عن علي كرم الله وجهه ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال لي:
اعطيك خمسة الاف شاة او اعلمك خمس كلمات فيهن صلاح دينك ودنياك؟
فقلت يا رسول الله خمسة الاف شاة كثيرة،ولكن علمني فقال صلى الله عليه وسلم قلاللهم اغفر لي ذنبي ،ووسع خلقي ،وطيب لي كسبي،وقنعني بما رزقتني،ولا تذهب قلبي الى شيء صرفته عني.)
اخرجه ابن النجار في تاريخه.
و عن بحث لمرتضى مطهري
موضوعه هو الدنيا في نظر الدين. فيقول فيه
بالطبع أننا نبحث الموضوع من حيث وجهة النظر الإسلامية، وخاصة من حيث المنطلق المنطقي الذي ينطلق منه القرآن، وهو منطق ينبغي توضيحه، لأن أول موضوع في الموعظة والنصيحة يجري على لسان الدين هو ذاك الذي يتناول الدنيا بالذم وبالابتعاد عنها وتركها وعدم التمسك بها.
ان من يريد ان يصبح واعظا يعظ الناس، فأول موضوع يتبادر الى ذهنه هو أن يحفظ شيئا من الشعر أو النثر في ذم الدنيا والزهد فيها، بحيث ان ما طرق سمع الناس من المواعظ لا يصل الى المقدار الذي سمعه حول هذه الموعظة.
ان هذا الموضوع يرتبط بتربية الناس واخلاقهم ونوع توجهاتهم نحو القضايا الحياتية، ولذلك فهو موضوع على جانب كبير من الأهمية. فاذا أمكن تفسيره تفسيراً معقولاً وجيدا، لكان له تأثير في تهذيب الأخلاق، وعزة النفس، وبعد النظر، والسعادة الفردية، وحسن الروابط الاجتماعية. اما اذا كان تفسيره سيئا، فانه سيكون مدعاة لتخدير الاعصاب، واللا أبالية، ومنشأ كل تعاسة فردية وشقاء اجتماعي.
الخطأ في تفسير الزهد وترك الدنيا
انه من باب المصادفة ان اصبح التفسير الثاني هو الأكثر رواجا، وان الشعر أو النثر الذي ظهر في هذا الباب كان في الأغلب من هذا النوع الذي يخدر الاحساس. ان لهذا سببين اثنين: الاول هو نفوذ بعض الأفكار والفلسفات التي كانت موجودة قبل الاسلام، والمبنية على سوء الظن بالوجود وبالدنيا والايام، وان كل شيء في هذا العالم مبني على الشر. وهي أفكار انتشرت بين المسلمين بعد اختلاطهم بالاقوام الاخرى. والثاني هو الحوادث التاريخية المرة، والعلل الاجتماعية الخاصة التي وقفت خلال الأربعة عشر قرنا في المحيط الاسلامي، فكانت سببا في خلق سوء الظن، وانفصام الوشائج، وشيوع فلسفات مبنية على الشك وسوء الظن.
علينا الآن ان نرى ما هو منطق القرآن بهذا الشأن. هل يمكن استخراج هذه الفلسفة السيئة الظن من القرآن؟ أم ان القرآن يخلو من هذه الأفكار؟
الزهد في القرآن
في الوقت الذي يتحدث فيه القرآن عن الدنيا على انها حياة فانية لا تستحق ان يعتبرها الانسان هدفا نهائيا له، يقول ايضا: (المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدُّنيا والباقياتُ الصّالحاتُ خيرٌ عند ربّكَ ثواباً وخيرٌ أملاً).
