مشاعر كثيرة، مختلطة، وأحيانًا متضاربة، وبالاختصار مشاعر إنسانية شتى تنتاب كل من يكتب له الله - تعالى - سلوك سبيل تلك الرحلة الفريدة.. رحلة الحج التي قمت بها عام 2000م، بداءة تولدت عندي نية الحج في عام 1999م، أي قبل حجي بعام، وحين جاء موعد التقدم بطلب الرحلة ودفع تكاليفها المادية، وكنت أمر بظروف ضائقة تناقشت وزوجتي في توقيت الرحلة وظروفها وظروفي.
والمهم تقدمنا لبعثة حج كلية طب القصر العيني وحتى قبيل السفر بأسبوع لم يكن الأمر مضمونًا مائة بالمائة، ولم أكن مستعدًّا الاستعداد النفسي الذي أراه مهمًّا للاستفادة من الرحلة ربما للظروف الاقتصادية.. ربما لظروف العمل، لكن أيضًا لأنها كانت فترة بُعد عن الله، ومن منا لا تأتيه رحلة ورحلات وهو غير مستعد لها تمام الاستعداد.
المهم أن الرحلة جاءت، وفي مثل تلك الرحلات التي أذهب فيها إلى أماكن للمرة الأولى، أُصاب عادة بحالة من الهدوء المشوب بالدهشة، ولم أفارق تلك العادة الشعورية في تلك الرحلة، لكن الرحلة من مطار القاهرة إلى المدينة المنورة بالطائرة أضافت إليّ بعض المشاعر - بل والتساؤلات -، فلأول مرة أعلم أن بالمدينة مطارًا، ولأول مرة أركب خطوط الطيران السعودية وليس في ذلك غريب، لكن الغريب أن تكون رحلة الحجّاج إلى بلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على متن طائرة سعودية، وأن يضيف الحجاج فيها مضيفون ومضيفات أجانب، وأن يكون المضيفات لا تستر رؤوسهن إلا طُرح (لا تسمن ولا تغني من جوع)، ورحم الله نساءً يفرض عليهن الاتشاح بالسواد من قمة رؤوسهن إلى أخمص أقدامهن.
المهم أن الرحلة وصلت المدينة، وأننا وصلنا الفندق الذي أقمنا فيه والفجر يؤذن للصلاة، كل هذا ومشاعر الدهشة لا زالت موجودة بل وتتزايد، لكن مشاعر أخرى من السكينة تبدأ في التسرب إلى نفسي، تتزايد أيضًا مع دخول الساحة المحيطة بالمسجد وتزداد أكثر مع دخول المسجد ذاته.
مشاعر أخرى، أو قل أفكار أخرى تنتابك وأنت تتجول في شوارع المدينة، وفي هذا الموسم، موسم الحج، وبالأحرى الأيام المحيطة به.
في المدينة تتجلى - وفي هذا الموسم خاصة - التنويعات الثقافية التي تضمها أمتنا الإسلامية، والتي تتجلى مظاهره في تنوع اللغات كما تتجلى في تنوع الأزياء والأطعمة والمنتجات خاصة اليدوية منها، وقد أثار ذلك في ذهني تساؤلاً: لِمَ لا يصبح موسم الحج ما قبل وما بعد المناسك الفرضية أكبر مهرجان ثقافي واقتصادي إسلامي، "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات…".
بعد أن أمضينا أيامًا في المدينة توجهنا مباشرة إلى مكة، ليلة الوقوف بعرفة، وبدلاً من المبيت بمِنى، كان المبيت بعرفة طبقًا لبرنامج الرحلة، ومع المشاعر التي تنتابك وأنت في السيارة، وأنت تتوقع أنك داخل إلى عرفات الله، والتي تتوقع فيها مشاعر إيمانية وروحانية عالية، أصبت بالدهشة أيضًا.. ولكنها مشوبة بالإحباط، وربما بعض الغضب وأنا أدخل إلى المكان المُعدّ لإقامتنا، وهو المكان نفسه الذي ينزل فيه حجاج الشركات السياحية من مصر.
ومصدر تلك المشاعر هو مظاهر الأبّهة والفخامة المبالغ فيها بالمكان، سجاد سميك، وكراسي ذات شماسٍ تذكرك بتلك الموجودة في النوادي وعلى الشواطئ، وماكينات الآيس كريم، وكم المأكولات الفاخرة التي أنزلت إلينا، وهي كلها مظاهر تشعرك بأنك قد دخلت إلى مكان خطأ، فهذا ليس جبل عرفة، حيث مشاعر الفيوضات الربّانية والفتوحات الإيمانية تنساب إلى قلبك فتملأ عينيك بالدموع وجلدك بالقشعريرة.. لا إن هذا إلا "عرفة كلوب".
ومما زاد الطين بِلّة أن الناس قد تكوّمت في الخيمة المكيّفة تتجاذب أطراف الحديث العادي الهامس والعالي، ولا مكان لمن يبغي الهدوء والسكينة والعبادة لا مكان إلا خارج الخيمة، وقد اخترت ذلك حيث انزويت في إحدى الطرقات وحدي على السجادة السميكة، وتحت ظهر التكييف الذي يستمتع به الإخوة الحجاج.
وفي النهار مع شروق يوم عرفة ومرور ساعات يومه، البعض في قراءة القرآن والذكر والدعاء، والبعض يشغل نفسه أكثر من اللازم بتفاصيل المطعم والمشرب إدخالاً وإخراجًا، وتظل المآقي متحجرة وإن كانت القلوب تبغي فإن العيون تعصي، حتى يقترب اليوم من نهايته، وتحس برحمات الله تتنزل.. تخترق القلوب أكثر.
وتمضي المناسك من المزدلفة إلى طواف الإفاضة، يوم الحشر الأعظم على الأرض.. مشاعر مضطربة أيضًا، فمما لا شك فيه أن الزحام الذي يفوق الوصف والمصاحب بالتزاحم والتدافع، وما يصاحبه من اختلاط ورغبة الرجل منا في أن يحمي زوجته من ذلك، كلها مما يخرج الإنسان عن المشاعر الواجبة في تلك اللحظات التي تطوف فيها ببيت الله الحرام، والتي ترى فيها بيت الله وكعبته عيانًا؛ مما يسهم في مشاعر الذهول التي تلازمني.
ويعود الحجيج إلى منى ويذهبون من هناك لرمي الجمرات والعودة.. أيام ثلاثة تتلاقى فيها شعوب الأمم الإسلامية لتتعارف وتتآلف وتتبادل المنافع، البعض لا يدرك حكمتها فيقيم في أحياء مكة الفخمة، ويأتي للرمي ويعود إليها. الكثير هنا في مِنى يضيّع روح الحج في الجدال حول فرعيات فقهية، وفي هذا المكان الذي تتجمع فيه شعوب الأمم الإسلامية مرة أخرى يؤلمك عدوان الشرطة على صغار البائعين الذين جاءوا من بلاد الله؛ ليشهدوا منافع لهم كما أباح الله تعالى.
هذه هي أخلاط المشاعر والأحاسيس والأفكار التي جالت بعقلي وأنا في تلك الرحلة، سجّلتها كما هي.. شعثاء غبراء، عليها وَعَثاء السفر.. فعذرًا.