بافلو بيل وبن لادن
بقلم : فؤاد وجاني
في يوم الحادي عشر من سبتمر من السنة التاسعة بعد الألف الثانية بعد الميلاد ، قادتني يداي قيادة فطرية نحو صعود الجبال . أحيانا قد تضيق بك حمى العيش وسط الزحام فما أن تجد فسحة من الوقت حتى تأخذ خفيك في يديك وتهرب الى أقرب خلوة لتنعم بأحلى سلوة . الأمر ليس صعبا في كولورادو ، في لاية تكاد تملأها الطبيعة في جزئها الغربي جبلا تلو الجبل ، فسبحان من رفع السماء بلا عمد ونصب الجبال بلاوتد . وليس هنالك أكثر من الجبال سكنا وأجلها خشوعا ، فهي توحي بالعظمة لمتسلقها ، وتزرع فيه روح التحدي، فتبدوالحياة سهلا في أعين ناظرها ، ويغدو العيش لهوا في قلب متأملها .
الهواء هنا حيث تكاد يداك تلمس السحب البيضاء لاتوصف نقاوته ، والسهول هناك حيث المدن والبنايات و العمران الإنساني تبدو صغيرة مضمحلة لايُذكر أثرها، كل شيء يبدو متواضعا من أعلى الجبال ، حتى الجسد الذي يتسلقه يخشع ويرجع الى إنسانيته . الوقت النابض نحو الموت يتوقف هنا، والحياة تدرك أسمى معانيها هنا ، الجمال وحده ينطق في صمت هنا ، وتتهاوى الكلمات عن وصف قمة اللحظة ، وحدها تغذي الإحساس لتبقى مسجلة في الذكرى .
وصلت الى القمة لأتذكر بعدها أنني في طريقي الى مرقد بافالو بيل أحد رعاة البقر المشهورين في الغرب الأمريكي . فتذكرت أن اليوم كان الحادي عشر من سبتمبر ، وتذكرت بن لادن ، فكلاهما بالآخر مقرون، ولمحت غزلانا على جنبات الطريق الجبلي المتصاعد ، وثعلبا واقفا متجمدا في مكانه وقد جلس في طمأنينة وأحاط رجليه الأماميتين بذيله وكأنه فخور بنفسه ، و القادمون للتبرك بكعبة بافالو بيل يأخذون صورا تذكارية له .
بافالو بيل هذا هو الإسم المستعار لويليام فريديريك والذي ولد في ولاية أيوا في عام 1846 ، وامتهن حرفا متعددة ، فقد كان صيادا وسائق حنطور وجنديا خلال الحرب الأهلية ومديرا لفندق وسائقا لعربات الشحن الثقيلة قبل أن يسطع نجمه ويحفظ اسمه كل لسان . وقد لقب ب "بافالو بيل" تهنئة له على قتله ل4860 جاموس خلال مدة لم تتجاوز ثمانية عشر شهرا ليساهم في انقراضه علما أن حياة الهنود الحمر واستمرارهم كانت تعتمد على اصطياد الجاموس قبل حلول الأوروبيين .
لكن صيته ذاع في عام 1883 بعد أن أسس عرضا بفرقة سماها "بافلو بيل والغرب المتوحش" ، وكان العرض يجمع بعض الهنود الحمر ورعاة بقر حقيقيين ، وجالت الفرقة كل أنحاء أمريكا وأوروبا وبريطانيا فشغل بافالو بيل الناس وملأ الدنيا وأصبح سفيرا للصورة الأمريكية الجديدة لدى أعتاب الملوك والرؤساء والدول ، ونجح في تحويل الأمريكية من رعاة بقر متعجرفين الى أناس راقيين ذوي ذوق رفيع وخاطر وسيع .
العرض المسرحي الذي يمثل الإنسان الأبيض والهندي الأحمر في مشهد تمثيلي واحد، بعد قرون من الإبادة الجماعية المتواصلة لملايين الهنود الحمر ، اختزل ثقافة الهنود الأحمر في قطيع البقر الوحشي ، وربط وجودهم بالإنسان الأبيض ، وأدغم علمهم في الحصول على مايسد الرمق ، وكأن الهندي الأحمر لم يكن يوما صاحب حضارة ولامالك أرض . ليس من باب المبالغة القول أن بافلو بيل أسس نظرة هوليود اللاحقة للهنود الأحمر على أنهم الشر والجهل ، وأن الإنسان الأبيض يمثل الخير والمعرفة.
