إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الْإنسنُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً {الأحزاب: 72}
الخلق بما فيه من حيٍّ وميت في سباق وصراع أزلي كوني كبير. الفائز فيه من يرى وينظر الله تعالى مباشرة. لا تكريم وسمو وبهاء أعلى من هذا الشرف العظيم.
يقتضي العدل وتقتضي الحكمة الإلهية، وتقتضي أسمائه تبارك وتعالى أن يكون هذا الأمر عظيماً كبيراً رحيماً صبوراً بديعاً جميلاً حسناً كريماً غنياً. فتتجلى أسمائه الحسنى كلُها عزّ وجلّ في هذا السباق الصامت المهيب، سباق العالمين.
تدرجٌ وصبر لا فجائية، جديةٌ لا هزلية، أسبابٌ ومُسبباتٌ ونواميس وقوانين محددة ثابتة، لا عبثية ولا فوضوية، عدلٌ لا ظلم، وحقٌ لا باطل.
الزاد في هذا السباق هو التحلي بأسمائه تبارك وتعالى الحسني وإظهارها، كلٌ حسب ما قدَّره الله تعالى. الفائز من استطاع قراءة الأسماء الحسنى والاتصاف بها وإظهارها، والخاسر من لم يستطع، فأعمى بصره وأقفل قلبه عنها.
المتسابق الأول الجماد:
اتسم الخلق الجامد من سموات وأراضين بما يستطيع حمله من الأسماء الحسنى. فظهر الإبداع والحسن والجمال والكمال والعظمة والقوة والاتساع والإتقان والمتانة والكرم.
فتجلت وظهرت بعض أسمائُه تعالى الحسنى في الموجودات الجامدة من مجراتٍ عظامٍ شاسعةٍ وأجرامٍ سماويةٍ وأراضين وما عليها من جبال وأنهارٍ وبحارٍ وغازاتٍ وما إلى ذلك من خلائقَ جامدةٍ غاية في الإبداعِ والنظامِ والجمال والإتقان.
فظهرَ صبرهُ تعالى إذ بنيت السمواتُ والأراضينُ في عشرات الملياراتِ من السنوات ... وتجلت عظمتُه تعالى وسِعتُهُ من خلال الأبعادِ اللانهائيةِ لهذه الأكوان، والتي تعجزُ الأعدادُ والأرقام عن وصفها، وإن رصت بجوار بعضها البعض إلى ما لا تتسع له الكتب والمجلدات ... وظهرَت إلوهيتُه ووحدانيته تعالى من خلال خلقه الذي يَسْبَحُ كلُّ شيءٍ فيه حول مركزٍ واحدٍ ... وإبدائه وإنهائه إذ إنَّ كلَّ ما في السموات والأراضين يدور ويبدأُ ثمَّ يعودُ إلى ما كان عليه ...
وتجلى نورُه من الأنوار الهائلةِ اللانهائيةِ في مجراته وشموسهِ ونجومه ... وقوتُهُ وجبروتُهُ في الإنفجاراتِ الكونيةِ الهائلة ... وعلمُهُ ولُطفُهُ وقدرتُهُ وإبداعُهُ وإحكامُهُ من التفاصيل الدقيقةِ المُحكمةِ المتناهيةِ في الصغر من خلقه ... وظهر كرمه تعالى بتكاثر النجوم والمجرات وتوالدها من بعضها البعض، ومن زيادة اتساع الكون ونموه ...
فالكائنات الجامدة تتنافس فيما بينها ويسعى كل منها للسيطرة على ما سواه. فقانون الجاذبية العام وقوانين التنافر والتجاذب الكهرومغناطيسية لا تخرج عن هذا الناموس. فالنجوم العملاقة تجذب النجوم الصغيرة وتبتلعها بما فيها .... والكواكب تجذب الأقمار وتستعبدها ...
والمحيطات والبحار الكبيرة تبتلع البحار الصغيرة والأنهار وتغزو الأرض بالسحب المولدة منها ... والمحاليل السائلة بأنواعها تغزوا ما حولها و تتغلل وتنتشر وتتوزع بنظام عجيب دقيق في الأوساط المحيطة بها ... وما إلى ذلك من مشاهد وشواهد لا نهائية تبينُ تنافس وصراع الكائِنات الجامدة فيما بينها ...
بالرغم من كل هذا الصراع العظيم الدائم بين الكائنات الجامدة، وبالرغم من إظهارها لبعض الأسماء الحسنى، فإنها لم تربح السباق العظيم. لأن بعضَ الأسماءِ الحسنى لا يمكن أن تتجلى وتظهر في الجماد. فالأسماء الحسنى كالرحمةِ والحنان والحبِّ والودِّ والرأفة والتقديرِ تستلزمُ وجودَ إحساسٍ معنويٍ وروحانيٍ في الخلق، مما يستلزمُ خلق "الحياة" التي من خلالها ستظهر هذه الصفات الربانية الرُّوحانية.
