عثمان تزغارت *
في الحرب المعلنة بين الحكومة الجزائرية وتلفزيون «الجزيرة»، على خلفية الاستفتاء المؤيّد لتفجيرات الجزائر (راجع «الأخبار» ـــــ 27/12/2007)، هناك واقعة لم تُسَلَّط عليها الأضواء من أيٍّ من صحف الترسانة الإعلامية الجزائرية التي تجنّدت كـ«وثبة رجل واحد» في معترك «صيد الساحرات» هذا ضد «الجزيرة»، تحت شعار الدفاع عن أخلاقيات المهنة. لن يجد القارئ الجزائري في صحف بلاده أيّ خبر أو تقرير عن هذه الواقعة، برغم أنها حدثت بحضور مندوبي تلك الصحف كافة، خلال اجتماع دعا إليه وزير التضامن الوطني الجزائري، جمال ولد عباس. كان الوزير قد أبلغ الصحف أن عائلات ضحايا تفجيرات 11 ديسمبر ستعلن خلال الاجتماع المذكور قرارها رفع دعوى قضائية على قناة «الجزيرة» أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. لكن لا أحد كلّف نفسه عناء إبلاغ عائلات الضحايا مسبقاً، بل وُجّهت لها الدعوة إلى ذلك الاجتماع على أساس التباحث في شأن التعويضات المالية التي تعتزم وزارة التضامن الوطني د?عها لضحايا التفجيرات والمتضرّرين منها.جثّة ملفوفة بالعلم الجزائري قرب المباني التي استهدفتها التفجيرات الانتحارية في العاصمة الشهر الماضي (أ ب)
صُعق ذوو الضحايا بأن الوزير الجزائري، الغيور جداً على مشاعرهم حيال الاستفزاز الذي سبّبه استفتاء «الجزيرة»، أباح لنفسه استفزازاً مماثلاً، حيث أراد وضع ممثلي عائلات الضحايا أمام الأمر الواقع، دون أي اتفاق أو ترتيب مسبق، متوقعاً منهم التصديق على مبادرته، أمام مندوبي الصحف وكاميرات التلفزيون، وب استدراجهم نحو فخ تبني مسألة رفع دعوى لاهاي، لإعطائها الصدقية بوصفها نابعة من ضحايا التفجيرات.
لكن الوزير فوجئ بنبرة مغايرة تماماً لما توقّعه، حيث تصدّت له عائلات الضحايا، وحدث اشتباك بالأيدي، وغادر بعض ممثلي الضحايا الاجتماع احتجاجاً. وقال ناطق باسمهم: إننا لا نفهم لماذا يُراد السكوت على القتلة، والتهجم على تلفزيون «الجزيرة». ما نريده هو القصاص من مرتكبي التفجيرات والمتواطئين معهم. وإذا كان لا بد من رفع دعوى في لاهاي، يجب أن نرفعها على الحكومة (الجزائرية)، بتهمة التواطؤ مع القتلة، فأحد الانتحاريَّيْن اللذين ارتكبا التفجيرات كان إرهابياً سابقاً في «الجيا» (الجماعة الإسلامية المسلحة)، وسلّم السلاح ضم? إجراءات المصالحة الوطنية، واستفاد من العفو الرئاسي بوصفه «إرهابياً تائباً»، لكن السلطات لم تتّخذ الاحتياطات الكفيلة بالحؤول دون عودته لاحقاً إلى الجبال بمواقف أكثر راديكالية، ليفجّر نفسه في عملية انتحارية!
قضية هذا الانتحاري ـــــ التائب سلّطت الضوء مجدّداً على مفارقات قانون المصالحة الجزائري، الذي تضمن عفواً شاملاً عن كل المتورطين في العنف السياسي خلال التسعينيات، سواء أكانوا أعضاء في الجماعات الإسلامية المسلّحة أم في أجهزة الأمن والاستخبارات. ورغم أن النص الأصلي لقانون المصالحة كان يشترط للاستفادة من العفو عدم التورط في أيّ جريمة قتل، إلا أنه لا أحد من الستة آلاف أصولي الذين سلّموا السلاح قُدّم للمحاكمة، حيث تكتفي السلطات باستمارة يُطلب من «الإرهابي التائب» تعبئتها، مُقسماً بـ«شرفه» إنه لم يتورط في «جرائم ?م»!
حتى إن نكتة شهيرة انتشرت في الجزائر، على خلفية ما يتكرّر دوماً على ألسنة «التائبين» من مقاتلي الجماعات الإسلامية، فكلما سُئل أحدهم ماذا كان يفعل في معاقل الجماعات في الجبال، أجاب بأنه كان مُكَلَّفاً فقط أعمال الطبخ والتنظيف، ما يوحي بأن الجبال لم تكن معاقل للعمل المسلح، بل كانت تضم مجموعة من المطاعم الفخمة التي كان المتطرّفون يتبارون فيها على فنون الطبخ لا القتل!
