"ولكن كونوا ربانيين"
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده حمداً كثيراًطيباً مباركاً فيه كما
يحبُّ ويرضى، فله الحمد بالإسلام وله الحمد بالإيمان
وله الحمد بالقرآن، وله الحمد حتى يرضى وله الحمد
إذا رضي هو أهل التقوى وأهل المغفرة .
وأصلّي وأسلّمُ صلاةً وتسليماً دائمين إلى يوم الدين
على نبيه ومصطفاه من خلقه، نبينا محمّد النبيّ الأمّي
الذي يؤمن بالله وكلماته، حمل الرسالة وأدّى الأمانة
ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله
عليه وسلم، ما ترك خيراً يدل إلى الجنة ويبعد من
النارإلا بيَّنه وأمرنا به، ولا شرَّاً إلا بيَّنه وحذرنا منه،
حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا
يزيغ عنها إلا هالك .
و جزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته،فقد أبلى
فينا البلاء الحسن وسهر ليله وتعب نهاره وشاب
شعره وأنهك جسمه ولقي الأمرين من أجل أن يصلنا
الدين نقيَّاً مصفَّى، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا
مِنَ المُتَكَلِّفِينَ } ..
أما بعــــــد ،
من كتاب الله عز وجل من سورة آل عمران
"ولكن كونوا ربانيين"
، قال تعالى :
{ مَاكَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ
يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ
رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ *
وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } .
من مصائب الأمة أيها الأحبَّة ، الجهل ، وطالما تمرَّغت الأمة في ظُلُمات الجهل بعيداً عن هدى ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يقلُّ عن الجهل مصيبة، العلم المؤسَّس على غير هدى ولا كتابٍ منير .
فنحن لا بدَّ أن نحارب الجهل، ولكن لا بدَّ أيضاً أن يكون العلم الذي ندعو إليه علماً مؤسَّساً علىالأصول الشرعية الصحيحة، علماً مقرِّباً إلى الله عز وجل .
فلا شك أن مراجعة المسيرة وتصحيح الخطأ والدعوة إلى التوازن من أهم المقاصد التي يحرص عليهاالصالحون والمُصلحون، إننا نعلم أن الجاهل قد يقبل التعليم، فإذا كان جاهلاً جهلاًبسيطاً لا يعرف مثلاً متى وقعت معركة بدر، فقلتَ له : وقعت معركة بدر في السنة السادسة للهجرة، كان من الصعب تعديل هذا العلم الخاطئ الموجود لديه ، بل هو جهل مركَّب !
إذن فالجاهل قد يتعلم، لكن الذي يرى نفسه عالماً قد يكون من الصعب أن يتقبل من غيره .
هذه الآية الكريمة فيها الحديث عن صنف من العلماء ، وصفهم الله عز و جل بأنهم ربانيون ، ومعنى الآية أن الله تعالى نفى أن يكون لبشر من البشر – النبي أو الرسول – أن الله يمنحه الكتاب و الحكم و النبوة ثم يقوم هذا النبي ليقول للناس كونوا عباداً لي ، لا، فالنبي لا يدعو الناس إلى عبادة نفسه ، و إنما يدعوهم إلى الله ، فيقول للناس : كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ، لا يأمرهم بغير ذلك ، فلا يأمرهم بعبادة نفسه و لايأمرهم أيضاً بأن يتخذوا الملائكة و النبيين الآخرين أرباباً من دون الله عز و جل ،و كيف يأمرهم بالكفر و هو إنما جاء و بعث بالإسلام ؟
ربانيون ، أي منسوبونَ إلى الرب ، و قد ذكره ابن الأنباري عن النحويين و هو على كل حال نسبةٌ على غير قياس كما يقال شعراني .