فظهر المتسابق الثاني، النبات والحيوان:
ظهرتِ الحياةُ تدريجياً – عبر الملايين من السنين - في الحياة النباتية ثم الحيوانية، فبدأت تظهرُ بعضُ الصفاتِ الروحانية، كحُبِّ الحيوانات لأبنائها، والشعورِ بالأمانِ والجوعِ والخوف، والودِّ وما إلى ذلك من صفاتٍ. كما ظهرت بعضُ الصفاتِ الحيوانية مثل القتلِ والجشعِ والوحشيةِ والأنانيةِ والخداعِ والمكرِ وما إلى ذلك من صفاتٍ حيوانية غريزيةٍ معلومة.
أخذت هذه الكائنات الحية بالعمل على الاصطباغِ بصبغة الله تعالى وإظهار أسمائه تعالى. لذلك فاصطباغ الكائنات الحية بما حولها فطرةٌ أساسيةٌ نجدها في جميع الخلق من حولنا. فالكائِناتُ الحيَّةُ تتأقلمُ وتتَكيَّفُ دوماً بظروف البيئةِ من حولِها.
فالفراشاتُ تصطبغُ وتتلونُ بلون الأغصان والزهور في بيئتها ... والصائداتُ تتماهى بصبغة ما حولها كي تنقضَ على فرائسها ... والفرائسُ تصطبغ بلون بيئتها كي تتخفى من آكليها ... والطيورُ تتبختر مُغردةً طائرةً فرحةً بتناسقِ ألوانها بألوانِ غاباتها ...
والصراع المستميت بين الكائنات الحية واضح جلي. ففي كل فصيلة على حدة نجد التصارع والقتال على السيادة بين أفرادها. كما نجد صراعا دمويا على البقاء وعلى استمرارية النسل. فكل عضو من الفصيلة يسعى بكل ما أوتي من قوة على أن يستمر نسله ويسيطر على غيره.
ومن جهة أخرى، فكل فصيلة تتصارع مع غيرها من الفصائل لتقضي عليها وتبتلعها. كل فصيلة تسعى وتقاتل لتسيطر على ما سواها. فهي تدري أو لا تدري، في سباق أزلي محموم.
بالرغم من كل هذا الصراع العظيم الدائم الدامي بين هذه الكائنات الحية، وبالرغم من إظهارها لبعض الأسماء الحسنى، فإنها لم تربح السباق العظيم! لأن بعضَ الأسماءِ الحسنى لا يمكن أن تتجلى وتظهر من دون عقل وإيمان.
فالأسماء الحسنى المختصة بالإيمان والهُدى والستر والتوبةِ والعفو والمغفرةِ والتقديرِ والحكمةِ والرشدِ والاختيار بين الحق والباطل تستلزمُ وجودَ إحساسٍ معنويٍ وروحانيٍ وعقلي في الخلق، مما يستلزمُ خلق "الإنسان" التي من خلاله ستظهر هذه الصفات الربانية العظيمة.
فظهر المتسابق الثالث، الإنسان:
فخلق الله تعالى الإنسانَ القادرُ على التعلم بنفسه وعلى تطوير قدراته ومداركه وصفاته الإنسانية العقليةِ والروحانية. هذا الإنسانُ الآن على رأس هرمِ الخلقِ يستطيعُ التمييزَ بين الخير والشرِّ، بين الحقِّ والباطل، بين الهمجيةِ الحيوانية الغريزيةِ الشيطانية التي يجدها في نفسه وفي الحيوانات من حوله، وبين الروحانيةِ الرَّبانيةِ التي يجدها أيضاً في نفسه وتتنزلُ إليه من السماء عن طريق الأنبياء.
هذا الإنسانُ قادرٌ على تمييزِ الصفاتِ الإلهيةِ الخيرةِ وحملها وتطبيقها وإظهارها بحدوده الإنسانية وبقدرته وبفطرته التي أودعها الله تعالى فيه.
نبدأ من أول السباق ...
الدورة الأولى:
تتنافس الملايين من الحيوانات المنوية من أجل (جنة) صغيرة هي البويضة (ولعل اسم "الجنين" مشتق من تصغير الجنة) ... يفوز حيوان منوي واحد، ويهلك ما عداه ...
هذه الجنة (البويضة) أكبر بكثير في حجمها من الحيوان المنوي المتسابق. وهي كفيلة بحمله وامداده بما يلزم من غذاء وأمان وسكن وسكون.
