مر على صابر اسبوعان في رحلة العمل بعيدا ينزل في شقة صغيرة في الاستراحة الخاصة بهم
صابر يجلس في الصالة ناظرا للتلفاز ولا يري في الشاشة إلا اولاده وكأن الارسال هو ذكرياته
و يتذكر بعض العبارات التى كان يتبادلها مع اولاده كالطيور حين تغرد في هارموني بديع
وبعض التراكيب التى كانوا يرددونها كما يقولها تماما ولكن بطريقتهم الرائعة التي تجعل قلبه يحمله ويطير فوق السحاب
في رحلة العمل يذهب لعمله في الصباح وقد صارت ردود افعاله في العمل اكثر حدة وصعوبة
حتى بدأ يلاحظ الجميع ذلك وليس من عادته الشكوي او الفضفضة
ثم يعود للملل في هذه الشقة يفتقد أولاده وزوجته بشدة
تموج في رأسه الافكار وتتلاطم كالماء المغلى في القدر
ويمر بفترة من تشويش الافكار وكأن سربا من الذباب و قائدي الدراجات النارية المتهورين اتخذ رأسه استراحة .. تعربد كيف تشاء في رأسه
يملأ رأسه الطنين وصوت الدراجات النارية العالي
إلى أن يذكر الله فيطمئن قلبه وتغادر الأسراب المضجرة المزعجة ويقر عينا
وما أن يلبس أن يعاوده سربا آخر وهو على ذلك
وعقله داخل جمجمته يحدث صخبا مزعجا ويشعر ان دخانا يخرج من اذنيه من زيادة السخونة
كالموتور الذي يفتقد إلى زيوت التشحيم والتبريد
ينوي عمل فنجانا من القهوة يمشى من الصالة الى المطبخ في تؤدة وما الداعى إلى العجلة
المطبخ به الكثيرمن الأشياء مما ترك المقيمين بها سابقا خلفهم
يسمع صوتا في الاواني الكثيرة المتراكمة على رخامة المطبخ
ذلك الصوت كسر الملل والوجع في القلب والفوضى المخلفة في عقله من الأسراب الطنانة
يمر الفار امامه الى خلف المطبخ المثبت في الحائط مرور السهم
يفتح باب المطبخ السفلى بحذر وتأهب وببطء شديد
ليجد العديد من الاشياء المتراكمة
وبعصاة التقطها من الممسحة في طريقه يضرب على الاوانى والاشياء الكثيرة ليحدث جلبة
ولكن لم يخرج الفار او تهتز له شعرة
يرجع الى الخلف ويدرك انه لن يستطيع اخراج ذلك الفأر إلا إذا أعاد ترتيب المطبخ كاملا
وهو يعرف انه لن يستطيع ان ينام وهناك فأر في الشقة
استلسلم لفكرة ان يغلق عليه غرفته ويضع الكثير من القماش اسفل الباب لمنع دخول الفار
ليحظي ببعض الامان ويستطيع النوم
على ان يرتب ذلك المطبخ يوم الاجازة ان استمر في مهمة العمل اكثر من ذلك
واخذ الاوانى التى يستعملها ويشرب فيها غسلها جيدا ووضعها في غرفته
وادخل الشاي والسكر والقهوة والاطعمة في الثلاجة
وجلس يشاهد التلفاز مرة اخري ولكن هذه المرة
في وضع التأهب كعسكري الحدود أو كمدرب الدببة في السيرك ممسكا العصاة في يده
يتابع التلفاز بما لايتعدي ربع تركيزه وباقى تركيزه على المطبخ والاصوات الصادرة منه
مر الوقت وشعر بالتعب من حالة الترقب وعصاته في يده كغفير الدرك
دخل لينام وقد مر الوقت
عاد من عمله في اليوم وكان خلال يوم عمله من حين لاخر مشغولا بهذا الفأر
عاد من العمل ليدخل الشقة متلمسا اثاره ومتفقدا ترتيب الاواني وقد احضرا سم وبعض ثمرات الطماطم
غير ملابسه بعدما اغلق غرفة نومه جيدا وخرج ليضع السم في ثمرات الطماطم ويضعها داخل المطبخ
الذي يشبه جراب الحاوي
وجلس يتابع
كل نصف ساعة يذهب ليتابع الثمرات وفي ذهنه صورة الفأر ملقا بجوارها فاغرا فاه وقد خرج لسانه