وفي الوقت الذي لا يرى القرآن الدنيا جديرة بأن تكون غاية آمال البشر، كذلك لا يرى المخلوقات والموجودات من سماء وارض وجبال ومحيطات وصحارى ونبات وحيوان وانسان، وما هنالك من انظمة وحركة ودوران كلها باطلة وقبيحة وخطأ، بل على العكس من ذلك يرى هذا كله نظاما حقا ويقول: (وما خَلقنا السّمواتِ والأرضَ وما بينَهُما لاعبينَ). ان القرآن الكريم يقسم بالموجودات والمخلوقات من عوالم النبات والحيوان والجماد: (والشمسِ وضحاها والقمرِ إذا تلاها) و (والتِّينِ والزيتونِ وطورِ سنينَ وهذا البلدِ الأمينِ) و (والعاديات ضبحاً فالمورياتِ قدحاً) و (ونفسٍ وما سواها فألهمَها فُجُورها وتقواها). ويقول سبحانه (ما ترى في خلقِ الرّحمن من تفاوتٍ فارجع البصرَ هل ترى من فُطُور).
في الواقع ان سوء الظن بالخلق وبدوران العالم وبنظامه لا يتفق مع الفلسفة الاسلامية، أي النواة المركزية للفلسفة الاسلامية، وهي التوحيد. فتلك النظريات اما ان تكون مبنية على اساس مادي ينكر وجود إله حق حكيم وعادل، واما ان تكون قائمة على الثنائية او الازدواجية في الوجود، كما هي الحال في بعض الفلسفات التي تقول بأن هناك اصلين أو مبدأين للوجود، أحدهما للخير، والآخر للشر.
إلا أن دينا بني على التوحيد، وعلى الاعتقاد باله رحمن رحيم عليم حكيم، لا مكان فيه لامثال هذه الافكار، كما ورد في الكثير من آيات القرآن.
ان ما قيل عن فناء الدنيا وزوالها، تشبيها بالنبات الذي يخرج من الارض على اثر مطر، فينمو ويخضر، ثم يصفر ويجف ويتلاشى تدريجيا. انما قد قيل لرفع قيمة الانسان الذي ينبغي ألا يجعل غايته وهمه ومنتهى آماله أمورا مادية، فما من امر دنيوي جدير بأن يكون هدفا اعلى. وليس في هذا ما يحملنا على القول بأن الدنيا بحد ذاتها شر وقبح.
ولذلك ما سمعنا ان احدا من علماء الاسلام قد حمل تلك المجموعة من الآيات على محمل سوء الظن بالكون ودوران الزمان والايام.
هل التعلق بالدنيا مذموم؟
جاء في بعض التفاسير التي فسرت بها تلك الآيات ان مضمون هذه الآيات ليس ذما للدنيا نفسها، لأن الدنيا ما هي إلا هذه الاشياء العينية التي نراها في الأرض والسماء، وليس في أي من هذه شيء سيىء بل انها جميعاً دلائل على قدرة الله وحكمته، فلا يمكن ان تكون سيئة. ولكن السيىء والمذموم في الموضوع هو التعلق بهذه الأمور في الدنيا، لا الدنيا ذاتها. لقد قيل الكثير من الشعر والنثر في ذم حب الدنيا بحيث يخرج عن العد والاحصاء.
هذا تفسير كثير الشيوع، اذ لو سألت شخصا عن معنى كون الدنيا مذمومة، لقال لك ان معنى ذلك هو ان حب الدنيا هو المذموم، لا الدنيا ذاتها، اذ لو كانت هي المذمومة لما خلقها الله.
لو اننا أمعنا النظر في هذا التفسير _على الرغم من شهرته وأخذه مأخذ الأمور المسلم بها _ لرأينا انه لا يخلو من بعض التحفظ، بل قد يكون على شيء من التباين مع القرآن نفسه.
من ذلك، مثلا علينا ان نعرف ان كانت علاقة الانسان بالدنيا علاقة فطرية وطبيعية، أي هل ان هذه العلاقة كامنة في غريزة البشر وجبلته؟ ام انها مكتسبة فيه فيما بعد بسبب عوامل وظروف خاصة، كالعادة، أو التلقين، أو أي عامل آخر؟ فالوالدان متعلقان بابنائهما، والابناء بوالديهم. والذكر والانثى يتعلق بعض ببعض. وكل الناس يحبون المال والثروة، والجاه والاحترام، وكثيرا من الأمور الأخرى.
