الإنســـان فــي الارتفاعــات العاليـة بين العلـم الحديث والقرآن الگريم
دگتور / صـــلاح الـــــدين المــغــربي
مستشار في طب الطيران
معهد طب الطيران ـــ فامبرا ـــ بريطانيا
عضو جمعية طب الطيران والفضاء بالولايات المتحدة
كلية الأطباء الملكية ـــ لندن ـــ كلية الجراحين الملكية ـــ بريطانيا
الإنسان في الارتفاعات العالية
ملخص البحث
إن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم يتجلى في الآية الكريمة : {فّمّن يٍرٌدٌ اللَّهٍ أّن يّهًدٌيّهٍ يّشًرّحً صّدًرّهٍ لٌلإسًلامٌ ومّن يٍرٌدً أّن يٍضٌلَّهٍ يّجًعّلً صّدًرّهٍ ضّيٌَقْا حّرّجْا كّأّّنَّمّا يّصَّعَّدٍ فٌي السَّمّاءٌ كّذّلٌكّ يّجًعّلٍ اللَّهٍ الرٌَجًسّ عّلّى الذٌينّ لا يٍؤًمٌنٍونّ** (الأنعام:125).
لقد أثبت علم طب الطيران أن تعرض الإنسان للارتفاعات العالية عندما يصعد من سطح الأرض إلى الطبقات العليا في السماء فإنه تحدث له أعراض (فسيولوجية) تتدرج من الشعور بالضيق الذي يتركز في منطقة الصدر- كما ذكر في الآية الكريمة: من أنه عندما يصعد الإنسان في السماء يشعر بضيق الصدر- ثم إذا استمر الإنسان في الارتفاع في السماء ، بمعنى أنه إذا استمر في التعرض للارتفاعات العالية وانخفاض الجوي ونقص الأوكسجين فإنه يدخل في مرحلة حرجة - كما ذكر في الآية الكريمة - أنه بعد أن يشعر الإنسان بضيق الصدر يصل إلى المرحلة الحرجة .
تمهيد :
بدأت منذ حوالي مائتي عام تقريباً ( 1786 م) أبحاث كثيرة في طبقات الجو العليا ، وتأثيرها على الإنسان .
ومن حوالي مائة عام تقريباً ( 1878 م ) ظهرت أبحاث أكثر تقدماً في (فسيولوجيا) الجسم ، وتأثره في طبقات الجو العليا .
وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم الذي نزل منذ أكثر من أربعة عشر قرناً على نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نجد قوله تعالى : {فّمّن يٍرٌدٌ اللَّهٍ أّن يّهًدٌيّهٍ يّشًرّحً صّدًرّهٍ لٌلإسًلامٌ ومّن يٍرٌدً أّن يٍضٌلَّهٍ يّجًعّلً صّدًرّهٍ ضّيٌَقْا حّرّجْا كّأّّنَّمّا يّصَّعَّدٍ فٌي السَّمّاءٌ** (الأنعام:125).
قد تضمن الحقائق التي أثبتتها هذه الأبحاث في إيجاز وإعجاز (1).
والقرآن الكريم قد حث على العلم، فأول آية نزلت فيه تدعو للعلم ، فقد جاء فيها الأمر بالقراء ة ، ثم الدعوة للتعلم بالقلم ، قال تعالى : {اقًرأً بٌاسًمٌ رّبٌَكّ الذٌي خّلّقّ (1) خّلّقّ الإنسّانّ مٌنً عّلّقُ (2) \قًرّأً ورّبٍَكّ الأّكًرّمٍ (3) الذٌي عّلَّمّ بٌالًقّلّمٌ (4) عّلَّمّ الإنسّانّ مّا لّمً يّعًلّمً (5)** [العلق].
وفي طب الطيران والفضاء نجد بيانا واضحاً للآية الكريمة السابقة ، من خلال عرض مبسط لتكوين الغلاف الجوي وطبقاته وتأثيره (فسيولوجيا) على الإنسان.
تكوين الغلاف الجوي وتقسيمه « فسيولوجياً » :
1 ـــ منطقة كافية « فسيولوجيا » ( من سطح البحر إلى ارتفاع 10000 قدم ( :
يستطيع الإنسان في هذه المنطقة من الغلاف الجوي أن يعيش طبيعياً، فكمية الأوكسجين الموجودة تكفي
« فسيولوجياً » لحياة الإنسان.