لكن لا تغير في المشهد الثمرات كما هي
يمر الفأر في تحدي من امامه داخلا المطبخ ولكن هذه المرة ليست بسرعة كما سبق
صابر يتأمل ذلك الفأر الذي يمشي متبخترا وكأن المشهد يمر بالبطئ
ولسان حال الفأر يقول له عليك تقبل وجودنا معاً
ولا تنسى انك أنت الضيف الطارئ وانا المقيم الدائم في هذه الشقة
تبرق عينا صابر مركزة على الفأر وتشعر أنه سيخرج من عينيه الأشعة تحت الحمراء لتدمير ذلك الفأر العنيد
يجري صابر خلفه إلي المطبخ ليجده اختفى كالعادة
يعود صابر لأريكته في الصالة التى جرب عليها النوم والجلوس بجميع الاحتمالات الممكنة
حتى مل منها وملت منه
يفكر في الفأر الذي شغله وملأ فراغ كبير
ويجتر ذكريات الماضى عندما كان في المدينة الجامعية وكان لديه رفيقا في الغرفة مزعجا للغاية
ما أشبه ذلك الرفيق بهذا الفأر فكلاهما وجوده يسبب الضجر
ولكن الفأر لا يطلب منه مشاهدة برامج سخيفة وأفلام ساذجة
ولا يطلب منه أن يمسك بالريموت كنترول
ولا يطالبه باغلاق النور او فتح النور على حسب مزاجه في مشاهدة التلفاز
ولا يترك ملابسه مبعثرة في الصالة
ولا يسابقة للدخول للحمام في الصباح ولا يدخل الحمام ويتركه خلفه قذرا
ولا يناقش مغلقا اذنيه في حلقة من حوار الطرشان الشهير
ولا يستخدم ما يراه من خصوصيات وأسرار كوسيلة ضغط اذا اشتد الخلاف
على الأقل إن الفأر يهرب منه خوفا ولا يعترض طريقه مانحا نفسه أولوية المرور دائما
ابتسم صابر ابتسامة رضا واسند ظهره للأريكة التى احتوته في حنان
وكأنها تشاركه النقاش وتواقفه الرأي
ويفكر ان هذا الفأر ليس بذلك القدر من الازعاج على ان يحد ما قد يأتى منه من الضرر
تأكد صابر من حفظ كل الاطعمة والمشروبات في الثلاجة
وغسل الاواني التى يستخدمها ووضعها في غرفته واحكم اغلاق الغرفة ووضع القماش اسفل الباب
وقرر أن يتعايش مع الفأر بمبدأ لا ضرر ولا ضرار
وصار لا ينزعج من مروره واقتنع بفكره أن الفأر هو صاحب المكان
جمع صابر الثمرات المسمومة ووضع بدلا منها بعض القطع من الجبن والخبر
في اليوم تفقد الجبن وجد الفأر لم يأكل منه شيئا
لعله خائفا او لا يتعدي على ممتلكات الاخرين
وكأنه درس فن الايتيكيت
مر الفأر العديد من المرات امام صابر
وتشعر أن الفأر ادرك ان صابر يتفهم الامر ولا يمانع من وجوده
صابر لم يعد يغلق باب غرفته عليه وهو نائم
بعد خمسة ايام بدأ الفأر يأكل مما يضعه له صابر
ادخل ذلك سرورا كبيرا على قلب صابر وهدأ وصار أكثر اعتدالا في عمله
وصار يتابعه كحيوان أليف حتي صار يقف أمام صابر في المطبخ ليتناول ما يضعه له
في علب التونه او الزبادي دون خوف
وصابر يتابعه وهو يأكل ممسكا بيديه الصغيرة قطعة الخبز مدورا اياها عدة مرات
وبفمه الصغيرة يأكل قطعة تلو الأخر بسرعة وبطريقة تدخل البهجة للقلب
انتهت مهمة العمل صابر يجمع اغراضه ... الفأ ر يقف على باب الغرفة يذهب ثم يعود
وكأنه متوترا متأثرا بالوداع ينظر صابر للفأر وهو يتأمل ويفكر في أن
اكثر الاشياء ازعاجا في العموم قد تكون هي عين الرحمة وسبب التسرية لمواقف خاصة وصعبة افترضت علي المرء
ولكن ... بشرط المرونة في التفكير ورحابة الصدر للوصول لأرض مشتركة.........
بقلم .... رضا الجمل