ربانيون ، وصلواإلى الدرجة العليا و المقام الأعلى في العلم و التربية ، إذن الربانية لا تطلق على الإنسان المبتدئ في العلم الذي حضر لتوه مجالس الذكر و التعليم ، لا ، و إن كانت البوادر قد تظهر عليه منذ صغره في تقواه وورعهِ و تحرِّيهِ عن الحرام و حرصِهِ على العمل ، لكنَّه إنما يوصف بالربانية العالمُ الراسخُ في علمِهِ كالأئمةِ الأربعةِ مثلاً ، و المجدِّدين عبر العصور ،فإنهم يُطلق عليهم أنهم ربانيون .
ربانيون ، أي حكماءُ علماءُ حلماءُ ، كما ذكره ابن كثير و غيره عن ابن عباس رضي الله عنه .
ربانيون ، أي فقهاء ،كما ذكره ابن كثير و غيره أيضاً عن الحسن البصري و غير واحدٍ من السلف .
ربانيون ،أي أهل عبادة و تقوى ، كما هو قول الحسن أيضاً .
و هؤلاء تعرفُ فيهم صفات :
الصفة الأولى / العلــــــم
{ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } ، هكذا قرأها جمهور القراء ، " تَعْلَمُونَ" بالفتح، إذن هم علماء وهذه من أخص صفاتهم، " وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" ، إذن هم أساتذة وشيوخ وفقهاء ومفتون، أقبلوا على علم الشريعة ، علم الكتاب والسنة ، فرفعهم الله تعالى به .
قال تعالى : " يرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُواْ العِلْمَ دَرَجَاتٍ " ، و قال سبحانه : " شهدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَ المَلائِكَةُ وَ أُولُوْا العِلْمِ " ، فقرن أولي العلم وأشهدهم على ذلك مع ملائكته ومع ذاته المقدسة ،فدل على قدرهم ، و قال عز و جل : " فاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ " ، فبدأ بالعلم قبل القول و العمل .
هم علماء ، والعلم حياة ، و لهذا قال الشاعر :
أخو العلم حيٌ خالدٌ بعـــدَ موتِهِ *** وأوصالهُ تحتَ التُّرابِ رَمِيمُ
و ذو الجهلِ مَيْتٌ وهوماشٍ عَلَى الثَّرى*** يُظَنُّ مِنَ الأَحيَاءِ و هوعَديمُ
و قال آخر :
و في الجهلِ قبلَ الموتِ موتٌ لأهلهِ *** وأجسامهمْ قبلَ القبورِ قبورُ
و أرواحهمْ في وَحشةٍ من جسومهمْ *** و ليسَ لهم حَتَّى النشورِنشورُ
فهم أمواتٌ غير أحياء بجهلهم، ولو كانت أسماؤهم
على كل لسان ، فأنت اليوم مثلاً لو سألناك عن أعظم
عالمٍ في القرن السادس الهجري و أوائل السابع ،
لقلت : شيخالإسلام ابن تيمية ، فأصبح يعرفه الكبير و
الصغير ، لكن لو سألناك مثلاً من هم تجارذلك القرن ،
هل تعرفهم ؟ و من هم قواد الجيش في ذلك القرن ؟ و
من هم أصحاب السلطة والجاه في ذلك القرن بأسمائهم
؟ قد لا تعرفهم ، لكن ابن تيمية من الذي لا يعرفه
؟كلما تقدم الزمن زادت شهرته و مكانته ، حتى إن
مكانته اليوم - و أجزم بهذا - عندالمسلمين أعظم بكثيرٍ
من مكانته يوم كان حياً يتحرك بينهم ، ففي ذلك الوقت
كان خصومه كثير ، حاربوه و أحرقوا كتبه و كادوا له
، حتى وقع في غياهب السجون و منعت فتاواه زماناً ،
بل و كادوا أن يضربوه في بعض المناسبات ..
لكن اليوم أبى الله عز و جل إلا أن يظهرحقَّه على
باطلهم ، و ماتوا و بقي ابن تيمية حياً .