لو كلمنا هذا الجنين عن ما ينتظره من متاع الدنيا وألوانها وأشكالها وما إلى ذلك فلن يفقه شيئاً، فليس حوله إلا الظلام الدامس من حوله، وليس لديه من الإدراك ومن اللغة ما يكفي.
خلال أشهر الحمل التسعة، ينمو الجنين ويطور مداركه تدريجيا ليكون مستعدا للمرحلة الثانية من السباق، وهي المرحلة الأصعب.
انتهت بالولادة أول دورة من السباق، ربح من ربح وخسر من خسر.
الدورة الثانية:
ثم يولد الجنين. ويدخل الجنة الثانية (الحياة الدنيا) ويبدأ متأثرا بما حوله من أهل وناس وبيئة ويطور لغته ومداركه وجسده تدريجياً.
وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أمهتكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شيئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبصر وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {النحل:78}
طبعا كل يطور ذلك حسب نفسه هو وحسب الظروف التي وُجد بها. يبحث بحواسه وعقله عن سبب خلقه ويتقرب أو يبتعد من الله تعالى، ويجري في هذا السباق نحو الله تعالى مع البلايين من الناس، تماما كما كان يجري متسابقا من الحيوانات المنوية الأخرى.
السباق المحموم والتنافس الشديد ظاهر بين على مستوى الأفراد والجماعات و الأمم. الفرد يسعى للسيطرة على من حوله والفوز عليهم، ويقاتل من أجل فوزه واستمرار نسله. الجماعات والأمم تتنافس وتتقاتل مع بعضها للفوز والاستمرارية بلا رحمة وبلا هوادة. تماماً كما وجدناه من تنافس الجماد والنبات والحيوان من قبله.
مهما أخبرت هذا الإنسان عما سيكون الحال بعد موته فلن يفقه شيئا تماما كما لم يفقه الجنين شيئا. مهما أخبرته عن (الجنة) الثالثة التي تنتظره فلن يدرك منها إلا ما أدركه الجنين عندما كلمناه عن الجنة الثانية (الحياة الدنيا) وهو في بطن أمه.
أمره الله تعالى بالاصطباغ بصبغته تعالى التي يراها من الخلق من حوله وإظهارها:
صِبْغَةَ اللهِ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً، وَنَحْنُ لَهُ عَبِدُونَ {البقرة: 138}
فالصَبْغُ هو الدَّهْنُ والغَمُسُ. وصَبَغَ اللقمة أي دهَنَها وغَمَسَها. والمَصْبُوغُ هو كلُّ ما غُمِسَ. والصِبغةُ هي الفطرة والمِلَّة والشريعة.
فمعنى الآية {138} من البقرة: اعرفوا صِبغةَ الله واختاروها لكم واتبعوا الطريق الذي هداكم إليه والفطرة السليمة التي فطَرَكم اللهُ تعالى عليها وأرشدكم إليها عن طريق الأنبياء الذين جاء ذكرهم في الآيات السابقة.
فقد وردت {صِبْغَةَ اللهِ} كمفعول به إذ حُذفَ فعلُ الأمر "اصطبغوا" قبل كلمة {صِبْغَةَ اللهِ}، والتقدير هو: اصطبغوا أنتم واعرفوا واتبعوا {صِبْغَةَ اللهِ} وُحققوا الصِّبغةَ والصفات الإلهية في أنفسكم لتصبحوا مظهراً من مظاهر أسماء الله تعالى الحسنى ...
فاللهُ تبارك وتعالى خلقَ الإنسانَ ليتصِفَ بصفاته وأن يكون مَظْهَراً لها. وقد أودعَ عزّ وجلّ الفطرةَ الإنسانيةَ استعداداً لهذا السباق العظيم:
فلاحظ ذكر "خلق الله تعالى" في الآية. بمعنى أنَّ الله قد أودع الناس استعداداً وقُدرةً وصلاحية ليكون مَظهراً لأسمائه الحسنى التي يراها في الخلق من حوله. فالإنسانُ لا ينالُ القربَ من الله تعالى إن لم يفعل ذلك ولم يصطبغ بصبغته سبحانه ويستنير بها. فكما الخلق من حوله يصطبغ بما حوله من خلق، فعلى الإنسن فعل ذلك.
كذلك أمره تعالى بالسباق مع غيره من الناس مع ذكر الزاد الذي يضمن الفوز:
فعلى المتسابق أن يبني ويطور، لا أن يهدم ويفسد، فالله تعالى هو الخالق الخلاق ...
عليه أن يتراحمَ ويتحابّ، لا أن يتقاتل ويتباغض، فالله تعالى هو الرحمن الودود ...
عليه أن يصفح ويغفر، لا أن ينتقم ويحقد، فالله تعالى هو التواب الغفور ...
عليه أن يتحد ويتراصّ، لا أن يتباعد ويتفرق، فالله تعالى هو الواحد الأحد ...
عليه أن يعمل ويبدع، لا أن يتكاسل ويتكل، فالله تعالى هو البارئ البديع ...
عليه أن يتعلم ويتفكر، لا أن يتخلف ويجهل، فالله تعالى هو الحكيم العليم ...
فأين نحن يا أمة الإسلام في هذا السباق؟؟؟
ثم يموت الإنسن. يبقي في قبره منتظرا في ظلمات تماما كان في ظلمات رحم أمه.
انتهت الدورة الثانية.
الدورة الثالثة:
يهلك من هلك في النار ويفوز من يفوز بالجنة الثالثة الكبرى كما كان الحال في سباقه في رحم أمه. وكما كانت الجنة الأولى (البويضة) كبيرة للحيوان المنوي المتسابق، وكانت الجنة الثانية (الحياة الدنيا) كبيرة للناس، فالجنة الثالثة أكبر درجات وأكبر تفضيلا.
لكن ذلك ليس آخر المطاف كما يعتقد الكثير. فالناس تدخل الجنة الكبرى بعد "الشفاعة" ولا يدخل الجنة من لم يشفع له سيد الخلق محمد، صلى الله تعالى عليه وسلم، الفائز الأول في هذا السباق الكوني الكبير.
في الجنة الناس على درجات أعلى وأعظم تفاوتا مما هو الحال في الدنيا.
وكما تتنافس الناس في الرحم وفي الدنيا لترتقي، فالناس في الجنة تتنافس لترتقي (من دون حسد وحقد وبغضاء). فالأقل درجة يتنور بنور الصالحين من حوله، والصالحين يتنورون بالمقربين، والمقربين يتنورون بنور الأنبياء، والأنبياء يتنورون بنور سيدهم محمد صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم.
طبعاً سيجعل تعالى في محيط الجنة من الجمال والحسن والبهاء والأنوار ما يرتقي بالناس وعلومهم ومداركهم وأنوارهم ولغاتهم، تماما كما كان الحال في الدنيا وما قبله في بطن الأم. فكل شيء يتطور تدريجيا.
بعد زمن في علم الغيب عنده جلّ جلاله (قد يطول لبلايين السنوات) من تجهيز الإنسان والارتقاء بمواصفاته لما يُمكنه من النظر مباشرة إلى وجه الله الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام، بعد ذلك الزمن، يكون أول الواصلين هو سيد الخلق محمد، صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم.
ينظر سيد الخلق محمد إلى وجه الله تعالى الكريم بعد أن يكون قد ارتقى ووصل إلى ما يتطلبه هذا الأمر العظيم.
ثم عندما يرى الناس سيدهم الذي تنور بنوره تعالى مباشرة يتنورون به تباعاً، الأنبياء ثم الأولياء، ثم الصالحون، وهكذا يُنوِّر كلٌ من تحته في الجنة تباعاً.
كان لابد من هذا الارتقاء والتجهيز لكل هذا الخلق في كل هذا الزمن، فهذا ربُّ العالمين، تبارك وتعالى:
فلو أدركنا أن شمسنا المخلوقة تغير من لون بشرتنا عند تعرضنا لها لساعة واحدة، فكم ستتغير الوجوه عند النظر مباشرة إلى ذي الجلال والإكرام؟
وبهذا التسلسل يفهم قوله تعالى من سورة التحريم:
فالذنوب في سورة التحريم ليست ذنوبا في الجنة، ولكنها ذنوب الدنيا التي بسببها كان أصحابها أقل درجة في الجنة. فيقول أصحاب الذنوب ربنا قد تجاوزت عن ذنوبنا الدنيوية وجنبتنا النار، فتجاوز عنها الآن ونحن في الجنة لكي يزداد نورنا ونصل إليك ....
[color="rgb(255, 0, 255)"]اللهم فبرحمتك اجعلنا من الواصلين .... آمين ... آمين ... آمين ...
يقتضي العدل وتقتضي الحكمة الإلهية، وتقتضي أسمائه تبارك وتعالى أن يكون هذا الأمر عظيماً كبيراً رحيماً صبوراً بديعاً جميلاً حسناً كريماً غنياً. فتتجلى أسمائه الحسنى كلُها عزّ وجلّ في هذا السباق الصامت المهيب، سباق العالمين.
تدرجٌ وصبر لا فجائية، جديةٌ لا هزلية، أسبابٌ ومُسبباتٌ ونواميس وقوانين محددة ثابتة، لا عبثية ولا فوضوية، عدلٌ لا ظلم، وحقٌ لا باطل.
الزاد في هذا السباق هو التحلي بأسمائه تبارك وتعالى الحسني وإظهارها، كلٌ حسب ما قدَّره الله تعالى. الفائز من استطاع قراءة الأسماء الحسنى والاتصاف بها وإظهارها، والخاسر من لم يستطع، فأعمى بصره وأقفل قلبه عنها.
المتسابق الأول الجماد:
اتسم الخلق الجامد من سموات وأراضين بما يستطيع حمله من الأسماء الحسنى. فظهر الإبداع والحسن والجمال والكمال والعظمة والقوة والاتساع والإتقان والمتانة والكرم.
فتجلت وظهرت بعض أسمائُه تعالى الحسنى في الموجودات الجامدة من مجراتٍ عظامٍ شاسعةٍ وأجرامٍ سماويةٍ وأراضين وما عليها من جبال وأنهارٍ وبحارٍ وغازاتٍ وما إلى ذلك من خلائقَ جامدةٍ غاية في الإبداعِ والنظامِ والجمال والإتقان.
فظهرَ صبرهُ تعالى إذ بنيت السمواتُ والأراضينُ في عشرات الملياراتِ من السنوات ... وتجلت عظمتُه تعالى وسِعتُهُ من خلال الأبعادِ اللانهائيةِ لهذه الأكوان، والتي تعجزُ الأعدادُ والأرقام عن وصفها، وإن رصت بجوار بعضها البعض إلى ما لا تتسع له الكتب والمجلدات ... وظهرَت إلوهيتُه ووحدانيته تعالى من خلال خلقه الذي يَسْبَحُ كلُّ شيءٍ فيه حول مركزٍ واحدٍ ... وإبدائه وإنهائه إذ إنَّ كلَّ ما في السموات والأراضين يدور ويبدأُ ثمَّ يعودُ إلى ما كان عليه ...
وتجلى نورُه من الأنوار الهائلةِ اللانهائيةِ في مجراته وشموسهِ ونجومه ... وقوتُهُ وجبروتُهُ في الإنفجاراتِ الكونيةِ الهائلة ... وعلمُهُ ولُطفُهُ وقدرتُهُ وإبداعُهُ وإحكامُهُ من التفاصيل الدقيقةِ المُحكمةِ المتناهيةِ في الصغر من خلقه ... وظهر كرمه تعالى بتكاثر النجوم والمجرات وتوالدها من بعضها البعض، ومن زيادة اتساع الكون ونموه ...
فالكائنات الجامدة تتنافس فيما بينها ويسعى كل منها للسيطرة على ما سواه. فقانون الجاذبية العام وقوانين التنافر والتجاذب الكهرومغناطيسية لا تخرج عن هذا الناموس. فالنجوم العملاقة تجذب النجوم الصغيرة وتبتلعها بما فيها .... والكواكب تجذب الأقمار وتستعبدها ...
والمحيطات والبحار الكبيرة تبتلع البحار الصغيرة والأنهار وتغزو الأرض بالسحب المولدة منها ... والمحاليل السائلة بأنواعها تغزوا ما حولها و تتغلل وتنتشر وتتوزع بنظام عجيب دقيق في الأوساط المحيطة بها ... وما إلى ذلك من مشاهد وشواهد لا نهائية تبينُ تنافس وصراع الكائِنات الجامدة فيما بينها ...
بالرغم من كل هذا الصراع العظيم الدائم بين الكائنات الجامدة، وبالرغم من إظهارها لبعض الأسماء الحسنى، فإنها لم تربح السباق العظيم. لأن بعضَ الأسماءِ الحسنى لا يمكن أن تتجلى وتظهر في الجماد. فالأسماء الحسنى كالرحمةِ والحنان والحبِّ والودِّ والرأفة والتقديرِ تستلزمُ وجودَ إحساسٍ معنويٍ وروحانيٍ في الخلق، مما يستلزمُ خلق "الحياة" التي من خلالها ستظهر هذه الصفات الربانية الرُّوحانية.
فظهر المتسابق الثاني، النبات والحيوان:
ظهرتِ الحياةُ تدريجياً – عبر الملايين من السنين - في الحياة النباتية ثم الحيوانية، فبدأت تظهرُ بعضُ الصفاتِ الروحانية، كحُبِّ الحيوانات لأبنائها، والشعورِ بالأمانِ والجوعِ والخوف، والودِّ وما إلى ذلك من صفاتٍ. كما ظهرت بعضُ الصفاتِ الحيوانية مثل القتلِ والجشعِ والوحشيةِ والأنانيةِ والخداعِ والمكرِ وما إلى ذلك من صفاتٍ حيوانية غريزيةٍ معلومة.
أخذت هذه الكائنات الحية بالعمل على الاصطباغِ بصبغة الله تعالى وإظهار أسمائه تعالى. لذلك فاصطباغ الكائنات الحية بما حولها فطرةٌ أساسيةٌ نجدها في جميع الخلق من حولنا. فالكائِناتُ الحيَّةُ تتأقلمُ وتتَكيَّفُ دوماً بظروف البيئةِ من حولِها.
فالفراشاتُ تصطبغُ وتتلونُ بلون الأغصان والزهور في بيئتها ... والصائداتُ تتماهى بصبغة ما حولها كي تنقضَ على فرائسها ... والفرائسُ تصطبغ بلون بيئتها كي تتخفى من آكليها ... والطيورُ تتبختر مُغردةً طائرةً فرحةً بتناسقِ ألوانها بألوانِ غاباتها ...
والصراع المستميت بين الكائنات الحية واضح جلي. ففي كل فصيلة على حدة نجد التصارع والقتال على السيادة بين أفرادها. كما نجد صراعا دمويا على البقاء وعلى استمرارية النسل. فكل عضو من الفصيلة يسعى بكل ما أوتي من قوة على أن يستمر نسله ويسيطر على غيره.
ومن جهة أخرى، فكل فصيلة تتصارع مع غيرها من الفصائل لتقضي عليها وتبتلعها. كل فصيلة تسعى وتقاتل لتسيطر على ما سواها. فهي تدري أو لا تدري، في سباق أزلي محموم.
بالرغم من كل هذا الصراع العظيم الدائم الدامي بين هذه الكائنات الحية، وبالرغم من إظهارها لبعض الأسماء الحسنى، فإنها لم تربح السباق العظيم! لأن بعضَ الأسماءِ الحسنى لا يمكن أن تتجلى وتظهر من دون عقل وإيمان.
فالأسماء الحسنى المختصة بالإيمان والهُدى والستر والتوبةِ والعفو والمغفرةِ والتقديرِ والحكمةِ والرشدِ والاختيار بين الحق والباطل تستلزمُ وجودَ إحساسٍ معنويٍ وروحانيٍ وعقلي في الخلق، مما يستلزمُ خلق "الإنسان" التي من خلاله ستظهر هذه الصفات الربانية العظيمة.
فظهر المتسابق الثالث، الإنسان:
فخلق الله تعالى الإنسانَ القادرُ على التعلم بنفسه وعلى تطوير قدراته ومداركه وصفاته الإنسانية العقليةِ والروحانية. هذا الإنسانُ الآن على رأس هرمِ الخلقِ يستطيعُ التمييزَ بين الخير والشرِّ، بين الحقِّ والباطل، بين الهمجيةِ الحيوانية الغريزيةِ الشيطانية التي يجدها في نفسه وفي الحيوانات من حوله، وبين الروحانيةِ الرَّبانيةِ التي يجدها أيضاً في نفسه وتتنزلُ إليه من السماء عن طريق الأنبياء.
هذا الإنسانُ قادرٌ على تمييزِ الصفاتِ الإلهيةِ الخيرةِ وحملها وتطبيقها وإظهارها بحدوده الإنسانية وبقدرته وبفطرته التي أودعها الله تعالى فيه.
نبدأ من أول السباق ...
الدورة الأولى:
تتنافس الملايين من الحيوانات المنوية من أجل (جنة) صغيرة هي البويضة (ولعل اسم "الجنين" مشتق من تصغير الجنة) ... يفوز حيوان منوي واحد، ويهلك ما عداه ...
هذه الجنة (البويضة) أكبر بكثير في حجمها من الحيوان المنوي المتسابق. وهي كفيلة بحمله وامداده بما يلزم من غذاء وأمان وسكن وسكون.
لو كلمنا هذا الجنين عن ما ينتظره من متاع الدنيا وألوانها وأشكالها وما إلى ذلك فلن يفقه شيئاً، فليس حوله إلا الظلام الدامس من حوله، وليس لديه من الإدراك ومن اللغة ما يكفي.
يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهتكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ
فِى ظلمت ثلث
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَإنى تُصْرَفُونَ {الزمر:6}
فِى ظلمت ثلث
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَإنى تُصْرَفُونَ {الزمر:6}
خلال أشهر الحمل التسعة، ينمو الجنين ويطور مداركه تدريجيا ليكون مستعدا للمرحلة الثانية من السباق، وهي المرحلة الأصعب.
انتهت بالولادة أول دورة من السباق، ربح من ربح وخسر من خسر.
الدورة الثانية:
ثم يولد الجنين. ويدخل الجنة الثانية (الحياة الدنيا) ويبدأ متأثرا بما حوله من أهل وناس وبيئة ويطور لغته ومداركه وجسده تدريجياً.
وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أمهتكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شيئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبصر وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {النحل:78}
طبعا كل يطور ذلك حسب نفسه هو وحسب الظروف التي وُجد بها. يبحث بحواسه وعقله عن سبب خلقه ويتقرب أو يبتعد من الله تعالى، ويجري في هذا السباق نحو الله تعالى مع البلايين من الناس، تماما كما كان يجري متسابقا من الحيوانات المنوية الأخرى.
السباق المحموم والتنافس الشديد ظاهر بين على مستوى الأفراد والجماعات و الأمم. الفرد يسعى للسيطرة على من حوله والفوز عليهم، ويقاتل من أجل فوزه واستمرار نسله. الجماعات والأمم تتنافس وتتقاتل مع بعضها للفوز والاستمرارية بلا رحمة وبلا هوادة. تماماً كما وجدناه من تنافس الجماد والنبات والحيوان من قبله.
مهما أخبرت هذا الإنسان عما سيكون الحال بعد موته فلن يفقه شيئا تماما كما لم يفقه الجنين شيئا. مهما أخبرته عن (الجنة) الثالثة التي تنتظره فلن يدرك منها إلا ما أدركه الجنين عندما كلمناه عن الجنة الثانية (الحياة الدنيا) وهو في بطن أمه.
أمره الله تعالى بالاصطباغ بصبغته تعالى التي يراها من الخلق من حوله وإظهارها:
صِبْغَةَ اللهِ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً، وَنَحْنُ لَهُ عَبِدُونَ {البقرة: 138}
فالصَبْغُ هو الدَّهْنُ والغَمُسُ. وصَبَغَ اللقمة أي دهَنَها وغَمَسَها. والمَصْبُوغُ هو كلُّ ما غُمِسَ. والصِبغةُ هي الفطرة والمِلَّة والشريعة.
فمعنى الآية {138} من البقرة: اعرفوا صِبغةَ الله واختاروها لكم واتبعوا الطريق الذي هداكم إليه والفطرة السليمة التي فطَرَكم اللهُ تعالى عليها وأرشدكم إليها عن طريق الأنبياء الذين جاء ذكرهم في الآيات السابقة.
فقد وردت {صِبْغَةَ اللهِ} كمفعول به إذ حُذفَ فعلُ الأمر "اصطبغوا" قبل كلمة {صِبْغَةَ اللهِ}، والتقدير هو: اصطبغوا أنتم واعرفوا واتبعوا {صِبْغَةَ اللهِ} وُحققوا الصِّبغةَ والصفات الإلهية في أنفسكم لتصبحوا مظهراً من مظاهر أسماء الله تعالى الحسنى ...
فاللهُ تبارك وتعالى خلقَ الإنسانَ ليتصِفَ بصفاته وأن يكون مَظْهَراً لها. وقد أودعَ عزّ وجلّ الفطرةَ الإنسانيةَ استعداداً لهذا السباق العظيم:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ،لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ،
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {الروم: 30} ...
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {الروم: 30} ...
فلاحظ ذكر "خلق الله تعالى" في الآية. بمعنى أنَّ الله قد أودع الناس استعداداً وقُدرةً وصلاحية ليكون مَظهراً لأسمائه الحسنى التي يراها في الخلق من حوله. فالإنسانُ لا ينالُ القربَ من الله تعالى إن لم يفعل ذلك ولم يصطبغ بصبغته سبحانه ويستنير بها. فكما الخلق من حوله يصطبغ بما حوله من خلق، فعلى الإنسن فعل ذلك.
كذلك أمره تعالى بالسباق مع غيره من الناس مع ذكر الزاد الذي يضمن الفوز:
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {132} وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموت وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {133} الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134} وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فحشة أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {135} أُوْلَـئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجنت تجرى مِن تَحْتِهَا الأنهر خلدينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعملينَ {آل عمرن:136}
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامنوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {الحديد:21}
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامنوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {الحديد:21}
فعلى المتسابق أن يبني ويطور، لا أن يهدم ويفسد، فالله تعالى هو الخالق الخلاق ...
عليه أن يتراحمَ ويتحابّ، لا أن يتقاتل ويتباغض، فالله تعالى هو الرحمن الودود ...
عليه أن يصفح ويغفر، لا أن ينتقم ويحقد، فالله تعالى هو التواب الغفور ...
عليه أن يتحد ويتراصّ، لا أن يتباعد ويتفرق، فالله تعالى هو الواحد الأحد ...
عليه أن يعمل ويبدع، لا أن يتكاسل ويتكل، فالله تعالى هو البارئ البديع ...