2 ـــ منطقة غير كافية « فسيولوجياً » ( من ارتفاع
10000 قدم إلى 50000 قدم ):
حيث لاحظ العلماء أنه يوجد نقص في كمية الأوكسجين في هذه المنطقة ، بالإضافة إلى الانخفاض في الجوي ، وينتج عن ذلك آثار واضحة على «فسيولوجيا» جسم الإنسان ، فتظهر أعراض نقصان الأوكسجين (هيبوكسيا) وأعراض انخفاض الجوي (ديسباريزم ) .
3 ـــ منطقة الفضاء التقريبي ( من ارتفاع 50 ألف قدم إلى حوالي 633 ألف قدم ):
حيث لايمكن للإنسان من الناحية « الفسيولوجية » أن يعيش في ارتفاع ( 50000 قدم) فأكثر ، حتى لو تنفس 100% أوكسجين، بل لابد له أن يرتدي ملابس الفضاء المجهزة ، لكي يتحمل الانخفاض في الجوي ، ونقص الأوكسجين في هذه الارتفاعات.
ظــاهرة نقصان « الأوكسجين » ( هيبوكسيا) :
تحدث هذه الظاهرة لراكب الطائرة بسبب نقصان الأوكسجين في الأنسجة عند فشل الأجهزة في ضبط داخل الطائرة حينما تكون في الارتفاعات العالية ، ويعبر عن هذا بانخفاض الجوي للأكسجين، حيث تنخفض كمية الأوكسجين في الهواء المستنشق ، ولا تنضبط كميته .
ويتركب الهواء المستنشق من الآتي :
95ر20% غاز أوكسيجين .
09ر78% غاز نيتروجين.
03ر00% غاز ثاني أوكسيد الكربون .
الباقي: غازات غير هامة بالنسبة لوظائف الجسم .
في هذا الخليط من الغازات - الهواء المستنشق - من المستحسن أن نتكلم عن الجوي للغاز ، وهو العامل المؤثر لأي غاز في خليط من الغازات ، والضغط الجوي للأوكسجين في الحويصلات الهوائية هو العامل المؤثر الأساسي في الجسم، لأنه هو العامل الذي يتحكم في كمية الأوكسجين التي تصل إلى الدم .
ويجب أن نعلم أنه من الثابت علميا: كلما ارتفعنا في الجو كلما قل الجوي وب الجوي للأوكسجين ، لذلك إذا استنشق أوكسجين نقي 100% على ارتفاع (33700 قدم) فإن الجوي للأوكسجين في الحويصلات الهوائية يمثل نفس النسبة، كما لو استنشق الهواء على مستوى سطح البحر .
عندما نصل إلى ارتفاعات (40000 قدم) فإن الجوي للأوكسيجين يهبط بسرعة إلى مستوى يشكل خطورة على الحياة، ولا يدع أجهزة الجسم المختلفة في حالتها الطبيعية.
والارتفاع الحرج الذي يهبط فيه إلى 87مم/زئبق هو 50000 قدم، وهنا حتى لو تم استنشاق الأوكسيجين 100% فإنه لا يفي بتاتا بحاجة الجسم من الأوكسيجين . (شكل 2).
مراحل أعراض ظاهرة نقص الأوكسيجين :
وتنقسم إلى أربعة مراحل تتعلق بالضغط الجوي، ومستوى الارتفاع، ونسبة تركيز الأوكسيجين في الدم.
1 ـــ مرحلة عدم الـتـغيير(من مســتوى ســطــح الـبـحـر إلى ارتفاع 10000 قـدم ) في هذه المرحلة لاتوجد أعراض ظاهرة لنقص الأوكسجين ولاتتأثر الرؤية بالنهار.
2 ـــ مرحلة التكافؤ « الفسيولوجي » ( من ارتفاع 10000 قدم إلى 16000 قدم ).
تعمل أجهزة التكافؤ « الفسيولوجي » في هذه المرحلة على عدم ظهور أعراض نقص الأوكسجين ، إلا إذا طالت مدة التعرض لهذا النقص ، أو قام الفرد بمجهود جسماني في هذه الظروف فتبدأ عملية التنفس في الازدياد عدداً وعمقاً، ويزيد النبض وضغط الدم ، وكذلك سرعة الدورة الدموية .
3 ـــ مرحلة الاختلال « الفسيولوجي » (من ارتفاع 16000 قدم إلى 25000 قدم ).
في هذه المرحلة لاتفي أجهزة التكافؤ «الفسيولوجي » بالمطلوب ، ولاتستطيع توريد الكمية الكافية من « الأوكسجين» للأنسجة ، وهنا يبدأ ظهور الأعراض.
وفي هذه المرحلة نجد تفسيراً واضحاً لضيق الصدر الذي يشعر به الإنسان عندما يصعد إلى هذه الارتفاعات، وهو بيان يتفق مع ما تشير إليه الآية الكريمة من شعور الإنسان بضيق الصدر عندما {يصّعد في السماء** أي: في طبقات الجو العليا .
إن الآية الكريمة ذكرت أن ضيقا يحدث بالصدر عند الصعود في السماء ، أي : الارتفاعات العالية ، وقد وجد الأطباء في أبحاثهم على الطيارين أن الإنسان يشكو في هذه المرحلة من الإجهاد والصداع، والشعور بالرغبة في النوم، وصعوبة التنفس ، وضيق الصدر ، وهذا يتفق مع ما ورد في الآية الكريمة .
إن قوله تعالى : {... يجعلْ صدره ضيقاً ** يقدم لنا - بإشارة دقيقة ، وكلمات معجزة - شرحاً لما يحدث «فسيولوجياً» للإنسان في الارتفاعات العالية ، وهي إشارة تسترعي انتباه الطبيب المتخصص في طب الطيران والفضاء، وقد تخفى على القارئ العادي .
والحقائق العلمية في هذه الآية الكريمة لم يصل إليها الأطباء إلا بعد بحث واجتهاد دام عشرات السنين .
4 ـــ المرحلة الحرجة من ارتفاع (25000 قدم) فأعلى في هذه المرحلة يفقد الإنسان الوعي تماماً بسبب فشل الجهاز العصبي .
وما يحدث للإنسان عندما يواصل الارتفاع في طبقات الجو العليا ويصل إلى مرحلة حرجة هو تفسير ماجاء في قوله تعالى : {ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء** .
ويتحقق التوافق بين معنى الآية الكريمة ، والثابت في حقائق العلم الحديث ، من خلال الدلالة الواضحة في الأعراض التي تصيب الإنسان عند التعرض لنقص « الأوكسجين » في هذه المرحلة من الارتفاع ، فالتغييرات التي تحدث بالصدر ( أي الجهاز التنفسي ، والقلب ) تصل أقصاها .
وبعد هذه الحالة يحدث فشل كامل في وظائفهما «الفسيولوجية » نتيجة العبء الملقى عليهما ، ويصاحبهما فشل في الجهاز العصبي نتيجة التعرض للنقص الشديد في ضغط «الأوكسجين » وكميته الموجودة في الارتفاعات العالية من الغلاف الجوي كما تقدم .
وهنا يتأكد لنا أن القرآن الكريم أخبر عن أمور علمية لم تكن معروفة زمن نزوله على رسول الله [ ، وإنما أظهرها التقدم العلمي فيما بعد .
ظاهرة انخفاض الجوي ( ديسباريزم ):
وفيها تحدث مجموعة من الأعراض التي تنتج عن تمدد حجم الغازات وزيادتها في جسم الإنسان عند تعرضه لانخفاض الجوي في الارتفاعات العالية ( السماء ) . وتحدث لركاب الطائرات عندما تفشل أجهزة ضبط داخل الطائرة.
أعراض ظاهرة انخفاض الجوي
تنقسم أعراض هذه الظاهرة إلى قسمين :
الأول : أعراض نتيجة تمدد الغازات المحبوسة في تجاويف الجسم ، وهذه يحكمها قانون « بويل للغازات » (1).
الثاني : أعراض نتيجة تصاعد الغازات الذائبة في خلايا الجسم على هيئة فقاعات ـــ وهي أساساً غاز «النيتروجين » - عند تعرض الإنسان للارتفاعات العالية وانخفاض الجوي ، وهذه يحكمها قانون هنري للغازات (2) ، وغاز النيتروجين الذي يوجد في جسم الإنسان يصل حجمه تقريبا إلى لتر واحد يوجد منه 75 سم3 ذائبة في الدم والباقي في الأنسجة.
ويلاحظ أن الدهون لها قابلية شديدة للنيتروجين (تسعة أضعاف الدم والأنسجة الأخرى ) كذلك يجب أن نلاحظ أن الجهاز العصبي به نسبة عالية من الدهون.