يا رُبَّ حيٍِّ رُخامُا لقّبرِ مَسكنُهُ *** و رُبَّ مَيْتٍ عَلَى
أقدامِهِ انتصَبَا
ملايين من الناس اليوم ، في الوظائف و الأسماء و التجارات و الأعمال لايعرفهم أحد ، و لا يحزن عليهم إن ماتوا أحد !
و الغريب أن العلم الشرعي بالذات على رغم هذه المكانة ، لا يختاره إلا القليل ، لأن أمام طلبه عقباتٌ و عقباتٌ تنقصمَ لها الظهورَ و تنكسرَ الأعناقُ ، و العجيب أيضاً أن العالم يكون موضع عتب من الناس فيما قد ينسبونه إليه من تقصير ، أو يظنونه فيه من قول أو فعل ، فهم يلومونه و يقولون : " العالم الفلاني غفر الله له ، عنده أرضٌ في المكان الفلاني ، و العالم الفلاني سمع المنكر و لم يغيره ، و مرة من المرات فعل كذا و كذا و أغلظ في القول لرجلٍ عنده " ، فيعدون عليه أخطاء فعلها ، يظنونها أخطاء ، و هي قد لا تكون كذلك ، و قد تكون من خطأ البشر ، فنقول لهم ، نوافقكم على ذلك ، هبوا أن ما تقولونه عن هذا العالم - الذي هو فعلا عالمٌ – صحيحٌ و أنه أخطأ ! :
و مَن ذَا الَّذِي تُرضَى سَجَايَاه كلُّها ** كفى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدَّ معايبُهْ !
هذا العالم عددتم له أخطاء ، خمسة أو عشرة ، لكن أنا و أنت و فلان و علان ،من يحصي أخطاءنا ؟
وقف رجل يوماً المنبر فتكلم ، فقام إليه أحد الحضور و سأله سؤالاً ، فقال : لا أدري ! قال : تصعد المنبر و أنت لا تدري ؟ ، قال : إنما علوتُ بقدر علمي ، ولو علوت بقدر جهلي لبلغتُ عنان السماء !
أقول : يعتبون على هذا العالم في خمسةأخطاء أو عشرة ، يظنونها أخطاء وقع فيها هذا العالم ، و لكن ننسى أننا ملومون علىمسألة أكبر ، و هي لماذا كان هذا عالماً و لم نكن نحن علماء ؟ لماذا تركنا نحن التعلم و التعليم ؟
بعضنا لعله معذور لم يعطه الله تعالى الآلة من الذكاء و الفهم و الفطنة ، وقد يكون بعضنا لم تتيسر له أسباب تحصيل العلم ، و قد يكون بعضنا في بلادٍ بعيدةٍ ونائيةٍ لم يستطع أن يتعلم ، دعك من هؤلاء كلهم ، لكن كثيرون تمكنوا و عندهم عقلٌ وذكاءٌ و فطنةٌ و حفظ ، و الأسباب أمامهم ميسورة مبسوطة ، و مع ذلك لم يتعلموا !
أحيانا يخطر فيذهني سؤال ، العلماء المشاهير ، أمثال ابن باز و ناصر الدين الألباني و ابن عثيمين و ابن جبرين ، أين زملاؤهم على مقاعد الدراسة أو في مجالس طلب العلم ؟ و مثلهم علماء في البلاد الإسلامية كلها بطولها و عرضها !
لقد كان كل واحد منهم يوماً طالباً فيحلقةٍ له فيها على الأقل عشرون زميلاً ، أين هم ؟ أكثرهم تأخروا عن الركب ، و بقي هو وحيداً في السـاحة ، لأنه أصر على طلب العلم و أصر على المواصلة ، أما هم فكثيرٌمنهم قد يكونون يشغلون وظائف عادية كغيرهم من الناس ، لا يتميَّزون عنهم بشيء إلاأن الواحد منهم ربما تمدَّح في المجالس و قال : أنا من زملاء فلان و علان !
