، فالزاني البكر يُجلد مائة ويغرب عام، وفي هذا والله أعلم فضلاً عن الردع بهذه العقوبة، ففيه إبعاده عن موطن المعصية كذلك.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى:
{الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3].
ترك المعصية:
ويُنصح من ابتلي بمعصية: ألا يجاهر بهذه المعصية، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» (1).
فضلاً عن ذلك، فإن المجاهرة بالمعصية نشراً وإفشاءً لها، مما يُحَمَّل المجاهر إثم من اقترف مثل هذه المعصية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» (2).
فينبغي أن يستر المُذنب نفسه ولا يفضح نفسه، بل عليه أن يجتهد في التوبة والاستغفار والسِتر على نفسه، ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
قوة العزيمة ونماذج لتوبة بعض التائبين:
فينبغي أن يقوِّي الشخصُ عزيمتهُ، ويُقبل على التوبة إلى الله -سبحانه وتعالى- بقلبه ولسانه وجوارحه، ويقلع عن المعاصي، ويدع الضعف والخور، وقد ضرب لنا سلفنا الصالح أروع الأمثلة في ذلك.
فها هي امرأة تأتي معترفة بذنبها تريد أن تتطهر من ذنبها وتلقى الله ولا تَبِعةَ عليها، فتَجُوُدُ بنفسها لله سبحانه وتعالى، وتأتي معترفةً بالذنب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كي يقيم عليها الحد ويهدأ ويسكن خاطرها، ولا تَهُمَّنَّها الملابساتُ المحيطة بها ولا يَهمنَّها حَملُها الذي في بطنها، ولا وليدها بعد أن وضعته، تلك هي الغامدية، وهذه هي قصتها التي يقشعر لها الجلد ويرق لها القلب ويقف معها الفؤاد وَجِلاً، وها هي قصتها كما في (الصحيح) (3) من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنهما-: "أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهي حبلى من الزنى، فقالت: "يا نبي الله! أصبت حدا (4) فأقمه علي". فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال: «أحسن إليها. فإذا وضعت فائتني بها» ففعل. فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها. فقال له عمر: "تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟!"، فقال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى ؟».
وها هو رجل آخر يأتي معترفًا بذنبه يريد التطهر، يأتي عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيتحول عن يساره، كل ذلك كي يتطهر من ذنبه، وها هي قصته، وهذا هو حديثه كما في البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال (5): أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الناس وهو في المسجد، فناداه: "يا رسول الله، إني زنيت"، يريد نفسه، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال: "يا رسول الله، إني زنيت"، فأعرض عنه، فجاء لشق وجه النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أبك جنون». قال:"لا يا رسول الله"، فقال: «أحصنت». قال : نعم يا رسول الله ، قال: «اذهبوا به فارجموه».
وها هو تصرفٌ في غاية من الثبات والرجوع إلى الله والإنابة إليه، حقًا إنه تصرفٌ رشيدٌ صَدَرَ مِن قلبٍ أوًّاه مُنيب، ها هو ماعز وتلك هي الغامدية، وها هي قصتهما كما أوردها مسلم () في صحيحه من حديث بريدة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله طهرني". فقال: «ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه»، قال: فرجع غير بعيد. ثم جاء فقال: "يا رسول الله طهرني". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه» قال: فرجع غير بعيد. ثم جاء فقال: "يا رسول الله طهرني". فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيم أطهرك؟»، فقال: "من الزنى". فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبه جنون؟»، فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: «أشرب خمرا؟»، فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أزنيت؟»، فقال: "نعم"، فأمر به فرجم. فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: "لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته". وقائل يقول: "ما توبة أفضل من توبة ماعز: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثم قال اقتلني بالحجارة". قال : فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: «استغفروا لماعز بن مالك». قال: فقالوا: "غفر الله لماعز بن مالك". قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم». قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: "يا رسول الله طهرني". فقال: «ويحك! ارجعي فاستغري الله وتوبي إليه». فقالت: "أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك". قال: «وما ذاك؟» ) قالت: إنها حبلى من الزنى. فقال: «آنت؟» ( ) قالت: "نعم". فقال لها: «حتى تضعي ما في بطنك». قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قد وضعت الغامدية". فقال: «إذا لا نرجمها وندع لها ولدها صغيرا ليس له من يرضعه». فقام رجل من الأنصار فقال: "إلي رضاعه يا نبي الله"، قال: "فرجمها".
وللحديث رواية أخرى عند مسلم أيضا، فيها:
أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني"، فرده. فلما كان من الغد أتاه فقال: "يا رسول الله، إني قد زنيت"، فرده الثانية. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: «أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا؟»، فقالوا: "ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى". فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه: "أنه لا بأس به ولا بعقله". فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم. قال: فجاءت الغامدية فقالت: "يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني"، وإنه ردها. فلما كان الغد قالت: "يا رسول الله، لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا. فوالله إني لحبلى". قال: «إما لا، فاذهبي حتى تلدي»، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: "هذا قد ولدته". قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه». فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت: "هذا يا نبي الله، قد فطمته، وقد أكل الطعام". فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد، فسبها. فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها. فقال: «مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له». ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت.