يوم عرفة ... ميلاد جديد

في الماضي البعيد ، حدث أمر عظيم : لما خلق الله آدم عليه السلام ، أخرج الله تعالى من صُلبه كل ذرية خلقها وأشهدهم على أنفسهم فقال لهم : ألست بربكم ؟ .. قالوا : بلى . فكان ذلك عهد وميثاق أخذه الله تعالى على بني آدم جميعاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . شهدنا على أنفسنا أن الله ربنا ومعبودنا ، وهذا هو قول الله تعالى : " ‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا " الاعراف 172
أتدري أخي الحبيب ، أختي الفاضلة متى وأين تم هذا العهد ؟
المكان : وادي النعمان بجانب عرفة ، الزمان : يوم عرفة

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إن الله تعالى أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه كالذر ثم كلمهم قُبُلا ، قال تعالى : " أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ " صحيح : أحمد في المسند (1/ 172) والحاكم في المستدرك (2/544) وغيرهما وصححه الالباني في السلسلة رقم (1623) .

إذ وأنت في يوم عرفة تتذكر هذا العهد مع الله تعالى ، ثم تنظر إلى حالك وتسأل نفسك :
أين أنا من عهدي مع الله ؟؟ لماذاغيرت ؟؟ لماذا بدلت ؟؟ لماذاخُنت ؟؟
فلا تجد نفسك إلا أن يتأثر قلبك ، وتنهمر دموعك ، وتسارع لتجدد العهد مع الله وتعلن التوبة النصوح لله ، وتبدأ صفحة جديدة مع الله .

قل لربك : يارب اغفر لي ما مضى ، اعف عن الذلل
يارب اعف عن كل شيء حتى لا تسألني عن شيء
قل لربك : يارب اليوم أبدأ بداية جديدة معك ، اليوم ميلاد جديد ، فإن لا سعادة إلا في رحابك ، إلا في طاعتك .
وبحثت عن سر السعادة جاهداً فوجدت هذا السر في تقواك
أخي في الله ، أختي في الله ، يوم عرفة يوم الغنيمة العظمى ....
فلا تضيع اليوم الأنفاس ، فاليوم هو يوم عيد بإكمال الدين كما قال عمر بن الخطاب .صحيح البخاري (45) ، ومسلم (7/30)
وقد أقسم الله به في كتابه " وشاهد ومشهود " فالمشهود هو يوم عرفة كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم . حسن : صحيح الجامع (200 8)


والآن – أحبتي في الله – تعالوا بنا إلى ورقة العمل لهذا اليوم العظيم .

خطة العمل ليوم عرفة :
أولاً :الاستعداد قبل يوم عرفة بعدم الإجهاد في العمل في اليوم السابق ثم النوم مبكراً وأخذ قسطٍ كافٍ من الراحة . وللأخت الفاضلة خاصة أقول : احرصي يا أختي على الفراغ من الترتيبات المنزلية للعيد قبل يوم عرفة .. بل وحتى إعداد الطعام الخاص بيوم عرفة حتى تكوني متفرغة تماماً من الشواغل .
ثانياً : أغلى وقت يُمضى في المسجد في ذكر الله هو بعد صلاة الفجر يوم عرفة , لعدة أشياء :
1- لأنه يوم من أحب الأيام إلى الله تعالى .. فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما من أيام العلم الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام – يعني الأيام العشر - قالوا : يا رسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله ؟ ... قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشئ " . صحيح البخاري (969)
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله بأن أفضل أيام السنة على الإطلاق هي هذه الأيام العشرة ، وأفضل ليالي السنة على الإطلاق هي العشرة الاخيرة من رمضان .
2- ولأن فريقاً من العلماء قالوا بأن أفضل الأيام يوم عرفة وآخرون قالوا : يوم النحر . قلت وإن كان الأفضل هو يوم النحر فإن الذي يليه في الفضل هو يوم عرفة ، والسُنة بعد صلاة الفجر يوم النحر أن يتوجه الناس إلى مصلى العيد ، لذا فأفضل وقت يمكن الجلوس فيه في المسجد ، بعد صلاة الفجر ، هو يوم عرفة.
3- ولأن هذه الجلسة أجرها أجر حجة وعمرة .
4- عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله ع ليه وسلم قال :" من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ثم صلى ركعتين ، كانت له كأجر حجة وعمرة، تامةٍ ، تامةٍ ، تامةٍ "

ثالثاً : صيام هذا اليوم العظيم : عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" صيام يوم عرفة ، احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده "

رابعاً : المحافظة على صلاة الجماعة مع إدراك تكبيرة الإحرام في الصف الأول ، أما الأخت المسلمة فينبغي عليها أن تترك كل شئ وتتفرغ للصلاة بمجرد الأذان.

