للمعلمين في شكر تلاميذهم، وتحفيزهم، والانبهار بالعبقري منهم، أساليب شتى.فلا يبهج المعلم ويسعده، ويشعره بالفخر، وحسن الأداء، وجودة القطاف، أكثر من أن يرى تلميذه: حسن الخط، جيد الفهم، حافظًا، فطنًا، نظيف الثياب، يستمع فيمتثل، ويسأل فيجيب، وعند الاختبار يحصل على الدرجات النهائية!المبدعون العباقرة قلة في الصف الواحد، بهذا تقول الطبيعة الإنسانية، يتعلمون، فيحسنون كل شيء، فسبحان مقسم المواهب والأرزاق.تجدهم في الصف الأول، تشع عيونهم ببريق الذكاء، يقرؤون كما يفعل معلمهم، ويجيدون الكتابة بكل تفاصيلها، وأركانها التي يحاول المعلم أن ينقلها إليهم، لذا كان على معلم الصف الأول أن يكون حسن الخط، جيد القراءة!كم سرني ذلك التلميذ، الذي أتقن كتابة «الراء» تمامًا كما أرسمها والياء متمايلة متثنية، كراقصة حسناء، تنزل عن السطر، ثم ترتفع لتستلقي عليه، فأجعل «الصح» إشارة من نهاية الصفحة إلى رأسها، ثم أرصعها بالنجوم، التي ارتسمت على كتفي، كعسكري مجيد، قبل أن أرسمها على الورق!وتجدهم في كل صف!وهم عزاء المعلم، وهم جائزته!إنهم يخففون عنه أوضار الغضب، ودقات الألم، عندما يطوف به طائف، أو يعتريه عارض، لإهمال مقصود، أو عجز لا حيلة له فيه، أو جهد يضيع دون فائدة، كأنه يحرث في بحر!قلت لمحدثي، ونحن في مدرسة، زاد تلاميذها على ثمانمئة طالب: لو أن هذه المدرسة فتحت، وجعلت فقط، للطالب «.....» لكان المجتمع رابحًا! لما فيه من خلق واجتهاد، وتحصيل، وخط جميل رائع، وإجابة في الاختبار، تفضلها أحيانًا على تلك الإجابة النموذجية التي يتخذها المصححون معيارًا!ما زلت أحتفظ بورقتين: إحداهما في «العلوم».. والأخرى في «الحساب» وهما بتاريخ 27/3/1392هـ، وقد مضى عليهما ثلاثون عامًا.وما زال بريق الإبداع يشع منهما، إنهما للطالب: حسن محمد صديق بمدرسة ضمد الابتدائية، من أعمال جازان، بالمملكة العربية السعودية، كان، ذلك الطالب، إذا استمع قولاً اتبع أحسنه، فتجد إجابته كاملة، بلغة سليمة، ومنطق أخاذ. عملياته الحسابية في الهامش أولاً، ثم يضعها في مكانها، وينهي جملته الحسابية بنقطة كما نبهته أول مرة، ولم أعدها عليه أخرى!وكل ذلك في وعاء من خط واضح، سليم المبنى، ناصع الزاوية استوفى حقه من ديكور الرسم الجميل!تشجيع المعلم لإنجاز تلاميذه يتخذ أشكالاً: فمنها إشارة الصواب الحمراء المعروفة، و«شكرًا لك» و«أحسنت يا بطل» أو .. «وفقك الله».. وقد يزيدها برسم نجمة أو اثنتين.وهذه «التأشيرات» أو «التوقيعات» تفعل في النفس فعل السحر، يقرؤها الطالب، فتراه مبتسمًا، يمر بها على زملائه، وقبل أن يضع ملابسه في البيت، تراه يدور بها على إخوته ووالديه، متفاخرًا بكل ذلك، متحمسًا لأداء واجباته، ولطلب المزيد من ذلك في غده!وأبقى في النفس: الجائزة، قلمًا أو كتابًا، أو حقيبة، أو حتى قطعة حلوى للصغار، فيبقى أثرها مع الزمن، وقد تبقى الجائزة محفوظة في مكان، تذكر بمرآها في كل حين، علامة على الامتياز والتجويد!أما أنا، فكان لي مع الشكر، يومًا، شأن آخر، غير ذلك كله!أخرجت في حصة الرياضيات طالبًا في الصف السادس، ليحل مسألة في الحساب، لكنه لم يفلح، كان ذلك في بداية عملي كمدرس.وقد كان شغبه الدائم في الصف، مدعاة لأن أشتط في إحراجه!فاستدعيت طالبًا ممتازًا ومتميزًا، يسبق سنه، لحل هذه المسألة. أفهمته المعطيات فحلها على عجل، فما كان مني إلا أن قبلته أمام التلاميذ، وربت على كتفه، وقلت للصف: صفقوا له، واختلط التصفيق بالأصوات المرتبعة، وتغامز الخبثاء من التلاميذ!استدعاني المدير، بعد أن شاعت الواقعة في المدرسة، وقال: ماذا فعلت؟ تظاهرت بالتجاهل.. نبهني أن العرف «هنا» يرى في قبلة الطالب خطأ يتصل بالشرف!!، قلت وأنا أتظاهر بالتقليل من ذلك رافضًا الإدانة، هذا سلوك أبوي!تابع حديثه يهزأ من منطقي «ألم تعلم أنه ابن المسؤول «.....» في إدارة التعليم، وأنه قد يفعل ويفعل، وانصرفت وقد بدأت كلماته تسري في كياني، وتنهش فكري وتعبث بهدوئي! ورددت في أعماقي: سهم .. وانطلق!!بعد يومين ونحن في طابور الصباح، أقبل رجل بالزي الرسمي، فمال عليَّ معلم بجانبي، وهمس في أذني «انظر إنه....»وأدركت من اسمه أنه والد التلميذ، صاحب الشأن!ناداني المدير، وعندما دخلت مكتبه، وقف الضيف في وجهي مادًا يده، وعلى شفتيه ابتسامة عريضة صادقة، سلمت عليه، وكأنه استشعر ما في نفسي من توجس، وقال:«اجلس .. هنا بقربي، وهو يمسك بيدي، أشكرك يا أستاذ على عنايتك بتلاميذك، وخصوصًا ولدك (ابنه) (.....) فإنه دائمًا يحدثني عنك، وعن درسك، وحصتك التي تمضي بسرعة وقد أخبرني عن استدعائك له قبل يومين، أفرحني ذلك، لأنك أظهرته على زملاء يسبقونه، وهو ما أشعره بالفخر، حتى إن كثيرًا من الآباء قد هنأني على ذلك»!شكرت الرجل من أعماقي وزال ما اعتراني من وحشة، وامتلأت بما أعطاني من الثقة، حتى كادت تصير خيلاء ونظرت إلى المدير نظرة عتاب، وإشفاق وانتصار..!بعد ثلاث سنوات من هذه الواقعة، توفي ذلك التلميذ العبقري، كأن الحياة لم تحتمل عبقريته الفذة، ومستقبله الباهر. وقد أذهل موته كل من عرفوه، وكان تأثير ذلك على والده شديدًا، شديدًا، وسبحان من بيده ملكوت كل شيء.
|