طيب إذا كنت من زملائه لماذا لم تكن مثله ؟ و لم تعمل عمله ؟ هو تلقى العلم مثل ما تلقيت ، فلماذاظهر هو و خفيت أنت ؟ و نفع هو و لم تنفع أنت ؟
ذكر ابن القيم رحمه الله عن الشافعي أنه إذا رأى رجلاً سأل عنه ، فإن كان صاحب علمٍ و عملٍ تركه ، و إلا عاتبه الشافعي عتاباً مرَّاً و قال له : " لا جزاك الله خيراً ، لا عن نفسك و لا عن الإسلام ،ضيَّعتَ نفسك و ضيَّعتَ الإسلام !!" .
انظروا ، الشافعي رجل مؤدب ، و لكنه كان يحترق قلبه فيغلظ في العتاب ، و العتاب يزيل الوحشة بين الأحباب، فقد كان من الممكن أن يصبح عالماً يشار إليه بالبنان و يرفع الله به الجهل عن أمة من الناس ، و لكن لم يكن هذا إلا لتقصيره !
و الغريب في الأمر أنك لم تكتف بالتقصير ،بل زدتَ على ذلك أن توجِّه سهام اللوم و العتب إلى من قطعوا هـذا المشوار الذي عجزتأنت عن قطعه !
إذنلا بدَّ من الدعوة إلى العلم ، فالعلم خير كله ، حتى الكلاب المعلمة فضَّلها اللهعز و جل : { مكلبينَ تُعَلِّمُونَهُنَ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله ، فَكُلُوامِمَّا أَمْسَكنَ عَلَيكُمْ} ، فالكلب المعلم يتميز في الصيد عن الكلب غيرالمعلم ، فكيف بالإنسان الذي فضله الله تعالى و اختاره و اصطفاه؟
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَوَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِوَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }
الصفة الثانية/ الاتبـــاع
ليس العلم الذي يتعلمه العالم ، هو قال فلان و قال علان ، لا ، إنما هو علم الكتاب !
و لهذا قال في الآية " وَلَـكِن كُونُواْرَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ" ، أي الكتاب المنزل من الله تعالى على رسله و أنبيائه عليهم السلام .
إذن فالمقصود بالعلم ، هو العلم الشرعي المنبثق من الوحي ، الكتاب و السنة ، قال صلىالله عليه و سلم فيما رواه أبو داود و أحمد و غيرهما بسند صحيح : " ألا إني أوتيت القرآن و مثله معه" .
فالعلم إما آيةٌ محكمةٌ أو حديثٌ صحيحٌ أوإجماعٌ قائم :
العلمُ قالَ اللهُ قالَ رســـولُهُ *** قالَ الصَّحابةُ لَيسَ بِالتَّمْوِيهِ
مَا العلمُ نصبُكَ للخلافِ سفاهَةً *** بينَ الرَّسُولِ و بينَ رأيِ فقيهِ
العلمُ قالَ اللهُ قالَ رســولُهُ *** قالَ الصَّحابةُ هُم أُولوا العِرفَانِ
يقول الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى : " العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبطُ نصوصِ الكتاب و السنة و فهمُ معانيها والتقيُّدُ في ذلكِ بالمأثور " .
كلام قصيرٌ يغني عن كثير ، لأن العلوم الآن كثيرة عند الناس ، فيحتار المرء : ماذا أتعلم ؟ بماذا أبدأ ؟ نقول عليك بعلم الكتاب و علم السنة ، فلا تأتي لنا بمعنى لم تسبق إليه ، " لا تقل في مسألةٍ ليس لك فيها إمام "
كما قال الإمام أحمد رحمه الله .
