عندما رحبنا بالجامعات الخاصة كان الهدف إنشاء مؤسسات تربوية وتعليمية تحقق طموحات أبنائنا وبناتنا وتسهم في الإرتقاء بالعملية التعليمية والتخفيف عن كاهل الدولة لكي توجه بعض مواردها المحدودة لإنشاء مدارس ومعاهد وكليات جديدة لأبناء الفقراء ومحدودي الدخل..
لم يتطرق إلي ذهن أحد حتي الطلاب أنفسهم وأولياء أمورهم أن القيم التربوية والأخلاقية سوف تتلاشي رويداً رويدا في هذه الجامعات. وأن الأولاد سيتجرأون علي الأساتذة بكلمات وعبارات وسلوكيات لا يمكن أن يقرها أحد داخل الجامعات العامة أو الحكومية. وأن البنات سيدلعن الأساتذة بكلمات وعبارات وأوصاف ومشاعر لا يمكن أن يكون لها محل من الإعراب إلا في الملاهي الليلية وأوكار اللهو والعبث.
علي الباب الرئيسي لإحدي الجامعات الخاصة بمدينة 6 أكتوبر توقفت بسيارتي في انتظار صديق وفوجئت بطالبة ترتدي من الملابس ما يتناسب مع شواطيء البحر وحمامات السباحة تستوقف رجلاً محترماً أمام زملائها وزميلاتها وتقول له "إتأخرت ليه يا حبيبي"!! ولاحظت الشعور بالخجل علي وجه الرجل الذي لم يعلق بكلمة واحدة واكتفي بالنظر إليها ثم دخل إلي الجامعة.. وهنا عاتب الطالبة أحد المرافقين لها قائلاً : "تسببت في حرق دم الدكتور حرام عليك" فردت عليه بكل برود: "أنا دائماً بدلعه حتي في التليفون وهو مع زوجته وأولاده.. لا تشغلوا بالكم"!
ما يحدث داخل الجامعات الخاصة من تجاوزات سلوكية وأخلاقية يدق ناقوس الخطر ويجب أن يدفع أولياء الأمور إلي التفكير جيداً قبل إلحاق أبنائهم وبناتهم بهذه الجامعات. فلا قيمة لشهادة يحملها شاب أو فتاة ويفقد في مقابلها قيمه وأخلاقياته. ولا أهمية لعلم في غياب قيم وأخلاقيات فاضلة تربي عليها.
سألت أحد الطلاب الذين يدرسون في الجامعات الخاصة : ما حدود العلاقة بين الأستاذ والطالب في جامعتكم؟
رد علي ببلاهة : ماذا تقصد بالضبط؟!
قلت له : هل يستطيع الأستاذ طردك من قاعة المحاضرات لو صدر منك سلوك غير مناسب؟
قال : الأساتذة أصحابنا ونحن "نهذر" معاهم مثل زملائنا ومعنا تليفوناتهم ونتحدث معهم في كل وقت.. فلماذا يطرودوننا؟!
قلت له : في الجامعات الحكومية لا يتردد استاذ في طرد طالب غير ملتزم أخلاقيا ويتصرف بشكل غير مناسب أثناء المحاضرة وبعضهم لا يسمح بدخول طالب إلي المحاضرة بعد دخوله.
رد علي بكل برود: لا .. عندنا لا يحدث هذا...
الأساتذة يعرفون أننا ندفع لهم مرتباتهم الكبيرة فلماذا "يغلسون" علينا؟!
* * *
بعد أن شاهدت طالبة الجامعة الخاصة تحرج أستاذها بتدليعها له أمام الطلاب والطالبات.. واستمعت إلي طالب الجامعة الخاصة الذي روي لي كيف يتعامل مع أستاذه الذي يسهم في راتبه. تحسرت علي القيم والمباديء والأخلاقيات الفاضلة التي تلاشت من معظم مدارسنا وجامعاتنا الخاصة .. وتذكرت موقف الأستاذ "أبوحليمة" مدرس البلاغة في معهد دمنهور الأزهري الذي طلب مني وأنا شاب في المرحلة الثانوية تسلق شجرة "توت" في حوش المعهد لقطع "عصا" لكي يضربني بها أمام زملائي عقابا علي طول أظافري فأستجبت له فوراً وهبطت من الدور الثالث وتسلقت الشجرة وقطعت له منها ثلاثة أفرع لكي يختار ما يناسبه ليضربني به أمام زملائي في الفصل الدراسي.. وبعد هذا الموقف بأكثر من عشرين عاما تقابلت معه قدراً في مكة المكرمة فأسرعت إليه لتقبيل يديه أمام بعض أصدقائي إعترافاً بفضله علي وتقديراً لمكانة المعلم والمربي ورويت للمرافقين لي ما فعله معي بسبب طول أظافري دون خجل فعقب أحد الإخوة السعوديين الذي كان يعمل معي مدرساً للصحافة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة قائلا: هذا هو المعلم المصري الذي تعودنا منه أن "يعلم ويربي".
لقد تربينا علي احترام المعلم وتوقيره والاعتراف بفضله حتي ولو كان قاسياً. وحفظنا ونحن صغار ما أبدعه أمير الشعراء أحمد شوقي "قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون روسولا".. وما يحدث الآن بين كثير من التلاميذ وطلاب العلم في المدارس والجامعات الخاصة وأساتذتهم لا علاقة له بالعلم. ولا صلة له بالتربية. ولا يتفق من قريب أو بعيد مع قيم ومباديء وتعاليم ديننا.
* * *
لابد أن يعود الإنضباط الأخلاقي والسلوكي إلي مدارسنا وجامعاتنا الخاصة فهؤلاء الشباب الذين يتدربون علي الإنفلات والتجاوزات السلوكية داخل هذه المدارس والجامعات لا يمكن أن نعتمد عليهم في أي عمل بعد التخرج .. فالإنضباط الأخلاقي هو الباعث الأول علي العمل والإنتاج واحترام الآخرين والاعتراف بحقوقهم.
لابد أن يتخلي الأساتذة داخل الجامعات الخاصة عن الشعور بالحاجة إلي طلابهم وأن يعيدوا لأنفسهم هيبة الأستاذ وكرامة المعلم.
لابد أن تتخلي إدارات المدارس والجامعات الخاصة عن سلبياتها في التعامل مع التجاوزات السلوكية والأخلاقية للطلاب حتي تحافظ علي كيانها التربوي والعلمي.
لابد أن يدرك القائمون علي هذه المدارس والجامعات أنهم مربون ومعلمون قبل أن يكونوا "تجاراً"