فهل هذه العلاقات طبيعية وفطرية، أم انها مكتسبة من أثر سوء التربية؟
لاشك انها علاقات طبيعية فطرية، فكيف يمكن ان تكون مذمومة، وان يكون على الانسان ان يتجنبها ويزيلها عن نفسه؟ فكما اننا لا يمكن ان نقول ان المخلوقات والموجودات، الخارجة عن وجود الانسان شر ولا حكمة فيها، وكما ان أي عضو من اعضاء الانسان وجوارحه لا يكون خلواً من الحكمة، حتى الشعيرة الدموية والعضو الصغير، وحتى الشعرة الواحدة لا يمكن ان نقول انها زائدة وعبث، كذلك الأمر في القوى والغرائز واجهزة الانسان الروحية، في الميول والرغبات. فما من رغبة أو ميل فطري في الانسان إلا ولوجوده حكمة وهدف أو قصد. ان لكل هذه الأمور حكمتها: العلاقة بالاولاد، بالابوين، بالزوج، بالمال، بالثروة، بالجاه والرفعة، بالتقدم على الآخرين. ان لكل من هذه حكمته الكبيرة، إذ لولاها لانهار اساس حياة البشر.
ثم ان القرآن نفسه يذكر هذه الالوان من العلاقة والحب على انها من دلائل حكمة الله تعالى. من ذلك مثلا في سورة (الروم)، حيث يشير الى خلق البشر، والنوم، وامور اخرى، ثم يردفها بقوله: (ومن آياته أن خلقَ لكُم من انفسكُم ازواجاً لِتسكنوا اليها وجعلَ بينكم مودةً ورحمة إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكّرون).
لو كان حب الزوج سيّئا، لما ورد ذكره في هذه الآية على انه من آيات الله ومن تدابيره الحكيمة.
فلا شك اذن في ان هذه العلاقة كامنة في طبيعة الناس. ومن الواضح ان هذه العلاقة مقدمة ووسيلة ليبقى سير الدنيا ونظام دورانها محفوظا. إذ لولا هذه العلاقة لما استدام تواتر الاجيال ولما تقدمت حياة البشر وحضارتهم، ولما نشطت حركة العمل والتكسب، بل لما بقي انسان على وجه الارض.
طرق الحل
هذان تفسيران للنظر الى الدنيا، احدهما نظرة الذين يرون الدنيا بلذاتها عالم شر وفساد وخراب، والآخر نظرة الذين لا يرون الدنيا مذمومة، بل ان حبها هو المذموم.
اما الذين ينظرون الى الدنيا والوجود كله نظرة سوء ظن، ويرون الحياة والوجود شرا كله وفسادا، دون ان يكون عندهم طريق لنجاة البشر من التعاسة غير البوهيمية أو الانتحار، فان حديثهم لأسخف حديث، وان حظهم لأتعس حظ. ان مثلهم، كما يقول (ويليام جيمز) مثل الجرذ في المصيدة، عليه ان يئن ويتوجع.
اما الذين قالوا ان الدنيا ليست مذمومة بذاتها، وانما التعلق بها هو المذموم، فانهم يقولون ايضا: ليس الحال ان نشقى ونتعذب أبداً، وانما الطريق الى سعادة الانسان وخلاصه من التعاسة هو مكافحة هذه العلائق واقتلاعها من جذورها، وعندئذ يتحرر الانسان من مخالب الشر ويحتضن السعادة بين ذراعيه.
في الرد على هذه الجماعة ينبغي ان نقول انه، فضلا عن ان هذه الغرائز والطبائع الفطرية الكامنة في النفس غير قابلة للاقتلاع والقمع _وهذا ما يؤيده علماء النفس والفلاسفة المحدثون _ وان اكثر ما يستطاع هو ترويضها وكبتها ودفعها بعيداً الى أغوار العقل الباطن ولكنها سوف تظهر مرة أخرى بصورة أخطر عن طريق مجرى آخر، مسببة امراضا نفسية وعصبية. اقول، بصرف النظر عن كل هذه، فان لاقتلاع جذور هذه الغرائز من الضرر اضعافاً مضاعفة. انه كما لو قطعت يداً أو رجلاً أو جدعت أنفهاً أو أي عضو من أعضاء الجسم.