و حين نقول الكتاب و السنة ، فهما يشهد بعضهما لبعض ، و الرسول صلى الله عليه و سلم كان شارحاً و مفسِّراً للقرآن بقوله وفعله ، فأما بقوله فإن السنة تبين القرآن و تفصل مجمله و توضح معانيه ، و أما بفعله فقد سئلت عائشةَ رضي الله عنها كما في صحيح مسلم عن خلـق النبي صلى الله عليه و سلم فقالت للسائل : ألست تقرأ القرآن ؟قال : بلـى ، قالت : " كان خلقه القرآن " .
فأفعاله صلى الله عليه و سلم كانت تفسيراً للقرآن و لهذا وصفه بعضهم بأنه كان قرآناً يدبُّ على وجه الأرض ، و هذه الكلمة و إن كان فيها تسامحٌ و مجاز إلا أنها تعبير دقيقٌ و جيّدٌ عن أخـلاق الرسول صلى الله عليه و سلم و أفعاله و أقواله .
و هذا هو الفقه حقَّاً ، القرآنُ و السنةُ و فهمُ معانيهما ، و أما أقوال الرجال فلا تعدو أن تكون تفسيراً للقرآن و تفسيراً للحديث ، و لا ينبغي أن يشتغلَ الإنسان بها إلا بقدرِ ماتكون بياناً لهذا أو ذاك .
و لهذا لمَّا تشاغل الناسُ بأقوالِ الرجالِ ظهر مصطلح أهل الفقه و أهل الحديث و تميَّزا ، و الواقع أنهما شيءٌ واحد ، ما الفقه إلا علمُ الكتابِ و السنةِ حفظاً و فهماً و علماً و عملاً ، و لذلك أنكر الأئمة كابن الجوزيّ و الخطابيّ وغيرهم التفريق بين أهل الفقه و أهـل الحديث ، بل هما شيءٌ واحد .
و لم يعتبرالعلماء رحمهم الله أن المقلِّد تقليداً محضاً عالم ، حتى قال ابن عبد البَّرْ : " أجمعوا على أن المقلِّد لا يعد من العلماء " ، و قال الإمام ابن القيّم رحمه الله : " العلم هو المعرفة الحاصلة بالدليل" ، و الدليل آية أو حديث أوإجماع ، فهذا هو العلم ، أما
كونك سمعتَ فلاناً يفتي بكذا ، و فلاناً يقول كذا ،فهذا لا يُعدُّ علماً و إنما هو تقليدٌ قد يُعذر به الجاهل الذي لا يستطيع إلا التقليد ، أما طالب العلم فلا .
الصفة الثالثة / الإخلاص والنيَّة :
يقول الرسول صلى الله عليه و سلم في حديث عمر المتفق عليه : " إنَّما الأعمال بالنيات " ، و يقول أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه عن ابن عباس و غيره : " لا هجرة بعد الفتح و لكن جهادٌ و نية" ، أي يعبد الله تعالى بالنية الصالحة : { من كَانَ يُريدُ الحياةَ الدُّنيا وَ زِينَتَهَا – بنيته و قصده – نوفِّ إِلَيهِم أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُمْ في الآَخِرَةِ إلاَّ النَّار } .
و قال : { من كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَعَجَّلنَا لَه فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدَ ، ثُمَّ جَعَلنَا لَهُ جَهَنَّمَ } .
و يقول الزهري - و هو من خيار التابعين - : " ما عُبدَ الله بشيءٍ أفضلَ من العلم " ، إذن و أنت تتناول العلم حفظاً أو دراسةً أو تأليفاً أو تعليماً فأنت تعبد الله تعالى بهذا .
ويقول سفيان الثوري : " لا أعلم بعد النُّبوة أفضـل من العلم" ، لأن العالم هو وريث النبي ، و الأنبياء لم يورَّثوا ديناراً و لا درهماً و لكن ورَّثوا العلم .