عليه أن يتعلم ويتفكر، لا أن يتخلف ويجهل، فالله تعالى هو الحكيم العليم ...
فأين نحن يا أمة الإسلام في هذا السباق؟؟؟
ثم يموت الإنسن. يبقي في قبره منتظرا في ظلمات تماما كان في ظلمات رحم أمه.
انتهت الدورة الثانية.
الدورة الثالثة:
يهلك من هلك في النار ويفوز من يفوز بالجنة الثالثة الكبرى كما كان الحال في سباقه في رحم أمه. وكما كانت الجنة الأولى (البويضة) كبيرة للحيوان المنوي المتسابق، وكانت الجنة الثانية (الحياة الدنيا) كبيرة للناس، فالجنة الثالثة أكبر درجات وأكبر تفضيلا.
لكن ذلك ليس آخر المطاف كما يعتقد الكثير. فالناس تدخل الجنة الكبرى بعد "الشفاعة" ولا يدخل الجنة من لم يشفع له سيد الخلق محمد، صلى الله تعالى عليه وسلم، الفائز الأول في هذا السباق الكوني الكبير.
في الجنة الناس على درجات أعلى وأعظم تفاوتا مما هو الحال في الدنيا.
انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخرة أَكْبَرُ درجت وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً {الإسراء:21}
وكما تتنافس الناس في الرحم وفي الدنيا لترتقي، فالناس في الجنة تتنافس لترتقي (من دون حسد وحقد وبغضاء). فالأقل درجة يتنور بنور الصالحين من حوله، والصالحين يتنورون بالمقربين، والمقربين يتنورون بنور الأنبياء، والأنبياء يتنورون بنور سيدهم محمد صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم.
طبعاً سيجعل تعالى في محيط الجنة من الجمال والحسن والبهاء والأنوار ما يرتقي بالناس وعلومهم ومداركهم وأنوارهم ولغاتهم، تماما كما كان الحال في الدنيا وما قبله في بطن الأم. فكل شيء يتطور تدريجيا.
بعد زمن في علم الغيب عنده جلّ جلاله (قد يطول لبلايين السنوات) من تجهيز الإنسان والارتقاء بمواصفاته لما يُمكنه من النظر مباشرة إلى وجه الله الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام، بعد ذلك الزمن، يكون أول الواصلين هو سيد الخلق محمد، صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم.
ينظر سيد الخلق محمد إلى وجه الله تعالى الكريم بعد أن يكون قد ارتقى ووصل إلى ما يتطلبه هذا الأمر العظيم.
ثم عندما يرى الناس سيدهم الذي تنور بنوره تعالى مباشرة يتنورون به تباعاً، الأنبياء ثم الأولياء، ثم الصالحون، وهكذا يُنوِّر كلٌ من تحته في الجنة تباعاً.
كان لابد من هذا الارتقاء والتجهيز لكل هذا الخلق في كل هذا الزمن، فهذا ربُّ العالمين، تبارك وتعالى:
وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانى
وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانى
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً
وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سبحنكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ {الأعراف:143}
وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانى
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً
وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سبحنكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ {الأعراف:143}
فلو أدركنا أن شمسنا المخلوقة تغير من لون بشرتنا عند تعرضنا لها لساعة واحدة، فكم ستتغير الوجوه عند النظر مباشرة إلى ذي الجلال والإكرام؟
وبهذا التسلسل يفهم قوله تعالى من سورة التحريم:
يأيها الَّذِينَ ءامنوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سيئاتكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جنت تجرى مِن تَحْتِهَا الْأنهر يَوْمَ لَا يخزى اللَّهُ النبى وَالَّذِينَ ءامنوا مَعَهُ نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأيمنهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ على كُلِّ شىء قَدِيرٌ {8}
وَيُدْخِلَكُمْ جنت تجرى مِن تَحْتِهَا الْأنهر يَوْمَ لَا يخزى اللَّهُ النبى وَالَّذِينَ ءامنوا مَعَهُ نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأيمنهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ على كُلِّ شىء قَدِيرٌ {8}
فالذنوب في سورة التحريم ليست ذنوبا في الجنة، ولكنها ذنوب الدنيا التي بسببها كان أصحابها أقل درجة في الجنة. فيقول أصحاب الذنوب ربنا قد تجاوزت عن ذنوبنا الدنيوية وجنبتنا النار، فتجاوز عنها الآن ونحن في الجنة لكي يزداد نورنا ونصل إليك ....
[color="rgb(255, 0, 255)"]اللهم فبرحمتك اجعلنا من الواصلين .... آمين ... آمين ... آمين ...
[/color]