ان كل غريزة أو اتجاه فطري قوة في كيان الانسان، غرزت فيه للقيام بعمل أو بحركة. ليس في خلقة الانسان عبث.
فما ذريعتنا للقضاء على مركز هذه القوة وتدميره؟
منطق القرآن
يستفاد من القرآن الكريم أن أي تعلق أو حب بالكائنات أمر مذموم، إلا أنه لا يقول ان طريق علاج ذلك هو كبح ذلك وقمعه. فهذا أمر آخر وله طريق آخر للعلاج.
إن ما يذمه القرآن هو التعلق، أو الارتباط، أو الولع، أو الرضا بالامور المادية الدنيوية، فيقول: (المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدُّنيا والباقياتُ الصّالحاتُ خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً) أي صحيح ان الثروة والاولاد من مباهج الحياة، إلا ان الأعمال الصالحة الباقية أفضل عند الله ثواباً لأنها هي هدف الانسان والمثل الذي يصبو اليه، فالكلام اذن على الغاية، والنموذج المثالي المطلوب.
يصف القرآن الكريم أهل الدنيا هكذا: (الذينَ لا يرجونَ لقاءنا ورضوا بالحياةِ الدُّنيا واطمأنُّوا بها والذينَ هُم عن آياتِنا غافلون). الكلام في هذه الآية يتناول مذمومية الرضا بالماديات والاكتفاء بها والركون اليها. هذا هو الوصف المذموم لاهل الدنيا.
ويقول: (فاعرض عمّن تولى عن ذِكرنا ولم يُرِد إلا الحياة الدُّنيا ذلك مبلغُهم من العِلم)أي لا تلتفت الى الذين لا يلتفتون الى القرآن، ولا يريدون شيئاً غير الدنيا، لان ادراكهم سطحي قشري. ومرة اخرى يكون الحديث هنا عن الذين لا يبغون غير الدنيا ولا هدف لهم سواها، فلا يتجاوز تفكيرهم مستوى الماديات.
أو يقول: (زُيّن للناسِ حُب الشهواتِ من النّساء والبنينَ والقناطيرِ المُقنطرةِ من الذهبِ والفضَة والخيلِ المسومةِ والأنعام والحربِ ذلك متاعُ الحياةِ الدُّنيا).
ههنا الكلام ايضا لا يتناول الرغبات الطبيعية الصرف، بل يتناول جانبا أدق من حيث اضفاء الناس اهمية أكبر وجمالاً أحلى على بعض الشهوات بما لا تستحقه، فانشغل بها الفرد وافتتن حتى حسبها هي المطلوب الأسمى.
أو يقول: (أرضيتُم بالحياةِ الدُّنيا من الآخرةِ فما متاعُ الحياةِ الدُّنيا في الآخرة إلا قليلٌ) كل هذه الآيات تنقد القناعة والرضا والاكتفاء بالعلائق الدنيوية.
هنالك فرق بين أن يحب المرء المال والاولاد وسائر شؤون الدنيا، وان يكتفي بها ويرتضيها ويجعلها غاية آماله وأقصى ما يستهدفه. عندما تكون نقطة الهدف هي الحيلولة دون حصر البشر وتحديدهم بالعلائق والروابط المادية، لا يكون طريق الوصول الى ذلك هو كبح العلائق الطبيعية في الانسان وقمعها واخفات صوتها وطاقتها، بل الطريق الامثل هو تحرير مجموعة ارخى من العلائق ومنحها حرية الحركة، وهي تلك المجموعة التي تأتي بعد العلائق الجسدية المادية، وهي تستوجب التحريك والاحياء.