وبهذا يستبين لنا الآثار السلبية الناتجة عن انفلات تلك الغازات على هيئة فقاعات لدى الصعود في أعالي الفضاء.
أعراض القسم الأول ( الغازات المحبوسة ) :
1 ـــ غازات بالجهاز الهضمي :
المعدة : إذا زاد حجم الغازات الموجودة داخل المعدة فإنها تتمدد وتضغط على الرئتين مسببة اضطراباً شديداً في التنفس ، وهو تفسير واضح لضيق الصدر عندما يصعد الإنسان في السماء .
القولون : وتسبب زيادة حجم الغازات بالقولون حدوث آلام شديدة بالبطن مما يتسبب في شعور الإنسان بالضيق.
2 ـــ غازات داخل الرئتين :
تتمدد الغازات في الرئتين عند الارتفاع ويزداد حجمهاوتخرج مع الزفير .
وإذا أغلق الإنسان حلقه أثناء الارتفاع المفاجئ فإن أنسجة الرئتين تصاب بالتهتك وتتمزق بسبب ضغط تلك الغازات المتمددة .
3 ـــ غازات داخل الأسنان والضروس :
تُحدث آلاماً شديدة عند تمددها .
4 ـــ غازات بالأذن الوسطى :
زداد حجم الغازات في الأذن الوسطى مسببة آلاماً شديدة .
5 ـــ غازات بالجيوب الأنفية :
يزداد حجم الغازات في الجيوب الأنفية وتُحدث آلاماً بها.
أعراض القسم الثاني ( الغازات المتصاعدة ) :
وتـظـهـر هذه الأعـراض نتيجـة تصاعـد الغازات الذائــبـة في خلايا الجــــسم ـــ النيتروجين ـــ على هيئة فقاعات عند الارتفاعات العالية .
1 ـــ آلام المفاصل :
تُحدث الغازات المتصاعدة آلاماً شديدة في المفاصل .
2 ـــ الاخـــتناق :
تحدث آلام شديدة بالصدر ويشعر الإنسان بضيق شديد عند تعرضه للضغط الجوي المنخفض - حين صعوده في الارتفاعات العالية - وقد لوحظ أنه يصاحب هذا الشعور بالضيق في الصدر سعال جاف مؤلم ، وآلام في التنفس العميق ، وهذا نتيجة تصاعد فقاعات «النيتروجين» من أنسجة الرئتين حول الشعيرات الدموية وداخلها، وكذلك تأثر « العصب الحائر » كما ذكرت الآية الكريمة {ومن يرد أن يضله يجعلْ صدره ضيقاً** .
فقد ذكرت كلمة ( الصدر ) - الذي يحتوي داخله على الجهاز التنفسي ، والقلب ، والجهاز الدوري - على أنه مكان الشعور ( بالضيق ) عند الصعود ( في السماء ) أي : الارتفاعات العالية .
وقد أثبت العلم أن هذا مايحدث لراكب الطائرة عندما يتعرض للضغط الجوي المنخفض في الارتفاعات العالية.
3 ـــ الجلـد : تُحدِث فيه الغازات المتصاعدة تحسّسا
( ارتكاريا ) وفقاعات تحت الجلد .
4 ـــ الجهاز العصبي : تتأثر الرؤية ، ومجال النظر ، وقد يحدث شلل جزئي أو شامل ؛ بسبب تصاعد تلك الغازات.
5 ـــ الهبوط الدوري العصبي :
في هذه الحالة يحدث صداع ، وإغماء ، وصدمة عصبية ، وزرقة في الجسم ، وهذه هي نهاية المرحلة الحرجة التي ذكرتها الآية الكريمة { حرجاً كأنما يصّعّد في السماء** وهي تؤدي إلى الوفاة .
وإن هذا الوجه من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم من أبرز ما اهتدى إليه الإنسان في العصر الحديث ... عصر العلم والمعرفة .
وكلما انتشر العلم واتسعت مجالاته ظهر من أوجه
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم مايجعل الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم يسارعون إلى الدخول في دين الله أفواجا .
وصدق ربنا الكريم : {إنً هٍوّ إلاَّ ذٌكًرِ لٌَلًعّالّمٌينّ <87> ولّتّعًلّمٍنَّ نّبّأّهٍ بّعًدّ حٌينُ <88>** [سورة ص: 87، 88].