والأعجب أن بافلو بيل بلغ بعرضه أوج العالمية بعد استقطابه سنويا لمشاركين من أركان الأرض الأربعة فقد شاركه خيالون عرب وأتراك ومغول وروس وغيرهم .
وكنت قد بحثت في المكتبات الأمريكية عن كتب تصف حقيقة عروض وسيرة بافالو بيل فلم أجد منها سوى تلكم المليئة بالمدح والتي تستر عمدا المؤامرة التي حيكت لتهميش الهنود الحمر وتصغيرهم في أعين الناس والتاريخ ، وماخفي فهو أعظم والله به أعلم. فتذكرت كتب التاريخ المحرفة في المقررات الدراسية في العالم العربي والإسلامي بين قوسين ، والعروبة والإسلام بريئان منهما براءة الذئب من دم يوسف.
اليوم بافالو بيل بطل تاريخي ورمز لحداثة الغرب الأمريكي وعنوان لإنتقاله من حياة الشظف الى ابتغاء سبل الحضارة . وسواء ذهبت الى ولاية نبراسكا أم الى أيوا أو وايومنغ أو كولورادو ستجد له متاحف بل مدنا بأكملها تحمل إسمه وتروي ملاحمه المسرحية المزيفة على حساب تاريخ الإنسان الهندي الأحمر الرافض لوجود المستعمر الأوروبي والقابع تحت الفقر المذقع في المحميات ، أما أولئك الهنود الحمر الذين قرروا الإندماج فهم ينعمون في عيش رغيد .
العنف ضد الأبرياء ليس له شرع ولامبرر ولامكان له في عالم الإنسان "المتحضر" بلغة العدل وليس العصر . لكن حيثما وُجِد ظلم فهنالك عنف ، ولايسبق العنف الظلم بل يليه وينتج عنه ، والإنسان ظلوم بطبعه مفسد بجبله سفاك للدماء ، والواقع التاريخي يقول إن فترات السلم هي الإستثناء ، والحرب هي القاعدة ، و الأقوياء وحدهم يصنعون التاريخ ، والحضارات تنتزع الحقوق انتزاعا . بهذا المنطق الإنساني الغابوي تكون أمريكا على حق في غزوها للعراق وأفغانستان ، وتكون إسرائيل على حق في إغتصابها لفلسطين قلب المسلمين ، ويكون بن لادن على حق في أحداث التاسع عشر من سبتمبر .
لكن مهلا ، من المتضرر الأكبر والخاسر الأخسر ؟ أليست هي الشعوب البريئة من ذمة أولئك وفعلة هؤلاء ؟ وماذنب عامة الناس البسطاء الذين لاناقة لهم ولاجمل من الأمريكيين والفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين والأفغانيين والهنود الحمر والعرب واليهود ؟
بافلو بيل قتل آلاف القطعان من البقر الوحشي ، والأوروبيون نحروا ملايين الهنود الحمر ، وبن لادن أسفك دماء الآلاف من الأبرياء ، والقوات الأمريكية لم تحتل العراق لتبني مستشفى أو جامعة بل خلفت الأرامل والدمار وقتلت ملايين العراقيين ، والأفغانيون يرزحون تحت الإحتلال وتحت خط الفقر ويعانون من القهر ، وإسرائيل قتلت عشرات الآلاف من اللبنانيين وأعدمت وشردت ملايين الفلسطينيين ، والحكومات العربية تقتل حريات مواطنيها كل يوم وليلة. المعادلة العصرية الوحيدة تقول إن الأقوياء يعتبرون أرواح الناس قطيعا كقطعان الجاموس يحلون دمه .
فهل تستحق الشعوب مايحدث لها لأنها نحت منحى القطيع ورضت بالخبز والماء بدل الحرية والكرامة ؟ وهل هي شعوب بريئة فعلا ؟ أليس الصامت عن الحق شيطانا أخرس وجب إعدامه ؟ فهل سيأتي على المسلمين يوم يقيمون فيه متحفا لابن لادن على شاكلة بافلو بيل ؟
أترك لكم الإجابة أيها الأحرار بين قوسين .