رجل لن يجود الفكر والعلم بمثله..
على يديه تعلمنا ان نفكر..وان نبحث فى الاشياء..بمنظور دينى..
وصلت احاديثه الى كل انسان بمنتهى البساطة والهدوء..بدون تعقيدات ولا لوغاريتمات..
فتعلم منه العالم...وفهم علمه البسطاء..
كتبه واعماله ..اثرت الادب والفكر والعلم..رحمه الله..
واقول لذويه..
لا تغضبوا من الجهات الرسميه..لانها لم تحضر جنازته..
وهذا فضل من الله ..حتى تكون الجنازة خالية من المنافقين واللصوص..
واعلموا ان ذلك كان من الافضل له..
اخر ما كتب مصطفى محمود..هو مقال اسمه لغز الموت..
وكانه كان يكتب مقدمة للقصة الكبرى..والحكاية العظمى..
وهى الموت...موت رجل..كان يريد ان يفك لغز الموت..
لعله بعد موته قد عرف طلاسم اللغز..
واليكم اخر مقال لمصطفى محمود...
اللغز
كل منا يحمل جثتة على كتفيه ..
ليس هناك أغرب من الموت ..
انه حادث غريب ..
أن يصبح الشئ .. لا شئ ..
ثياب الحداد .. والسرادق .. والموسيقى .. والمباخر .. والفراشون بملابسهم المسرحية : ونحن كأننا نتفرج على رواية .. ولا نصدق ولا أحد يبدو علية أن يصدق ..
حتى المشيعين الذين يسيرون خلف الميت لا يفكرون الا فى المشوار وأولاد الميت لا يفكرون الا فى الميراث .
والحانوتية لا يفكرون الا فى حسابهم .
والمقرءون لا يفكرون الا فى أجورهم ..
وكل واحد يبدو أنة قلق على وقتة أو صحتة أو فلوسة ..
وكل واحد يتعجل شيئا يخشى أن يفوتة .. شيئا ليس الموت أبدا .
ان عملية القلق على الموت بالرغم من كل هذا المسرح التأثيرى هى مجرد قلق على الحياة ..
لا أحد يبدو أنة يصدق أو يعبأ بالموت .. حتى الذى يحمل النعش على أكتافه .
الخشبة تغوص فى لحم أكتافة .. وعقلة سارح فى اللحظة المقبلة وكيف يعيشها ..
الموت لا يعنى أحدا .. وانما الحياة هى التى تعنى الكل .. نكتة ! ..
من الذى يموت اذن ؟ ..
الميت ؟ ..
وحتى هذا .. لا أحد يدرى مصيره ..
ان الجنازة لا تساوى الا مقدار الدقائق القليلة التى تعطل فيها المرور وهى تعبر الشارع ..
وهى عطلة تتراكم فيها العربات على الجانبين .. كل عربة تنفخ فى نفيرها فى قلق . لتؤكد مرة أخرى أنها تتعجل الوصول الى هدفها .. وأنها لا تفهم .. هذا الشئ الذى أسمة الموت .
ما هو الموت .. وما حقيقتة ..
ولماذا يسقط الموت من حسابنا دائما . حتى حينما نواجهه .
لأن الموت فى حقيقتة حياة
ولانة لا يحتوى على مفاجأة ..
ولأن الموت يحدث فى داخلنا فى كل لحظة حتى ونحن أحياء .. كل نقطة لعاب .. وكل دمعة .. وكل قطرة عرق .. فيها خلايا ميتة .. نشيعها الى الخارج بدون احتفال ..
ملايين الكرات الحمر تولد وتعيش وتموت .. فى دمنا .. دون أن ندرى عنها شيئا . ومثلها الكريات البيض .. وخلايا اللحم والهن والكبد والكلة والامعاء .. كلها خلايا قصيرة العمر تولد وتموت ويولد غيرها ويموت .. وتدفن جثتها فى الغدد . أو تطرد فى الافرازات فى هدوء وصمت .. دون أن نحس أن شيئا ما قد حدث .
مع كل شهيق وزفير .. يدخل الأكسجين .. مثل البوتاجاز الى فرن الكبد فيحرق كمية من اللحم ويولد حرارة تطهى لنا لحما اخر جديدا نضيفة الى أكتافنا .
هذة الحرارة هى الحياة ..
ولكنها أيضا احتراق .. الموت فى صميمها .. والهلاك فى طبيعتها .
أين المفاجأة اذن . وكل منا يشبة نعشا يدب على ساقين .. كل منا يحمل جثته على كتفيه فى كل لحظة ..