جاء أبو هريرة رضي الله عنه إلى أهل السوق و هم يتبايعون و يتشارَون ، فقال : " أنتم هاهنا وميراث النبي صلى الله عليـه و سلم يُقسَم في المسجد ؟" فتركوا بضائعهم و ذهبوا يتراكضون إلى المسجد ، فدخلوا و ما وجدوا إلا حلقةً هنا تعلِّم التفسير ، و أخرى تعلِّم الحديث ، فرجعوا و قالـوا : يا أبا هريرة غفر الله لك ، ما رأينا شيئاً ! ،قال : أوَ ذهبتم ؟قالوا : نعم ، قال : فماذا رأيتم ؟قالوا : رأينا قوما يعلِّمونَ القرآن و قوماً يعلِّمون التفسير و قوماً يعلِّمون الحديث ! قال : و هل ميراثُ رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا هذا ؟؟" .
و يقول ابن وهب – و هو من تلاميذ الإمام مالك - : " كنتُ عند مالك و قد نشر كتبه يقرأ و يعلِّم ويبيِّن ، فأذَّن المؤذِّن ، فذهبت أجمع هذه الكتب من أجل أن يذهب بها ، فقال الإمام مالك : على رسلك ! ترفَّق ! ليس الذي تقوم إليه – يعني من التنفل قبل الفريضة – بأفضل مما تقوم عنه إذا صحَّت النية" .
إذن فالعلم عبادة، و لا بدَّ لطالبِ العلم و هو يتناول العلم من أن يشعر بأنه يتعبَّد الله تعالى ويتقرَّب إليه بالتعرُّف على حكمهِ في المسائل و التعرُّفِ إليه جلَّ و علا بأسمائ هو صفاته و أفعاله ، و التعرُّف إلى أنبيائه بمعرفتهم و معرفة حقوقهم و ما أشبه ذلك من ألوان العلم و صنوفه .
و هذا الوصف ، وصف الإخلاص و النية هـو من أخـص معــاني الربانية { وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ }، أي إرادة وجه الرب تبارك و تعالى فيأخذ الإنسان و يدع ، وبها يبارك الله تعالى في العـلم وبها يثمر العلم و ينفع .
و أنت تجد الذين نفع الله تعالى بعلمهم ليسوا بالضرورة هم أذكى الناس و لا أكبر الناس عقولاً ، و لا أكثر الناس علماًأيضاً ، و لكن بارك الله تعالى في علمهم و نفع الله به لأنه كان فيه الإخلاص ، وهناك علمٌ غزيرٌ و لكن ما فيه روحٌ و لا إيمانٌ و لا إخلاصٌ ، فلم يباركِ الله تعــالى فيه ، فقلَّ المنتفعون به .
الصفة الرابعة / خلق العلم و أدبه
وذلك بالسَّمْتِ و الوقارِ غير المتكلَّف و القدوة في ذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان أعظم العلماء على الإطلاق ، و مع ذلك إذا وجدْتَ هديه و أدبه و معاملته للناس تجد أمراً يعجز عنه الآخرون ، و هذا من خصائصه صلى الله عليه و سلم التيميَّزه الله تعالى بها .
ففي مجال العلم هو البحر لا يدركُ ساحله ، لكنَّك تجده أيضاً متواضعاً مع أصحابه يمازحهم و يضاحكهم و يأخذ معهم ، حتى ربما تكلموا بأمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم عليه الصلاة و السلام .
و قد كان له من الهيبة و الوقار في نفوسهم الشيء العظيم ، حتى إنه سها يوماً من الأيام في صلاته كما جاء في الصحيحين و سلم صلاة الظهر أو العصر من ركعتين ، فلم يجرؤوا على أن يقولوا : سهوتَ يا رسول الله ! حتى أبو بكر و عمر أخص أصحابه هابا أن يكلماه ، حتى قام رجل يقال له ذو اليدين ، وقال : يا رسول الله أ قصرت الصلاة أم نسيتَ ؟ قال : لا ما نسيتُ و لم تقصر،قال : بل نسيت ! فقال : أكما يقول ذو اليدين ؟قالوا : نعم ، فاستقبل القبلةو صلَّى ركعتين ثم سلَّم ثم سجد للسهو ثم سلم عليه الصلاة و السلام .
