بسم الله الرحمن الرحيم
يضربُ الله تبارك وتعالى لنا الأمثال تِلو الأمثال لِيعلِمنا في أمور الدِّين والدُّنيا. بل إنَّه تعالى جعل في القرآن من كلِّ مثلٍ:
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـذَا القُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً {الإسراء: 89}
إنَّ ضربَ الأمثالِ بحدِّ ذاته يستوجبُ استعمالَ الاستعارةِ والمجازِ لتوضيح الرسالةِ المطلوبةِ وإلا لما كان مثلاً. لِذَا فإنَّ فهمَ المثلِ يتطلبُ تفعيلَ العقلِ والتأملَ لاستنباط الدروس والعِبر. وبقدر ما كان ضاربُ المثلِ حكيماً عليماً بقدرِ ما كان المثلُ حاوياً للحكمةِ والعلوم والمعارف والدروس. لِذَا فقد وَضَّحَ تعالى أنَّ فِهمَ الأمثلةِ التي يَضربُها يتطلبُ تفعيلَ العقلِ ودراسة الأمور الكونيةِ والطبيعيةِ.
فإنْ كان ضاربُ المثلِ هو اللطيفُ الخبيرُ فهو يُخْبِرُ بطريقةٍ خَفيَّةٍ لطيفة غيرِ مباشرةٍ، وبأمثلةٍ تستدعي التفكرَ والتأملَ والعلمَ والإدراكَ. فإخبارهُ لنا تعالى يكونُ بِخِفْيَّةٍ ولُطْفٍ وقد يستغرقُ الدهورَ من تفَكُّر الأُمَمِ وتطورِها وتعلُمِها في جميع مجالات الحياة كي تُدركَ بَعضاً من هذه الأخْبارِ ...
فلكي نفهمَ فكرَ المنافقين مثلاً علينا أنَّ ندرس ونبحثَ في حياة العنكبوت وبيتها وبيئتها:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً،
وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {41}
إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىءٍ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {42}
وَتِلْكَ الأَمْثَلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَلِمُونَ {العنكبوت: 43}
ولكي نفهمَ ونُدركَ شيئاً يسيراً من نوره تبارك وتعالى علينا أنَّ ندرس النور والمصباح وعلينا أنْ نبحث في زيت الشجرة المباركة:
اللهُ نُورُ السَّمَوَتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، الْمِصْبَاحُ فى زُجَاجَةٍ،الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَرَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ،نُّورٌ عَلى نُورٍ، يَهْدِى اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ، وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَلَ لِلنَّاسِ،وَاللهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ {النور: 35}
ولكي نُدركَ قدرة الله تعالى وإعجازه فعلينا أنْ ندرسَ ونبحثَ في البعوضة وما فوقها:
إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحى أنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَـذَا مَثَلا. يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهدِى بِهِ كَثِيراً، وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَسِقِينَ {البقرة: 26}
ولكي يُبيِّنَ تعالى ضعفَ الإنسانِ وعجزه يضربُ له مثل الذباب:
يأيها النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شيـءـاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ {الحج:73}.
ويُحذرنا اللهُ تعالى من ضرب الأمثلة له سبحانه لأنَّ أمثلتنا محدودة بحدود علمنا:
فَلا تَضْرِبُواْ لله الأمْثَالَ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ {النحل 74}
فمثلُ الإنسان لا يتجاوزُ – على أحسن الأحوال – حكمةَ الإنسانِ وقدرتَهُ المبنيَّةَ على قليلٍ من العلم بما هو ظاهر. أمَّا مثل الخلاقِ الحكيم الخبير، فسيكونُ بِحَاراً لا شواطئ لها يستفيد منه جميع الخلق، كلٌّ بقدر استطاعته وبقدر تفعيل عقله واجتهاده وإيمانه.
ولأنَّ اللهَ تعالى هو الخالقُ والمُقدرُ في آنٍ واحدٍ، فلا بد من كونِ مادةِ المَثَلِ في القرآن الحكيم (العنكبوت، الذباب، النحل ...) لم تُخلقْ أصلاً إلا لتكونَ مثلاً يُجْعلُ للإنسان - الذي هو غاية الخلق - مُستقبلاً. وبهذا فالأمثلةُ التي يَضرِبُها تعالى للإنسان تُوافقُ وتُناسبُ الحاجةَ موافقةً ومُناسبةً جوهريةً أصليَّةً كُلِيَّةً وليست موافقةً ظاهريةً جُزئيَّةً:
وَخَلَقَ كُلَّ شَىءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً {الفرقان: 2}
أي جعل له مقداراً محدداً وزماناً محدداً ومكاناً محدداً، ولكن الأهم من ذلك كله، هو أنه جعله ليكون مثلاً وعبرة للإنسان، لكي يتفكر ويعرفَ ربَّه حق المعرفة بالواقع الملموس، وليس عن طريق قراءة الكتب وحسب.