حتى الافكار تولد وتورق وتزدهر فى رؤوسنا ثم تذبل وتسقط .. حتى العواطف .. تشتعل وتتوهج فى قلوبنا ثم تبرد .. حتى الشخصية كلها تحطم شرنقتها مرة بعد أخرى .. وتتحول من شكل .. الى شكل ..
اننا معنويا نموت وأدبيا نموت وماديا نموت فى كل لحظة . وأصدق من هذا أن نقول أننا نعيش . ماديا نعيش وأدبيا نعيش ومعنويا نعيش .. لأنة لا فرق يذكر بين الموت والحياة .. لأن الحياة هى عملية الموت .
لأن الاوراق التى تنبت من فروع الشجرة .. ثم تذبل وتموت وتسقط .. وينبت غيرها .. وغيرها .. هذة العملية الدائبة هى الشجرة ..
لأن الحاضر هو جثة الماضى فى نفس الوقت ..
لان الحركة هى وجودى فى مكان ما وانعدامى من هذا المكان فى نفس اللحظة . فبهذا وحدة أمضى وأتحرك .. وتمضى معى الأشياء ..
لأن الحياة ليست تعادلية كما يقول توفيق الحكيم ,ولكنها شد وجذب وصراع بين نقيضين , ومحاولة عاجزة للتوفيق بينهما فى تراكيب واهية هى فى ذاتها فى حاجة للتوفيق بينها .. مرة .. ومرة ومرات .. بدون نهاية وبدون نجاح أبدا .. وبدون الوصول الى أى تعادلية ..
الحياة ليست تعادلية بين الموت والوجود ولكنها اضطراب بين الاثنين وصراع يرفع أحدهما مرة ويخفضة مرة اخرى .
الحياة أزمة .. وتوتر ..
ونحن نذوق الموت فى كل لحظة .. ونعيشة .. فلا نضطرب بل على العكس .. نحسي بكياننا من خلال هذا الموت الذى فى داخلنا .. ونفوز بأنفسنا , وندركها , ونستمع بها ..
ولا نكتفى بهذا .. بل ندخل فى معركة مع مجتمعنا .. وندخل فى موت وحياة من نوع اخر . موت وحياة على نطاق واسع تتصارع فية مجتمعات ونظم وتراكيب انسانية كبيرة .
ومن خلال هذا الصراع الأكبر . نحس بأنفسنا أكثر .. وأكثر .. انها ليست خلايا تولد وتموت فى جسد رجل واحد . ولكنها أيضا مجموعات بشرية تولد وتموت فى جسم المجتمع كلة .
انها الموت يحدث على مستويات أكبر .
الموت اذن حدث دائب مستمر .. يعترى الانسان وهو على قدمية ويعترى المجتمعات وهى فى عنفوانها .
وهو فى نسيج الانسان .. فى جسدة .. وفى كل نبضة ينبضها قلبة مهما تدفقت بالصحة والعافية .
وبالموت تكون الحياة .. وتأخذ شكلها الذى نحسة ونحياه .. لأن ما نحسه ونحياه هو المحصلة بين القوتين معا .. الوجود والعدم وهما يتناوبان الانسان شدا .. وجذبا .
ما السر اذن فى هذة الدهشة التى تصيبنا حينما يقع أحدنا ميتا .
ولماذا يبدو لنا هذا الحديث غريبا .. غير معقول , غير قابل للتصديق .
ولماذا نقف مشدوهين أمام الحادث نكذب عيوننا .. ونكذب حواسنا .. ونكذب عقلنا .. ثم نمضى .. وقد أسقطنا كل شئ من حسابنا .. وصرفنا النظر .. واعتبرنا ما كان .. واجبا .. ولباقة . ومجاملة .. أديناها وانتهينا منها .
لماذا لا نحمل هذا الحادث على محمل الجد ..
ولماذا نرتجف من الرعب حينما نفكر فية .. وتنخلع قلوبنا حينما نصدقة وتضطرب حياتنا حينما ندخلة فى حسابنا ونضعة موضع الاعتبار .
السبب أنة الحادث الوحيد المصحوب برؤية مباشرة .. فما يحدث داخلنا من موت لا نراه .. لا نرى كرات الدم وهى تولد وتموت .. لا نرى الخلايا وهى تحترق .. لا نرى صراع الميكروبات وهى تقتلنا ونقتلها .. وخلايا لا ترى نفسها وهى تفنى ..