الصفة الخامسة / مخالطةُ الناس بالحسنى :
من الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الربانيون مخالطة الناس بالحسنى ، و التخلُّق معهم بالخلق الفاضل ، لقوله تعالى : { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمونَ الْكِتَابَ } أي تعلِّمون الناس ، و كيف تعلِّمونهم و أنتم في أبراجكم العاجية ؟ و كيف تعلِّمونهم و أنتم في مكتباتكم ؟ و كيف تعلِّمونهم و أنتم تغلقون في وجوههم أبوابكم ؟ و كيف تعلِّمونهم وأنتم معتزلون منعزلون عنهم ؟
هذا لا يكون ، فلا بد من مخالطة الناس ، وقد جاء في حديث عند أصحاب السنن و هو صحيح عن ابن عمر أو غيره أن النبـي صلى الله عليه و سلم قال : " المؤمن الذي يخالط الناس و يصبرُ على آذاهم خيرٌ من الذي لايخالط النَّاسَ و لا يصبر على آذاهم " .
إذن لا بد من مخالطة الناس مخالطةً فيها اقتصاد ، فيعطيهم قدراً من وقته ، نحن لا نقول للعالم دعْ أعمالك و علمك و مشاغلك و أمورك ، و تفرَّغ للناس ، لا ، هذا لا يكون و لا يطالب ُبه أحد بل هو مما لا يستطاع ، لكن لا بد أن يخصِّص للناس أوقاتاً يعطيهم فيها مما أعطاه الله تعالى و يَفرُغُ فيها لأمورهم و همومهم و شؤونهم .
و من عجيب و بديع ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله أنه قَسَّم الناس في المخالطة إلى أربعة أصناف ، قال : " فمن النَّاس من مخالطته كالغذاء، و هذا هو العالم الربَّاني الذي تخالطه لا لتضيع عليه وقته ، و لكن لتستفيد من علمه ، الثاني من مخالطته كالدواء ، إنما تتعاطاه عند الحاجة إليه، و هذا هو الإنسان الذي تستفيد منه في أمر معاشك ، و من الناس من مخالطته كالداء، و الداء كما تعلم أنواع ، منها مرضٌ عضالٌ لا يشفى منه الإنسان ، و منها أمراض كوجع الضرس ، بمجرد ماتقلع الضرس يزول المرض و هذا مثل الإنسان الذي مخالطته تؤذيك بسيئ القول ، فإذاغادرته زال الألم ، فالضرس كذلك إذا قلعته زال الألم ، و من الأمراض الحمَّى ، التي لا تكاد تفارق الإنسان ، و من ذلك كما ذكر مخالطة الإنسان الثقيل الذي لا هو بالذي يتكلم فتستفيد و لا بالذي يسكت فيستفيد هو ، فلا يفيد و لا يستفيد ! و من الناس من مخالطته هي الموتُ بعينه، و هو الإنسان الذي يضرُّك في دينك إما بضلالة أوببدعة " .
فعليك أن تختار لنفسك و تعلم أن فضول المخالطة لا خير فيها ، يكثر القيل و القال و الغيبة والمجاملة و التصنع ، و ربما كان طول المخالطة سبباً في المباعدة و المفارقة واكتشاف العيوب ، فيتحول ذلك إلى نوع من العداوة ، و لهذا جاء في حديث روي مرفوعاعند الترمذي و غيره و روي موقوفا على علي رضي الله عنه و هو أشبه، أنه قال : " أحْبِبْ حبيبكَ هوناً ما، عسى أن يكونَ بغيضَكَ يوماً ماً، وأبغِضْ بغيضَكَ هوناً ما، عسى أن يكونَ حبيبك يوماً ماً " . أي اقتصد في الحبِّ و البغض والمخالطة و العزلة .