دگتور / صـــلاح الـــــدين المــغــربي
مستشار في طب الطيران
معهد طب الطيران ـــ فامبرا ـــ بريطانيا
عضو جمعية طب الطيران والفضاء بالولايات المتحدة
كلية الأطباء الملكية ـــ لندن ـــ كلية الجراحين الملكية ـــ بريطانيا
الإنسان في الارتفاعات العالية
ملخص البحث
إن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم يتجلى في الآية الكريمة : {فّمّن يٍرٌدٌ اللَّهٍ أّن يّهًدٌيّهٍ يّشًرّحً صّدًرّهٍ لٌلإسًلامٌ ومّن يٍرٌدً أّن يٍضٌلَّهٍ يّجًعّلً صّدًرّهٍ ضّيٌَقْا حّرّجْا كّأّّنَّمّا يّصَّعَّدٍ فٌي السَّمّاءٌ كّذّلٌكّ يّجًعّلٍ اللَّهٍ الرٌَجًسّ عّلّى الذٌينّ لا يٍؤًمٌنٍونّ** (الأنعام:125).
لقد أثبت علم طب الطيران أن تعرض الإنسان للارتفاعات العالية عندما يصعد من سطح الأرض إلى الطبقات العليا في السماء فإنه تحدث له أعراض (فسيولوجية) تتدرج من الشعور بالضيق الذي يتركز في منطقة الصدر- كما ذكر في الآية الكريمة: من أنه عندما يصعد الإنسان في السماء يشعر بضيق الصدر- ثم إذا استمر الإنسان في الارتفاع في السماء ، بمعنى أنه إذا استمر في التعرض للارتفاعات العالية وانخفاض الجوي ونقص الأوكسجين فإنه يدخل في مرحلة حرجة - كما ذكر في الآية الكريمة - أنه بعد أن يشعر الإنسان بضيق الصدر يصل إلى المرحلة الحرجة .
تمهيد :
بدأت منذ حوالي مائتي عام تقريباً ( 1786 م) أبحاث كثيرة في طبقات الجو العليا ، وتأثيرها على الإنسان .
ومن حوالي مائة عام تقريباً ( 1878 م ) ظهرت أبحاث أكثر تقدماً في (فسيولوجيا) الجسم ، وتأثره في طبقات الجو العليا .
وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم الذي نزل منذ أكثر من أربعة عشر قرناً على نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نجد قوله تعالى : {فّمّن يٍرٌدٌ اللَّهٍ أّن يّهًدٌيّهٍ يّشًرّحً صّدًرّهٍ لٌلإسًلامٌ ومّن يٍرٌدً أّن يٍضٌلَّهٍ يّجًعّلً صّدًرّهٍ ضّيٌَقْا حّرّجْا كّأّّنَّمّا يّصَّعَّدٍ فٌي السَّمّاءٌ** (الأنعام:125).
قد تضمن الحقائق التي أثبتتها هذه الأبحاث في إيجاز وإعجاز (1).
والقرآن الكريم قد حث على العلم، فأول آية نزلت فيه تدعو للعلم ، فقد جاء فيها الأمر بالقراء ة ، ثم الدعوة للتعلم بالقلم ، قال تعالى : {اقًرأً بٌاسًمٌ رّبٌَكّ الذٌي خّلّقّ (1) خّلّقّ الإنسّانّ مٌنً عّلّقُ (2) \قًرّأً ورّبٍَكّ الأّكًرّمٍ (3) الذٌي عّلَّمّ بٌالًقّلّمٌ (4) عّلَّمّ الإنسّانّ مّا لّمً يّعًلّمً (5)** [العلق].
وفي طب الطيران والفضاء نجد بيانا واضحاً للآية الكريمة السابقة ، من خلال عرض مبسط لتكوين الغلاف الجوي وطبقاته وتأثيره (فسيولوجيا) على الإنسان.
تكوين الغلاف الجوي وتقسيمه « فسيولوجياً » :
1 ـــ منطقة كافية « فسيولوجيا » ( من سطح البحر إلى ارتفاع 10000 قدم ( :
يستطيع الإنسان في هذه المنطقة من الغلاف الجوي أن يعيش طبيعياً، فكمية الأوكسجين الموجودة تكفي
« فسيولوجياً » لحياة الإنسان.
