بقلم د. محمود عمارة
عندما دعانا الرئيس مبارك، بمكتبه بقصر عابدين، فى مارس ٩٢.. وكنا عشرة من رموز المصريين بالخارج.. وبما أننى كنت الممثل الوحيد عن أوروبا.. فقد فزت بنصيب وافر من الحوار مع الرئيس.. الذى طالبنى بافتتاح «بوابة» لنفاذ المنتجات المصرية إلى الأسواق الأوروبية عبر فرنسا التى أقيم فيها!!
بعد أقل من سبعة أشهر.. كانت هناك «البوابة» المصرية فى قلب سوق Rungis بباريس.. وهى ثانى أكبر سوق للمنتجات الغذائية فى العالم بعد سوق شيكاغو بأمريكا (مبيعاتها السنوية تفوق الـ١٠٠ مليار يورو)، وكل المصدرين المصريين يعرفون أنها أصعب أسواق أوروبا على الإطلاق، فى المواصفات، والشروط، والمنافسة، والأسعار!!
أول فاكس وصلنى من خارج مصر.. جاءنى من «عمَّان».. مذيّلاً بتوقيع المهندس «سعيد المصرى».. يعرض فيه تصدير حاصلات زراعية من الأردن.. وبأسعار منافسة جداً، جعلتنا نتشكك فى الجودة.. وكانت المفاجأة عندما وصلت أول شحنة.. تم عرضها بجانب المنتجات المصرية، فتخاطفها تجار التجزئة من الفرنسيين والعرب ٧٥٪ من تجار التجزئة وأصحاب السوبر ماركت.. مغاربة، وجزائريون، وتوانسة..!!
اتصلت بالمهندس «سعيد» ـ لزيادة الكميات ـ وباعتباره «فلسطينياً» ويحمل الجنسية الأردنية عاش وتأهل وتدرب على يد أبناء «العم كوهين».. فلم يكذب خبراً، وحضر بنفسه إلى باريس ليفاوض فى رفع الأسعار.. طالما أن البضاعة أعجبت الزبون!!
وبدأت بيننا «صداقة».. كنت أذهب إلى الأردن فيستقبلنى «فول بورد».. فى الفجر نخرج سوياً إلى «المزارع» المتخصصة بمنطقة «الغور».. وحول نهر الأردن.. ثم نعود إلى مكتبه بالعاصمة، الذى لا تزيد مساحته على ٣ x ٤ أمتار، والسكرتيرة بالمدخل تتلقى الفاكسات بالطلبات من كل أسواق العالم، ولكن بكميات محدودة.. و«سعيد المصرى» يسهر بنفسه فى موقع التعبئة والفرز والتبريد والتغليف ليتأكد من كل المواصفات القياسية، والشروط البيئية والصحية التى تطلبها الأسواق العالمية.. ولهذا حقق نجاحاً بطيئاً، ولكن مؤكداً فرض احترام المستوردين الأجانب، وجعل «سعيد» يكبر على مهل إلى أن أصبح أحد كبار المنتجين والمصدرين للحاصلات الزراعية فى الأردن!
بعد أربع سنوات من الصداقة والعمل المشترك.. قررنا إنشاء شركة للإنتاج والتصدير فى مصر.. فمساحة الأردن كلها ٩٠ ألف كم٢ أى ربع مساحة محافظة الوادى الجديد.. والأهم أن حصة الأردن من المياه أقل من ٣ مليارات متر مكعب سنوياً، معظمها مياه مالحة لا تصلح سوى لزراعة النخيل والزيتون.. والمتر المكعب من المياه يباع فى الشوارع للاستحمام أو للاستهلاك المنزلى بمبلغ ٢.٧ دينار = ٢٢ جنيهاً!!