كل ما يحدث فى داخلنا يحدث فى الظلام .. ونحن ننام ملء جفوننا وقلوبنا تدق بانتظام وتنفسنا يتردد فى هدوء .
الموت يسترق الخطى كاللص تحت جنح الليل .. ويمشى على رؤوسنا فتبيض له شعراتنا .. شعرة .. شعرة .. دون أن نحس .. لأن دبيبة وهو يمشى هو دبيب الحياة نفسها .
ان أوراق الشجرة تتساقط ولكن السجرة تظل ماثلة للعيان دائمة الخضرة دائمة الازدهار .. تظل هكذا حتى تهب عاصفة تخلعها من جذورها وتلقى بها فى عرض الطريق ..
وحينئذ فقط يبدو منظرها قاتما يبعث على التشاؤم .. تبدو فروعها معروقة عارية .. وجذورها نخرة .. وأوراقها مصفرة .. لقد انتهت .. لم تعد شجرة .. أصبحت شيئا آخر .. أصبحت خشبا .
وهذا هو ما يحدث .. حينما نشاهدالانسان وهو يسقط جثة هامدة انة يبدو شيئا آخر ويبدو الحادث الذى حدث فجأة .. حادثة غريبا بلا مقدمات .. لقد انتهى الانسان كلة فجأة ..ويبدأ العقل فى التساؤل .. هل أنتهى أنا أيضا كلى فجأة .. كما انتهى ذلك الانسان .. وكيف ولا شئ فى احساسى يدل على هذة النهاية أبدا .
كيف يحدث هذا .. وأنا جياش بالرغبة .. ممتلئ بالارادة .. بل أنا الامتلاء نفسه .
كيف يتحول الامتلاء الى فراغ .. وفجوة .
أنا .. أنا ؟ ! .. الذى أحتوى على الدنيا .. كيف أنتهى هكذا وأصبح شيئا تحتوى علية الدنيا .
أنا ؟ ..
ان كلمة .. أنا .. كلمة كهربائية .. انها كالضوء أرى بها كل شئ .. ولا يستطيع شئ أن يراها .. انها أكبر من أى كلمة أخرى وأكبر من أى حقيقة .. لأن بها تكون الحقائق حقائق ..
انها فوق كل شئ وفوقى أنا أيضا لأنها ترانى وتشعر بى .. انها مصدر الاشعاع كله .. وحيث يتمثل لى هذا المنظر المفجع الذى يلقى فية أنسانا مصرعة .. فهى فوق هذا المنظر أيضا لأنها تراه .. وتطل عليه .. وتطل على هذة الطبيعة من مكان ما .. فوق المكان .. وفوق الطبيعة .. وفوق قوانينها .. وفوق ظواهرها .
أنا أموت ! ..
من أنا ..
ومن هو الذى مات ..
انة بعض منى .. منظر من ملايين المناظر التى تعبر خاطرى فكيف أموت أنا ايضا .. ان التساؤل ما يلبث أن يتحول الى تمزق فظيع يحطم فية المنطق نفسه بنفسه .. ويصطدم باستحالات لا حل لها ..
وهكذا تبدأ المشكلة الازلية ..
لغز الموت ..
ان مصدر اللغز هو هذا الموقف الذى ينتقل فية العقل من رؤية مباشرة للموت الى استنتاج مباشر .. عن موتة هو أيضا .. وهو أبو الاشياء .. ونظامها .. وتفسيرها .. ونورها . ولكنة يعود فيقول :
لا ..
ان الذين يموتون هم الآخرون . ان التاريخ كله لا يروى قصة واحدة عن موت ال .. أنا .. ان الموضوعات تتغير وتتبدل وتولد وتذبل وتموت .. والاخرون يموتون .. أما أنا .. هذه ال أنا .. لا توجد سابقة واحدة عن موتها أنا من مادة أخرى غير كل هذة الموضوعات .. ولهذا أمسك بها وأتناولها وأفهمها .. ولا أستطيع ان امسك بنفسى وأتناولها وأفهمها .
أنا فوق متناول الجميع .. وفوق متناولى أنا أيضا .. وفوق متناول القوانين والظواهر .. هناك حلقة مفقودة ..
وهى تفتح بابا تدخل منه الفلسفة .. ويتسلل منه الفكر .. ولكنة باب ضيق .. ضيق جدا .. يؤدى الى سراديب أغلبها مغلقة ورحلة الفكر فى هذة السراديب مخيفة مزعجة ولكنها تثير الاهتمام .
وأى شئ يبعث الاهتمام أكثر من الحياة .. والمصير .. ومن أين .. والى أين .. وكيف .