خامساً : صلوات النوافل :
صلاة الضحى ثمان ركعات ، السنة الرواتب اثنتي عشرة ركعة ليُبنى لك بيت في الجنة ، بل وغير الرواتب وهي ركعتان إضافيتان بعد الظهر وأربع قبل العصر ، بل والباب مفتوح للتنفل المطلق عدا أوقات الكراهة الثلاثة وهي (أي-أوقات الكراهة ) : بعد الصبح حتى تشرق الشمس، قبل الزوال , بعد العصر حتى تغرب الشمس.

سادساً : ذكر الله تعالى :
1- أذكار الصباح والمساء بقلب حاضر وخشوع عالي .
2- التكبير وصيغته : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ،لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .

قال ابن حجر في الفتح عن التكبير في عيد الأضحى : وأصح ما ورد فيه عن الصحابة ، قول علي وابن مسعود : "إن من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى . ثم بين أن يكون عقب الصلوات الفرائض والنوافل وفي غير أوقات الصلوات أيضاً .
وهذه الرواية هي أصح ما ورد في تكبير العيد كما قال ابن حجر في الفتح وعزاها لابن أبي شيبة .
3- تلاوة القرآن حسبما يتيسر لك .

سابعاً : لا تنسى التصدق في هذا اليوم العظيم :
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب والله لايقبل إلا الطيب يأخذها الله بيمينه فيربيها له كما يربي أحدكم فلوَّه حتى تصير مثل الجبل " . صحيح البخاري (3/278) و مسلم (2/702)
تمرة في أي وقت تصير كالجبل من التمر ، فما بالك إن كان ذلك في خير يوم !!
وإليك هذه النماذج الراقية : - كان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة ، ومعه مئة بدنة مُقلدة (أي معدة للخروج في سبيل الله ) ومئة رقبة ، فيعتق هؤلاء العبيد فيضج الناس بالبكاء والدعاء ويقولون : " ربنا هذا عبدك ، قد أعتق عبيده ، ونحن عبيدك فاعتقنا " .
- حبيب العجمي اشترى نفسه بأربعين ألف درهم تصدق بها .
فانفق أخي الحبيب ، أختي الفاضلة ما يتيسر وإن قليلاً ، فإنه عند الله كثير .

ثامناً :صلة الأرحام وبر الوالدين : لأن بر الوالدين فريضة ، وما عُبِدَ الله بمثل الفرائض .

تاسعاً : زيارة المقابر واتباع جنازة ما أمكن ثم عيادة مريض وإطعام مسكين ، هذا مع صيامك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ".

عاشراً :سلامة الصدر لجميع المسلمين من الشحناء ، وإرادة الخير لهم ، نصيحتهم . قال بعض السلف : أفضل الأعمال سلامة الصدر وسخاوة النفس والنصيحة للامة ، بهذه الخصال بلغ من بلغ لا بكثرة الصوم والصلاة .