إذن العالم الربَّاني ليست مهمته التعامل مع الكتب فقط ، فتلك وظيـفة سهلة ، و لكن مهمته قيادة الناس إلى ربهم عز و جل وتوجيههم و مشاركتهم في آلامهم و مشاكلهم أفراحهم و أتراحهم ، و أن يكون قريباً من نفوسهم و قلوبهم.
و لا يجوز أن تخلو الساحة من العلماءالعالِمين العاملين المخلصين ، لأن خلوَّها أتاح الفرصة للأشرار الذين رفعوا يوما من الأيام لواءَ الدفاع عن المرأة أو ما يسمونه " تحرير المرأة " ، فأفسدوا نساءالمسلمين باسم الدفاع عن حقوقهنّ ! فلماذا لا يتولى أمر الدفاع عن المرأة العلماءالعاملون المخلصون ، فيدافعون عن المرأة ضد كل ظلمٍ أو ضيمٍ يقع عليها دفاعاً بالشرع لا بالهوى ، و يكسبون المرأة إلى صف الإسلام و المسلمين؟؟
و هم أيضا الأشرار الذين تبنوا قضايا الأطفال و النشء و أعدوا لهم البرامج و الكتب و غيرذلك ، فربوهم على غير هدي الله و هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلماذا لايتولى أمر الدفاع عن قضايا الطفل ، العلماء العاملون المخلصون أو من يلوذ بهم ويسمع كلمتهم ، حتى يربوا الأطفال على المنهج الصحيح ، منهج الكتاب و السنة؟؟
و الأشرار الذين ادعوا أنهم ينادون بتصحيح أوضاع العمال و الدفاع عنهم و رفعوا راية " يا عمال العالم اتحدوا " ، فضلُّوا و أضلُّوا ، و لا شك أن العمال لن يجدوا من يدافع عنهم أصدق لهجةً و أصح منهجاً من حملة الكتاب و السنة لو تصدَّوا لهذا و اهتموا به ، ودافعوا عن حقوق العمال بالحقِّ لا بالباطل .
الأشرار الذين طالبوا بتحسين الأوضاع المعيشية للناس فتبعهم في ذلك الفقراء كمثل سرابٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، و لماذا لا يكون العلماء الربانيون هم المدافعون المتولون لشؤون الناس من الفقراء و العمـال و المظلومين و غيرهم ؟
و لماذا يذهب الأشرار بمجتمعات المسلمين ويبقى العالِم منعزلاً في بيته أو مكتبته لا يدري ما الناس عليه من خيرٍ أو شرٍّ ، ولا يدري الناس أيضاً هذه العلوم التي يتعاطاها أي شيء تكون؟
بل بلغ الأمر أنه في وقت من الأوقات في مجتمعات المسلمين كانت بعض وسائل الإعلام تتناول العالم بالسخرية به فتظهر هذه السخرية في التلفاز أو في كاريكاتير ينشر في جريدة أو في مقرر مدرسي ، فلا يجد العالم من يغضب له ، لأنه ترك مجال المجتمعات للأشرار !
و آلافُ النَّاس في كل بلادِ الإسلامِ عندهم عاطفةٌ دينيةٌ ، و لو أن أحداً تناولَ الرسول صلى الله عليه و سلم مثلاً لوجدت الغضب ! لماذا ؟ لأنهم يحبون الرسول صلى الله عليه و سلم ،فدلَّ على أن أصلَ هذه العاطفة الدينية موجود ، و لكنها تحتاج إلى بعثٍ و إثارةٍ وتحريك ، و الذي يستطيع ذلك هو العالم الذي يتكلم فيسمع الناس متى أقام الجسور بينه و بينهم ، إذن لا بد من المخالطة على منهاج النبوة .