2 ـــ منطقة غير كافية « فسيولوجياً » ( من ارتفاع
10000 قدم إلى 50000 قدم ):
حيث لاحظ العلماء أنه يوجد نقص في كمية الأوكسجين في هذه المنطقة ، بالإضافة إلى الانخفاض في الجوي ، وينتج عن ذلك آثار واضحة على «فسيولوجيا» جسم الإنسان ، فتظهر أعراض نقصان الأوكسجين (هيبوكسيا) وأعراض انخفاض الجوي (ديسباريزم ) .
3 ـــ منطقة الفضاء التقريبي ( من ارتفاع 50 ألف قدم إلى حوالي 633 ألف قدم ):
حيث لايمكن للإنسان من الناحية « الفسيولوجية » أن يعيش في ارتفاع ( 50000 قدم) فأكثر ، حتى لو تنفس 100% أوكسجين، بل لابد له أن يرتدي ملابس الفضاء المجهزة ، لكي يتحمل الانخفاض في الجوي ، ونقص الأوكسجين في هذه الارتفاعات.
ظــاهرة نقصان « الأوكسجين » ( هيبوكسيا) :
تحدث هذه الظاهرة لراكب الطائرة بسبب نقصان الأوكسجين في الأنسجة عند فشل الأجهزة في ضبط داخل الطائرة حينما تكون في الارتفاعات العالية ، ويعبر عن هذا بانخفاض الجوي للأكسجين، حيث تنخفض كمية الأوكسجين في الهواء المستنشق ، ولا تنضبط كميته .
ويتركب الهواء المستنشق من الآتي :
95ر20% غاز أوكسيجين .
09ر78% غاز نيتروجين.
03ر00% غاز ثاني أوكسيد الكربون .
الباقي: غازات غير هامة بالنسبة لوظائف الجسم .
في هذا الخليط من الغازات - الهواء المستنشق - من المستحسن أن نتكلم عن الجوي للغاز ، وهو العامل المؤثر لأي غاز في خليط من الغازات ، والضغط الجوي للأوكسجين في الحويصلات الهوائية هو العامل المؤثر الأساسي في الجسم، لأنه هو العامل الذي يتحكم في كمية الأوكسجين التي تصل إلى الدم .
ويجب أن نعلم أنه من الثابت علميا: كلما ارتفعنا في الجو كلما قل الجوي وب الجوي للأوكسجين ، لذلك إذا استنشق أوكسجين نقي 100% على ارتفاع (33700 قدم) فإن الجوي للأوكسجين في الحويصلات الهوائية يمثل نفس النسبة، كما لو استنشق الهواء على مستوى سطح البحر .
عندما نصل إلى ارتفاعات (40000 قدم) فإن الجوي للأوكسيجين يهبط بسرعة إلى مستوى يشكل خطورة على الحياة، ولا يدع أجهزة الجسم المختلفة في حالتها الطبيعية.
والارتفاع الحرج الذي يهبط فيه إلى 87مم/زئبق هو 50000 قدم، وهنا حتى لو تم استنشاق الأوكسيجين 100% فإنه لا يفي بتاتا بحاجة الجسم من الأوكسيجين . (شكل 2).
مراحل أعراض ظاهرة نقص الأوكسيجين :
وتنقسم إلى أربعة مراحل تتعلق بالضغط الجوي، ومستوى الارتفاع، ونسبة تركيز الأوكسيجين في الدم.
1 ـــ مرحلة عدم الـتـغيير(من مســتوى ســطــح الـبـحـر إلى ارتفاع 10000 قـدم ) في هذه المرحلة لاتوجد أعراض ظاهرة لنقص الأوكسجين ولاتتأثر الرؤية بالنهار.
2 ـــ مرحلة التكافؤ « الفسيولوجي » ( من ارتفاع 10000 قدم إلى 16000 قدم ).
تعمل أجهزة التكافؤ « الفسيولوجي » في هذه المرحلة على عدم ظهور أعراض نقص الأوكسجين ، إلا إذا طالت مدة التعرض لهذا النقص ، أو قام الفرد بمجهود جسماني في هذه الظروف فتبدأ عملية التنفس في الازدياد عدداً وعمقاً، ويزيد النبض وضغط الدم ، وكذلك سرعة الدورة الدموية .
3 ـــ مرحلة الاختلال « الفسيولوجي » (من ارتفاع 16000 قدم إلى 25000 قدم ).