وعليه فان حقيقة الامر هي ان التعاليم الدينية تعمل على ايجاد مشاعر اسمى في الانسان، وهي مشاعر موجودة في فطرة الانسان وغرائزه. ولما كانت هذه اسمى وارفع مقاما وتستقي من مكانة الانسان الرفيعة، فانها احوج الى الايقاظ والتحريك والاحياء. انها مشاعر تتعلق بالمعنويات.
كل علاقة من العلائق عين تنبع من روح الانسان وتنبجس ويجري ماؤها. ليس هدف الدين ان يمطر العيون المادية، بل هدفه فتح عيون اخرى، عيون المعنويات. أو بعبارة أخرى، ليس الهدف تحديد مجرى العيون المادية وتضييقها الى أدنى من الحد الذي قدره لها الخالق في بدء الخليقة بحسب حكمته وتقديره، وانما الهدف هو اطلاق الحرية لمجموعة من القوى المعنوية التي تتطلب التحرر. واليك مثلا توضيحيا للأمر.
هذا رجل له ولد يبعث به الى المدرسة، فاذا رأى ان ابنه لا هم له سوى اللعب والأكل والنوم، حزن وقلق، ووبخه ووسمه باللعوب الأكول وبصفات مذمومة أخرى، لأنه يود لو أن ابنه اظهر تعلقا أكبر بالدرس والاجتهاد والسعي. لاشك ان هذا التعلق المطلوب أبطأ ظهوراً في الصبي من علاقته باللعب والأكل، ثم انها تستوجب حب الاثارة والتحريك والتشويق. ان غريزة حب التعلم موجودة في كل البشر، انما هي في سبات وينبغي ايقاظها.
ولا يعني هذا ان الأب يريد حقا اقتلاع حب اللعب والأكل من طبيعة ابنه اقتلاعا نهائياً، بل انه ليشتد قلقه على ابنه ان رآه فقد رغبته في اللعب أو في الطعام، ولحسب ذلك عارضا من أعراض المرض فيعرضه على الطبيب لمعالجته، لأنه يعلم ان الطفل السليم الذي يحب الدرس والمدرسة ينبغي الا يصرفه ذلك عن الرغبة في اللعب والطعام. عليه ان يكون نشطا، فيلعب وقت اللعب، ويأكل وقت الاكل. وعليه، عندما يصف الاب ابنه بأنه لعوب وأكول، لا يريد ان يقول انه يشكو من هذا في ابنه، بل من ان ذلك ربما يكون قد تجاوز حدوده.
اصل هذا المنطق في نظرة الاسلام الى الدنيا
ان اهتمام القرآن بموضوع الدنيا ومنع حصر العلائق بالدنيا وبالماديات ناشىء من نظرة القرآن الخاصة الى العالم والى الانسان.
فنظرة القرآن الى نشأة العالم لا تقتصر على جانبها المادي الدنيوي. فمع القول بعظمة الدنيا بأية درجة كانت، يقول بنشأة أخرى أعظم وأوسع وأرحب، لا تكون نشأة الدنيا بازائها شيئا يذكر. ومن حيث نظرته الى الانسان يقول ان الحياة ليست منحصرة بالحياة الدنيا، ففي الآخرة حياة اخرى. فعلى الرغم من ان القرآن يرى أن الانسان ثمرة شجرة هذه الدنيا، فان حياته ووجوده يمتدان الى ما وراء الحياة الدنيا. وعليه فان هذا الانسان الذي يحظى بهذا القدر من العناية والاهمية، ينبغي ألا يجعل الدنيا وما فيها من الأمور المادية هدفه النهائي، وألا يبيع نفسه للدنيا. يقول الامام علي عليه السلام:
(ولَبِئسَ المتجرُ أن ترى الدُّنيا لنفسك ثمناً).