بمعنى أنَّ الله بِعِلمِهِ الغيبَ يَعْلَمُ – على سبيل المثال – صفاتَ المنافقين من قبل خَلقِهم ومن قبل خلق الأرض وما عليها، ولأنَّه سوف يشرحُ بالأمثلة للمؤمنين في القرآن مُستقبلاً فِكْرَ المنافقين فقد قدَّرَ أنْ يخلقَ كائناً سماه "العنكبوت" بحيث تكون صفاته مناسبةً لأنْ يكونَ مثلاً إلهياً للمنافقين.
أي أنَّ العنكبوت ما خُلقَ أصلاً بهذه الصفاتِ إلا ليكونَ مثلاً وأنموذجاً للمنافقين الذين سيعيشون في الأرض بعد عشرات الملايين من السنين من خلق العنكبوت ....
والشيءُ نفسه يقالُ عن النحل إذ خُلِقتِ لتكونَ عِبرَةً ومثلاً في القرآن تُضربُ مُستقبلاً للإنسان في موضوع السنة الكونية المتمثلة بإخراج الشيء من ضده كما بيناه بالتفصيل عند دراسة سورة النحل.
والشيءُ نفسه يقالُ عن الذبابِ والبعوض وما إلى ذلك من خلقٍ إذْ ما خُلِقتِ الأشياءُ إلا لتكونَ عِبرَةً ومثلاً في القرآن تُضربُ مُستقبلاً للإنسان الذي يُمثلُ رأسَ الهرمِ الذي خُلقتِ من أجله السموات والأرض. طبعاً هذا لا يعني أنَّه ليس للعنكبوتِ وللذباب وللبعوض وبقية الخلق شؤونهم وقوانينهم التي تحكمهم وعالمهم الخاص بهم.
وهذا المفهوم في الحقيقة تفسيرٌ آخرٌ لمعنى أنَّ السمواتِ والأرضَ مُسخرةٌ للإنسان، إذْ أنَّ كونَ الشيء يُتخذُ مَثَلاً يعني لا محالةَ تسخيره لغيره كمثال يُضرب.
والطيورُ التي تهاجرُ لآلاف الأميال فوق البحار وتعودُ أخيراً إلى أعشاشها، والأسماكُ التي تسبحُ في قاع البحار لآلافَ الأميال وتعودُ يوماً إلى الأنهار التي توَّلدت منها، والوحوشُ في الغابات التي تجوبُ الأرض تبحث عن مواطنها، كلُّ ذلك جُعِلَ ليكون مثالاً حياً ناطقاً بيناً للإنسان، الذي سيعودُ يوماً إلى ربِّه ...
والأشجارُ تنموا من الأرضِ صغيرةً طريَّةً ضعيفةً، تقتلعُها المياهُ والرياحُ إلى أنْ تقوى شوكَتُها، وتُثبِّتُ جُذورَها، وتُخرِجُ أزهارَها، وتُربِّي ثِمارَها وتُغذيها بكل إخلاصٍ وكرمٍ من الأرض، فتزهوا بزهورها عاليةً في السماءِ، وتُثقَلُ بثمارها وخيراتها، فتتقربُ إليها الحشراتُ والفراشاتُ والطيورُ والحيوانات وتتوددُ إليها، ترشقُ من رحيقها، وتأكلُ من ثمارها، وتنعمُ بجوارها، وتستظلُ بظلالها، وتعودُ يوماً هرمةً جافَّةً نخرةً مِهجورةً إلى الأرضِ، كما بدأت.
فجُعِلَت كذلك لتكون مثلاً للإنسان الذي سيبدأ ضعيفاً محتاجاً، ثم يكبرُ ويتكبر ويزهو بنفسه على الناس وعلى ربه، وأخيراً يعودُ يوماً إلى ربِّه هرما مهلهلاً ضعيفاً مريضاً منخور العظام مكسور الظهر ...
والأشجارُ تنموا من الأرضِ صغيرةً طريَّةً ضعيفةً، تقتلعُها المياهُ والرياحُ إلى أنْ تقوى شوكَتُها، وتُثبِّتُ جُذورَها، وتُخرِجُ أزهارَها، وتُربِّي ثِمارَها وتُغذيها بكل إخلاصٍ وكرمٍ من الأرض، فتزهوا بزهورها عاليةً في السماءِ، وتُثقَلُ بثمارها وخيراتها، فتتقربُ إليها الحشراتُ والفراشاتُ والطيورُ والحيوانات وتتوددُ إليها، ترشقُ من رحيقها، وتأكلُ من ثمارها، وتنعمُ بجوارها، وتستظلُ بظلالها، وتعودُ يوماً هرمةً جافَّةً نخرةً مِهجورةً إلى الأرضِ، كما بدأت.