لم تكتف سياسة المصالحة، التي تنتهجها الحكومة الجزائرية، بمساواة القاتل بالقتيل، دون أي وازع أو ضابط قانوني أو أخلاقي، بل منحت القتلة ـــــ فضلاً عن إجراءات العفو التي تحميهم من أيّ متابعة قضائية ـــــ امتيازات شتى، فاستفادوا من تعويضات مالية مجزية، ووفّر لهم حرس حكومي رسمي لحمايتهم من «الأعمال الانتقامية»، وسُمح لهم علناً بتبييض ما جمعوه خلال سنوات الإرهاب من أموال نُهبت من ضحايا الإرهاب، وكانت الجماعات الإسلامية تراها «سبياً» حلالاً على «المجاهدين»...
حدث ذات مرة أن قامت الجمعيات النسائية بتظاهرة احتجاجية اشتكين خلالها من عمليات تعنيف يقوم بها «الإرهابيون التائبون»، في الأحياء التي يقطنون فيها، ضد النساء غير المحجبات، على مرأى ومسمع من حرسهم الحكومي الذي لا يحرك ساكناً. فماذا كان تعليق الرئيس بوتفليقة؟ قال في خطاب علني: على النساء أن يحتشمن مراعاة لمشاعر هؤلاء التائبين، لأنهم أشخاص متديّنون!
ربما كان الرئيس الجزائري معذوراً، فقد كان حين ألقى ذلك الخطاب، عام 2000، عائداً للتوّ من منفاه المخملي الخليجي لتولّي الحكم في الجزائر. لذا كان سهلاً عليه ـــــ هو الذي قضى سنوات الإرهاب بعيداً عن البلاد ـــــ أن يتجاهل أن «الإرهابيين التائبين» الذين كان يتحدث عنهم ليسوا متديّنين أتقياء، بل هم قتلة ارتكبوا أبشع الجرائم والمجازر، ولم يراعوا مشاعر أحد حين قاموا بقتل أكثر من مئتي ألف جزائري!
وإذا كانت للرئيس بوتفليقة «ظروف مخفّفة»، كما يُقال في الاصطلاح القانوني، فما عُذر رئيس الحكومة الحالي عبد العزيز بلخادم، وقد عايش عن قرب جحيم سنوات الإرهاب في الجزائر؟
في مطلع الخريف الماضي، تعرّض أحد أشهر «الإرهابيين التائبين»، وهو مصطفى قرطالي، «الأمير» السابق لـ«كتيبة الأربعاء» الدموية، لمحاولة اغتيال فاشلة، فلم يتردّد رئيس الحكومة في زيارته رسمياً في المستشفى، حاملاً باقة من الورد!
وهو رئيس الحكومة ذاته، الذي يريد رفع دعوى على تلفزيون «الجزيرة» في محكمة العدل الدولية في لاهاي، بتهمة التواطؤ مع الإرهاب وصدم مشاعر الضحايا، لمجرد أنها طرحت للاستفتاء على موقعها الإلكتروني سؤالاً مفاده: «هل تؤيد هجمات «القاعدة» في الجزائر؟». فبرغم أن هذا السؤال لا يخلو من الاستفزاز وقلة الذوق، إلا أنه لا يمثِّل جُرماً أخطر من الجُرم الأخلاقي لرئيس حكومة يقدّم باقة ورد لـ«أمير» إرهابي سابق، دون أن يفكّر ـــــ ولو للحظة ـــــ في مشاعر عائلات ضحايا الإرهاب. ليس القصد هنا الدفاع عن «الجزيرة». لكن غالبية من دخلوا أطرافاً في الجدل الذي أثاره استفتاؤها الاستفزازي، تجاهلوا الداهية الأكبر المتمثلة في نتيجة ذلك الاستفتاء، الذي شمل نحو 30 ألف شخص، حيث تبيّن أن 54,7 بالمئة يؤيدون تفجيرات «القاعدة» في الجزائر. ولا شك أنه لو طُرح سؤال مماثل عن المجازر في العراق، لكانت إجابة الغالبية بالتأييد.
ألا يجدر بنا التساؤل عن الأسباب التي جعلت غالبية هذه الأمة العربية المباركة تميل نحو تأييد العنف في أشكاله الأكثر عبثية ودموية؟ هل يرجع ذلك إلى ما تتسم به «ثقافة الفضائيات» من شطط وظلامية؟ أم أن قمع الحكومات العربية وتسلطها وفسادها هي أصل المشكلة؟
مهما يكن الجواب، فإن هذا الأمر من الخطورة بحيث يمثِّل، بلا شك، مبرّراً كافياً لطرح السؤال، رغم طابعه الصادم والاستفزازي؟
* كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس
المصدر :http://www.al-akhbar.com/ar/node/59258