في هذه المرحلة لاتفي أجهزة التكافؤ «الفسيولوجي » بالمطلوب ، ولاتستطيع توريد الكمية الكافية من « الأوكسجين» للأنسجة ، وهنا يبدأ ظهور الأعراض.
وفي هذه المرحلة نجد تفسيراً واضحاً لضيق الصدر الذي يشعر به الإنسان عندما يصعد إلى هذه الارتفاعات، وهو بيان يتفق مع ما تشير إليه الآية الكريمة من شعور الإنسان بضيق الصدر عندما {يصّعد في السماء** أي: في طبقات الجو العليا .
إن الآية الكريمة ذكرت أن ضيقا يحدث بالصدر عند الصعود في السماء ، أي : الارتفاعات العالية ، وقد وجد الأطباء في أبحاثهم على الطيارين أن الإنسان يشكو في هذه المرحلة من الإجهاد والصداع، والشعور بالرغبة في النوم، وصعوبة التنفس ، وضيق الصدر ، وهذا يتفق مع ما ورد في الآية الكريمة .
إن قوله تعالى : {... يجعلْ صدره ضيقاً ** يقدم لنا - بإشارة دقيقة ، وكلمات معجزة - شرحاً لما يحدث «فسيولوجياً» للإنسان في الارتفاعات العالية ، وهي إشارة تسترعي انتباه الطبيب المتخصص في طب الطيران والفضاء، وقد تخفى على القارئ العادي .
والحقائق العلمية في هذه الآية الكريمة لم يصل إليها الأطباء إلا بعد بحث واجتهاد دام عشرات السنين .
4 ـــ المرحلة الحرجة من ارتفاع (25000 قدم) فأعلى في هذه المرحلة يفقد الإنسان الوعي تماماً بسبب فشل الجهاز العصبي .
وما يحدث للإنسان عندما يواصل الارتفاع في طبقات الجو العليا ويصل إلى مرحلة حرجة هو تفسير ماجاء في قوله تعالى : {ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء** .
ويتحقق التوافق بين معنى الآية الكريمة ، والثابت في حقائق العلم الحديث ، من خلال الدلالة الواضحة في الأعراض التي تصيب الإنسان عند التعرض لنقص « الأوكسجين » في هذه المرحلة من الارتفاع ، فالتغييرات التي تحدث بالصدر ( أي الجهاز التنفسي ، والقلب ) تصل أقصاها .
وبعد هذه الحالة يحدث فشل كامل في وظائفهما «الفسيولوجية » نتيجة العبء الملقى عليهما ، ويصاحبهما فشل في الجهاز العصبي نتيجة التعرض للنقص الشديد في ضغط «الأوكسجين » وكميته الموجودة في الارتفاعات العالية من الغلاف الجوي كما تقدم .
وهنا يتأكد لنا أن القرآن الكريم أخبر عن أمور علمية لم تكن معروفة زمن نزوله على رسول الله [ ، وإنما أظهرها التقدم العلمي فيما بعد .
ظاهرة انخفاض الجوي ( ديسباريزم ):
وفيها تحدث مجموعة من الأعراض التي تنتج عن تمدد حجم الغازات وزيادتها في جسم الإنسان عند تعرضه لانخفاض الجوي في الارتفاعات العالية ( السماء ) . وتحدث لركاب الطائرات عندما تفشل أجهزة ضبط داخل الطائرة.
أعراض ظاهرة انخفاض الجوي
تنقسم أعراض هذه الظاهرة إلى قسمين :
الأول : أعراض نتيجة تمدد الغازات المحبوسة في تجاويف الجسم ، وهذه يحكمها قانون « بويل للغازات » (1).
الثاني : أعراض نتيجة تصاعد الغازات الذائبة في خلايا الجسم على هيئة فقاعات ـــ وهي أساساً غاز «النيتروجين » - عند تعرض الإنسان للارتفاعات العالية وانخفاض الجوي ، وهذه يحكمها قانون هنري للغازات (2) ، وغاز النيتروجين الذي يوجد في جسم الإنسان يصل حجمه تقريبا إلى لتر واحد يوجد منه 75 سم3 ذائبة في الدم والباقي في الأنسجة.
ويلاحظ أن الدهون لها قابلية شديدة للنيتروجين (تسعة أضعاف الدم والأنسجة الأخرى ) كذلك يجب أن نلاحظ أن الجهاز العصبي به نسبة عالية من الدهون.