فجُعِلَت كذلك لتكون مثلاً للإنسان الذي سيبدأ ضعيفاً محتاجاً، ثم يكبرُ ويتكبر ويزهو بنفسه على الناس وعلى ربه، وأخيراً يعودُ يوماً إلى ربِّه هرما مهلهلاً ضعيفاً مريضاً منخور العظام مكسور الظهر ...
ولكنْ لماذا يضربُ لنا اللهُ تعالى الأمثال؟
السببُ أنَّ هناك عَالَمَين اثنين. فيستشهدُ اللهُ تعالى بما في العَالَم الأول (الشهادة) لإثبات صحّةِ ما في العَالم الثاني (الغيب). بمعنى أننا، سبحانه وتعالى، نقدمُ كشهادةٍ ما يحدث أمامَكم من أحداث في العالم المادي الذي تشاهدونه لما سيحدث لا محالة في المقابل في العالم الغيبي الذي لا تشاهدونه ...
وهذان العالمان جاء ذِكرُهما في الكثير من الآيات القرآنية:
عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ {الرعد: 9}
ولأنَّ عالمَ الغيبِ - خاصة فيما يخص شؤون البارئ جلّ جلاله - عظيمٌ وأكبرُ من قدرات إدراك الإنسان فقد اختار الله تعالى التعبير عنه على طريق الاستعارة والتمثيل وضرب الأمثلة من عالم الشهادة لأنَّه لا يمكن للإنسان بقدراته المادية أنْ يدرك شيئاً منها، لأنَّ ذلك لم يكن يأتي في اللغة إلا بهذه الوسيلة....
ومن الأمثلةِ الواضحة في استعمال الاستعارة ما ورد في الحديث: سبعةٌ يُظِلُهُمُ اللهُ تعالى بظلِهِ يومَ لا ظلَّ إلا ظلِّه. ولا يعتقد مسلمٌ من الحديث أنَّه تبارك وتعالى ماديٌ وله ظلٌ! فالمقصودُ هو سبعةٌ يحفظهم ويُظللهم برحمته وكرمه وفضله وإحسانه وستره.
والله تبارك وتعالى ذَكَرَ أنَّه خلقَ من كلِّ شيءٍ زوجين كما جاء في العديد من الآيات لنفس الغرض. ففي سورة الذاريات يقول تعالى:
وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {الذاريات: 49}
وزوجُ عالَم الغيبِ وعَالَم الشهادةِ لا يخرجان عن ناموس الخَلْقِ هذا ...
فالعَالَمُ الأولُ هو عَالمُ الشهادةِ وهو نظامُ الكونِ المادي الذي يستطيعُ الإنسانُ مشاهدته وإدراكه بحواسه. وقد تكونُ تسمية هذا العالَم مُشتقةٌ من الفعل "شهد" بمعنى "أثبت" وليس فقط بمعنى "المُشَاهَدِ المَرئي"، فهو عالَمُ "الشهادة" لأنَّه "يُستشْهَدُ به" في القضيَّة الكونية الأزلية ....
والعالمُ الثاني هو عَالمُ الغيبِ وهو كلُّ ما غابَ عن حواس الإنسان ويدخل فيه عالمُ الملائكةِ الكرامِ والروحُ وعلمُ المستقبلِ وما إلى ذلك من الأمور. ويدخلُ في هذا العالم أيضاً ما لا يقاس بحواس الإنسان كالهُدى والضلال ، الإيمان والكفر، والرحمة والقسوة، والخير والشر، والحُبِّ والكُرهِ، وما إلى ذلك من الأمور.
فدوماً نجدُ في القرآن الكريم أنَّه تعالى يستخدمُ العالمَ الماديَّ المشاهدَ لإثباتِ وبيانِ ما يحدث أو سيحدث في العالم الغيبي الروحاني. ولأنَّ العَالَمينِ من خلقهِ تعالى وهو الواحدُ فوجبَ أنْ يتحدا في الأهداف والغايات وحتى في المعاني والدلالات بنفس الطريقة التي وجدنا فيها أنَّ مادةَ المثلِ (العنكبوت والنمل والنحل مثلا) الذي يضربه تعالى تحققُ الهدفَ المنشودَ منها كُليَّاً وجوهرياً في أصلِ خلقها ... فالعالَمُ المادي قُدِّرَ له ليكون شاهداً:
وَخَلَقَ كُلَّ شَىءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً {الفرقان: 2}
ومن المعاني والدلالات المترادفة والمتقابلة والمتناظرة بين العَالَمين كان ما وجدناه من ترادف معنى "أرض" وهي من عَالَمِ الشهادة الأول بمعنى "سورة" وهي من عَالَمِ الغيب الثاني. فكلمةُ "سُورة" إذا ذكرتْ في المُصحفِ قد تُبْطِن معنى "أرض"، والعكسُ صحيحٌ. فاسم "سورة" مشتقٌ أساساً من السور الذي يحيط بقطعة أرض ....
وسنتكلم لاحقا إن شاء الله تعالى عن بعض هذه المترادفات بين عالمي الغيب والشهادة ...