حادي عشر : تجديد التوبة والأوبة إلى الله تعالى والإكثار من الإستغفار :
أحسن الظن بربك . قال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الزمر آية (52)
اذكر الساعات الضائعة من عمرك ، واندم على التفريط في زمن الصبا .. ارفع يديك إلى صدرك بذل وإفتقار وسل ربك أن يتوب عليك و ملأ قلبك الرجاء وحسن الظن في الله تبارك وتعالى .
اكثر من التضرع والإستغفار ، لا تضيع اليوم الأنفاس .
أخي في الله ، أختي في الله ، رقاب الصالحين من النار تُعتق ، فما حال رقبتك ؟؟ .... صحائف الأبرار من الأوزار تبيض، فما حال صحيفتك ؟؟
اهتف مع الداعين ، ناد مع المستغيثين ، ارفع اكف الضراعة وابك لربك وقل :
إنك في يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عن الزلات والهفوات.
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما من يوم اكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة ، وإن ليدنو ، ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء " . صحيح مسلم ( 1348) .
ليحسُن في الله ظنك ،
انظر إلى الفضيل بن عياض حينما رأى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة ، قال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً ( أي سدس درهم ) أكان يردهم ؟ قالوا : لا . قال والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
وانظر إلى سفيان الثوري وهو جاث على ركبتيه والدموع تنهمر من عينيه ، إذ جاءه ابن المبارك فقال له : من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ فقال : الذي يظن أن الله لا يغفر له .
ثاني عشر : إحياء هذا اليوم بالدعاء :
قم بتحضير الأدعية ليوم عرفة فإن أفضل وقت لإجابة الدعاء على الإطلاق و هذا اليوم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خير الدعاء ، دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي ، لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ".
والثناء خير عند الله من الدعاء ، لذا كانت سورة الفاتحة نصفين نصف ثناء ونصف دعاء ، ونصف الثناء هو المقدم لأفضليته . فاحرص على أن يكون هذا الدعاء هو أساس دعائك ، تخرج منه إلى أدعيتك الخاصة ثم ترجع غليه ، طوال اليوم ، وسيعطيك الله فوق ما تريد .
حبيبي في الله ، كن منظماً في دعائك :أدعية لنفسك في الآخرة وفي الدنيا ثم أدعية للوالدين ثم العلماء ثم الزوج والأولاد ثم الأخوة والأخوات ثم المسلمين المستضعفين في كل مكان ، ثم عموم المسلمين وخص بالذكر إخوانك وأحبابك بأسمائهم وأريدك أن تتصور ما الذي يحتاج إليه كل واحد وما الذي يصلحه وادع الله تعالى به ليقول لك الملك :آمين ، ولك بمثل .


ثالث عشر : تذكر في يوم عرفة يوم الحشر ، حينما ترى الحجاج في إحرامهم يذهبون إلى عرفة ويقفون بعرفة فتذكر الحشر وانتظار العرض على الله تعالى لتعقد قلبك على العمل لهذا اليوم .
قال تعالى : "وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" (البقرة:281)

أخيراً : ودنت ساعة الغروب : ها هو اليوم قد أوشك على الإنتهاء انظر إلى نفسك ، تتسارع ضربات قلبك ، وتتسامى روحك إلى أطهر حالاتها ، وتدعو الله بدعاء مودع لم تَدعُ بمثله في حياتك ، فما هي إلا دقائقُ معدودةٌ ، وأنفاسٌ محدودةُ وتنقض أجمل اللحظات ، وينتهي يوم عرفة وأنت لا تدري ، هل ستدرك يوم عرفة آخر أم هو آخر يوم عرفة في حياتك .
ياتُرى لازال من أنفاسك ليوم عرفة آخر ، أم هذا آخر امتزاج لأنفاسك بهذا اليوم العظيم .

أخي الحبيب ، أختي الفاضلة ،تأمل معي حال الصالحين في هذه اللحظات . قال أحدهم : اللهم لا تمنعني خير ما عندك بسوء ما عندي . ووقف أحدهم عند الغروب قائلاً : الأمان الأمان ، قد دنا الإنصراف ، فياليت شعري ، ما صنعت في حاجة المسكين .
وقف الفضيل بن عياض بعرفة والناس يدعون ، وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة ، وقد حال البكاء بينه وبين الدعاء ، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء ، وقال : وا سوءتاه منك وإن عفوت .
وقف بعض الصالحين بعرفة لا يدعو ، فقالوا له : لم لا تدعو ؟ فقال ثَمَّ ... فقالوا : هذا يوم العفو عن الذنوب . فبسط يديه وقال : رب اغفرلي ، ووقع ميتاً .
إنهم أناس تحلوا بالصدق مع الله تعالى ، فانتفعوا بصدقهم . قال الله تعالى : " هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (المائدة: 11).

أحبتي في الله ... هذا هو يوم عرفة قد انقضى، سكبت العبرات ، لهثت الألسنة بالدعوات ، يوم " كان للقلب فيه أنات غُسِلَ القلبُ بدموع التوبة ، وكأنه هذا اليوم ميلاد جديد .

اسأل الله جل وعلا أن يتجاوز عنا بكرمه ، وأن يجعلنا من المقبولين وأن يتابع لنا بين الحج والعمرة ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل



كتبها : د/ غريب رمضان