جئنا إلى «مصر»، وبدأنا زراعة أصناف لا نعرفها هنا.. تستهلكها الجاليات الآسيوية المقيمة فى إنجلترا.. وبما أنه من رابع المستحيلات فى مصر أن ينجح «مشروع» دون تواجد يومى لمالكه «على الأقل فى مراحله الأولى».. وحيث إننى مقيم دائماً فى باريس، وهو فى الأردن.. فقد قررنا إغلاق الشركة بعد ٣ سنوات!!
أول رمضان فوجئت بكرتونة «تمر» من التمور التى يجب زراعتها فى مصر لجودتها العالية وارتفاع أسعارها «مادجول MADGOL» ومعها تحية من المهندس «سعيد المصرى» الذى تم اختياره وزيراً للزراعة فى الأردن فى فبراير الماضى!!
فماذا فعل معالى الوزير خلال ٦ أشهر على كرسى الوزارة:
١ ـ أغلق شركته بالضبة والمفتاح.. ولم يقبل أن تديرها ابنته أو زوجته أو حتى سكرتيرته.. إعمالاً للشفافية، ومنعاً لتضارب المصالح.
٢ ـ كوَّن «مجلساً استشارياً» من كبار المزارعين والمصدرين والخبراء.. ليشاركوه فى وضع خطة واستراتيجية يمكنها إحداث «طفرة» فى ظل انعدام الموارد.
٣ ـ أرسل ٢٠ من الشباب الواعد للتدريب فى الأسواق العالمية ليتعرفوا على احتياجات هذه الأسواق.. وأذواق المستهلكين فيها.. وحركة الأسعار.. والمنافسين لمنتجاتهم.
٤ ـ خصص ٣ أيام فى الأسبوع لزيارة مواقع الإنتاج، لحل المشاكل على الواقف وفوراً.. فى الفجر يصحو كالعادة.. يفطر فى إحدى المزارع، ويتناول الغداء فى أى باكنج هاوس للتعبئة والفرز.. ومساءً فى الوزارة للتوقيع على البوستة وإدارة دولاب العمل.
٥ ـ أنشأ مركزاً لتحديث الزراعة.. بمعونات ومساعدات أمريكية ومنح أوروبية «أنتجت محطات لتحلية المياه النادرة.. وخلقت مزارع سمكية فى قلب الصحراء لاستخدام كل متر مكعب مياه مرتين.. لتربية الأسماك قبل ضخه فى مواسير وخراطيم للزراعة!!، ولدعم المصدرين من الأردن إلى العراق وبلدان الخليج، وأوروبا، ولتأهيل وتدريب الشباب لإقامة مشروعات صغيرة «صناعات غذائية من المربى وعسل النحل وزيت الزيتون وتوريد عمالة متخصصة فى المشاتل وتقليم الأشجار ورعاية الحدائق وصناعات الجلود وتوزيع الأسمدة إلخ.. إلخ».
وبما أن «أبوبهاء».. لافف، وشايف، وفاهم، وعارف، ومش ملطوط، ولا يعمل بمنطق «الشلة»، ولا يقوده فرد أو جماعة بعينها.. فتجده فى مجلس الوزراء جريئاً ومشاغباً وهو يطالب فى كل اجتماع بزيادة الميزانية للبحوث الزراعية، ولدعم المزارعين، والمربين، وفى مجلس الأمة لديه «لوبى» قوى يعاونه فى تغيير بعض القوانين المتخلفة وإصدار تشريعات تناسب العصر، وتتماشى مع الخطة التى قدمها للدولة بعد ٩٠ يوماً من جلوسه على كرسى الوزارة!!
وهكذا يتقدمون رغم «ندرة» الموارد، و«قلّة» الإمكانيات، فيخلقون من الفسيخ شربات، ولهذا ينطبق عليهم المثل بتاعنا: «الشاطرة تغزل برجل حمار»!!
تحية لمعالى الوزير.. ومبروك لشعب الأردن «٦ ملايين مواطن ينتجون سنوياً ما قيمته ٣٥ مليار دولار، وليس لديهم نقطة بترول، ولا شربة ماء»!!