وبهذا يستبين لنا الآثار السلبية الناتجة عن انفلات تلك الغازات على هيئة فقاعات لدى الصعود في أعالي الفضاء.
أعراض القسم الأول ( الغازات المحبوسة ) :
1 ـــ غازات بالجهاز الهضمي :
المعدة : إذا زاد حجم الغازات الموجودة داخل المعدة فإنها تتمدد وتضغط على الرئتين مسببة اضطراباً شديداً في التنفس ، وهو تفسير واضح لضيق الصدر عندما يصعد الإنسان في السماء .
القولون : وتسبب زيادة حجم الغازات بالقولون حدوث آلام شديدة بالبطن مما يتسبب في شعور الإنسان بالضيق.
2 ـــ غازات داخل الرئتين :
تتمدد الغازات في الرئتين عند الارتفاع ويزداد حجمهاوتخرج مع الزفير .
وإذا أغلق الإنسان حلقه أثناء الارتفاع المفاجئ فإن أنسجة الرئتين تصاب بالتهتك وتتمزق بسبب ضغط تلك الغازات المتمددة .
3 ـــ غازات داخل الأسنان والضروس :
تُحدث آلاماً شديدة عند تمددها .
4 ـــ غازات بالأذن الوسطى :
زداد حجم الغازات في الأذن الوسطى مسببة آلاماً شديدة .
5 ـــ غازات بالجيوب الأنفية :
يزداد حجم الغازات في الجيوب الأنفية وتُحدث آلاماً بها.
أعراض القسم الثاني ( الغازات المتصاعدة ) :
وتـظـهـر هذه الأعـراض نتيجـة تصاعـد الغازات الذائــبـة في خلايا الجــــسم ـــ النيتروجين ـــ على هيئة فقاعات عند الارتفاعات العالية .
1 ـــ آلام المفاصل :
تُحدث الغازات المتصاعدة آلاماً شديدة في المفاصل .
2 ـــ الاخـــتناق :
تحدث آلام شديدة بالصدر ويشعر الإنسان بضيق شديد عند تعرضه للضغط الجوي المنخفض - حين صعوده في الارتفاعات العالية - وقد لوحظ أنه يصاحب هذا الشعور بالضيق في الصدر سعال جاف مؤلم ، وآلام في التنفس العميق ، وهذا نتيجة تصاعد فقاعات «النيتروجين» من أنسجة الرئتين حول الشعيرات الدموية وداخلها، وكذلك تأثر « العصب الحائر » كما ذكرت الآية الكريمة {ومن يرد أن يضله يجعلْ صدره ضيقاً** .
فقد ذكرت كلمة ( الصدر ) - الذي يحتوي داخله على الجهاز التنفسي ، والقلب ، والجهاز الدوري - على أنه مكان الشعور ( بالضيق ) عند الصعود ( في السماء ) أي : الارتفاعات العالية .
وقد أثبت العلم أن هذا مايحدث لراكب الطائرة عندما يتعرض للضغط الجوي المنخفض في الارتفاعات العالية.
3 ـــ الجلـد : تُحدِث فيه الغازات المتصاعدة تحسّسا
( ارتكاريا ) وفقاعات تحت الجلد .
4 ـــ الجهاز العصبي : تتأثر الرؤية ، ومجال النظر ، وقد يحدث شلل جزئي أو شامل ؛ بسبب تصاعد تلك الغازات.
5 ـــ الهبوط الدوري العصبي :
في هذه الحالة يحدث صداع ، وإغماء ، وصدمة عصبية ، وزرقة في الجسم ، وهذه هي نهاية المرحلة الحرجة التي ذكرتها الآية الكريمة { حرجاً كأنما يصّعّد في السماء** وهي تؤدي إلى الوفاة .
وإن هذا الوجه من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم من أبرز ما اهتدى إليه الإنسان في العصر الحديث ... عصر العلم والمعرفة .
وكلما انتشر العلم واتسعت مجالاته ظهر من أوجه
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم مايجعل الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم يسارعون إلى الدخول في دين الله أفواجا .
وصدق ربنا الكريم : {إنً هٍوّ إلاَّ ذٌكًرِ لٌَلًعّالّمٌينّ <87> ولّتّعًلّمٍنَّ نّبّأّهٍ بّعًدّ حٌينُ <88>** [سورة ص: 87، 88].