وعلى ذلك، فان فصلا من فصول النظرة الى العالم والفلسفة القرآنية، اعني فصل التوحيد، كما قلنا منذ البداية، لا يسمح لنا ان ننظر الى الدنيا والعالم المحسّ نظرة سيئة. وثمة فصل آخر من فصول الفلسفة القرآنية ونظرتها الى الدنيا يوجب أن يكون هدف الانسان وغايته القصوى أرفع من مستوى الدنيا ومادياتها. ذلكم هو فصل المعاد والانسان.
الأخلاق وحب
وفضلا عن ان هناك فصلا آخر في الاسلام يوجب كذلك الاقلال من الاهتمام بالماديات، وهو فصل التربية والاخلاق، فان سائر المدارس التربوية تقول ايضاً بأن التربية الاجتماعية، ولغرض اعداد البشر لحياة اجتماعية، ينبغي العمل على ان تكون للافراد اهداف معنوية يتوجهون اليها باكثر مما يتوجهون نحو الماديات، اذا ان نار الحرص والطمع اذا اشتد لهيبها فهي فضلا عن كونها لا تستطيع ان تكون سببا في العمران الاجتماعي، فانها على العكس من ذلك تسبب الفساد الاجتماعي وخرابه.
ومن حيث بلوغ السعادة، على الفرد ألا يكون مفرطا، كما هي حال بعض الفلاسفة فيقول ان السعادة والهناء في الزهد في كل شيء وتركه، بالرغم من ان طبيعة الاستغناء وعدم الاهتمام واحدة من الشروط الأولى للسعادة.
هنا نرانا بحاجة الى توضيح آخر. لعل الذي ذكرناه عن الحيلولة دون حصر العلائق البشرية بالماديات يحمل بعض الناس على الظن الواهم بأن علينا ان نحب الله وان نحب الدنيا، ان نجعل المادة هي المطلوب الأكمل وكذلك المعنى، وهذا ضرب من الشرك. كلا، ليس هذا هو المقصود. المقصود هو ان الانسان يملك عددا من الميول والنزعات الطبيعية نحو بعض الاشياء، وهي ما اوجده الله بحكمته في الانسان قاطبة بما فيهم الانبياء والاولياء الذين كانوا يشكرون الله ويحمدونه عليها، وهي ما لا يمكن إزالتها، وحتى لو أمكن ان تزال، فليس ذلك من صلاح البشر.
ان للإنسان تطلعا آخر وراء هذه الميول والعواطف. انه يتطلع الى الكمال والى المثال، غير ان الدنيا والماديات ينبغي ألا تظهر بصورة المثال والكمال المطلوب. فالحب المذموم هو هذا الحب. ان الميول والعواطف ان هي إلا لون من ألوان الاستعداد في البشر، وهي له بمنزلة وسائل للعيش. اما الاستعداد لبلوغ الكمال المطلوب فهو استعداد خاص ينبغ من العمق الانساني وجوهره ويختص بالانسان. لم يأت الرسل لإزالة الميول والعواطف ولردم منابعها، بل جاءوا ليزيلوا عن الدنيا والماديات صورة الكمال المطلوب، وليظهروا الله والآخرة في صورة الكمال المطلوب.
يريد الانبياء ان يحولوا دون الدنيا والماديات والخروج من مكانها الطبيعي، أي منع هذه الميول والعواطف _وهي نوع من رابط طبيعي بين الانسان والاشياء_ من ان تغير مكانها لتنتقل الى ذلك المكان المقدس القلب، مركز وجود الانسان وكيانه، وموضع انجذابه نحو اللا متناهي، بحيث تمنعه من التحليق نحو الكمال اللا متناهي.
ان قول القرآن الكريم: (ما جَعَلَ اللهُ لرجلٍ مِن قلبينِ في جوفِهِ) ليوحي الى ان المرء اما ان يتعلق بالله، أو بغير الله من زوج وبنين ومال وغير ذلك. ان على الناس ان يكون لهم هدف أعلى واحد. ان الهدفين اللذين لا يمكن الجمع بينهما هما الله والماديات الدنيوية، وإلا فان التعلق الصرف بعدد من الأمور في وقت واحد أمر متيسر وواقع.