لأنه طيب القلب ولا يعرف الكره للناس أبدا أطلق عليه أهل قريتنا قرية(الزينية بحرى)بصعيد مصر اسم (بشير النعيجة ). لا يحمل ذرة كره او حقد لاى انسان فى قريتنا كلها . لا يغضب من أحد ولايثور على أحد . لا يقول كلمة(لا)لاحد متى طلب منه احدهم يد المساعدة والعون . أما(النعيجة)فهى تصغير أو تدليل (للنعجة) أنثى الضأن وهى من الحيوانات الأليفة جدا والتى يرمز بها أهل قريتنا للمرأة فى طيبتها وحيائها وعطائها . اذا مر(عم بشير النعيجة) على صبيان(قريتنا) تراهم جميعا يجرون خلفه وهم يصيحون ويضحكون ويطرحون عليه سؤالا أبديا كلما وجدوه ...يابشير أربعة وأربعة كام ؟يابشير ...أربعة وأربعة كام؟...وهكذا يرددون عليه هذا السؤال الابدى ويضحكون قبل أن يرد عليهم عم (بشير النعيجة)بالجواب. أما لماذا أختار أهل قريتنا العدد(أربعة وأربعة )بالذات فيفسر لك فلاسفةأهل قريتنا.(أهل الحكم والمواعظ ..أهل النكت والطرائف) قائلين:لأن العدد (أربعة وأربعة)فيه صعوبة فى النطق عند عم (بشير النعيجة)وخاصة فى حرف (الراء)فهو لا يجيد نطق هذا الحرف . أما مجموعهما (الخطأ)فهو اللغزالأصعب فى علم الأرقام عند عم( بشيرالنعيجة) وفى عالمه الفطرى الخالى من جميع الارقام .وهى-ايضا- صعبة النطق عنده فيقول للصبية بعد الحاح شديد (ابعة وابعة ...ابعة)..فيهلل الصبية وحتى الكبار ضاحكين ..جدع يابشير...بطل يابشير... شاطر يابشير . عم(بشير النعيجة) أسمر بلون ارض قريتنا السمراء . ربما اكتسب هذا اللون من ديمومة عمله فى الارض فصار هو والأرض بلون واحد وعطاء واحد هو الخير لجميع الناس . عم( بشير النعيجة) ذو لحية بيضاء لم يمر عليها مقص (المزين ) منذ ولادته. لايعرف الحزن ابدا ولا الحزن يعرف باب قلبه ...ضحوك الوجه ... الصمت حكمته ..والعمل فى شق الارض وزراعتها وحرثها وحصادها..عبادته . فى الصباح الباكر- صيفا وشتاء- .يخرج عم( بشيرالنعيجة) من بيته الذى يوجد( بالشق) القبلى لقريتنا (الزينية بحرى)بصعيد مصر. يخرج حاملا (طورية )تشبه(الفأس) على كتفه معلقا عليها مقطافا ثم يتجه ناحية (الحرجة) حيث اما الحرث او (العزق) او (رى) الارض او( الحصاد )وفى جميع الاحوال لابد من (الطورية) والمقطاف على كتفه فهما (سلاحه )الابدى سلاح النماء والعطاء سلاح الخيروالرخاء لجميع اهل قريتنا . فى المساء ومع عودة الطيور الى اعشاشها والبهائم الى حظائرها يعود عم (بشيرالنعيجة) الى بيته وكأنه طائر عاد لينام فى عشه وهو لا يعرف عن (الزمن )شيئا وهذا هو سر سعادته الدائمة فى الحياة ...امس واليوم وغدا لا وجودلهم فى عقله لذا فان (اربعة واربعة)من حسابات الزمن لا معنى لها عند عم (بشير النعيجة). ..حياته هى يومه الذى يعيشه فى العمل وبين البشر. مابين الصباح والمساء يكون عم ( بشيرالنعيجة) قد غازل الارض وغازلته حتى تستجيب له بعد مدة وتنتج المحاصيل والثمار فى نهاية الموسم وكأنها (قبلة)على جبينه من حبيبته أرض قريتنا . من عرق وجهد (عم بشير النعيجة) تأكل الطيور والحيوانات وكذلك جميع اهل قريتنا أما أصحاب الارض فيأكلون ويكنزون ما حصده لهم (عم بشير النعيجة). عم (بشير النعيجة) لا يعرف( الراديو) ولا اخباره ولا اغانيه ولا يعرف الساعة ومواعيدها من دقائق وثوانى فهو خارج الزمن وخارج فنون الحياة الشكلية. أخباره هى ارضه ..واغانيه هى ابتسامته المرسومة على وجهه اما الوقت عنده فهو زرعه وحصاده فى صباحه ومساؤه وليله ونهاره ونومه ويقظته . عم (بشير النعيجة)لم يذق لحم الضأن ولا لحم البقر او الجاموس ولا حتى لحوم الطيور وهو الذى حرث لهذه المخلوقات الارض وسقى لها النبات حتى جادت عليها وعلى أصحابها من ابناء قريتنا بالخير الوفير . عم( بشيرالنعيجة) يرعى (للغير) اغنامهم وابقارهم وجاموسهم ولا يعرف طعم لحومها ولا دفء صوفها ولا مذاق البانها. كان يمشى منحنيا على الارض بشدةكأنه عاشق ينظر فى وجه محبوبته. نعم هى (الارض) امه وأخته وحبيبته وهو(بشير) ابنها وشقيقها وحبيبها .كان يمشى ورأسه تنظر الى الارض كأنه يبحث عن شىء ثمين فيها .نعم انه يبحث عن كنوز الارض من خيراتها بعد حرثها وريها . رحل عم ( بشيرالنعيجة) فى صمت كما عاش فى صمت .رحل الرجل الذى لم يعرف (اربعة واربعة) تساوى كم فى عالمنا عالم الاعداد والارقام ؟ رحل الرجل الذى لم يعرف لغة الاعداد والارقام . رحل الرجل الذى لم يعرف عن المال شيئا . رحل الرجل الذى لم يعرف طعم اللحوم ولا مذاق الفواكه والثمار. الخبز والماء هما طعامه وشرابه وأجره من اصحاب الارض . عاش عم (بشير النعيجة) فى عالمه الخاص عالم الحب والسعادةوالوفاء.عم (بشيرالنعيجة)جهد بلا مقابل وعطاء بلا ثمن. عالمه عالم السعادة فى العمل بهمة واخلاص ....عالم بلا حساب وارقام ..بلا تاريخ واحداث ..عالمه خارج عالم قريتنا هذاالعالم الملىء بالصراعات والخلافات والذى ينغصه الكره والحقدالدفين بين البيوت والعائلات...أما هو فجميع اهل البلد أهله وعائلته .فى عالم عم (بشير النعيجة) تسقط حسابات اللون والجنس والعقيدة وتسقط الارقام وحروفها المتمثلة فى (ابعة..وابعة). عم (بشير النعيجة)عاش ومات لا يعرف ما نعرفه من حسابات للزمن ولغة للارقام فماذا تفيده هذه الارقام وتلك الحسابات .لذا كانت (اربعة واربعة) لا تعنى شيئا فى عالمه الجميل عالم (بشير). تلك هى حكاية عم (بشيرالنعيجة).. ابن قريتنا الذى لم أعرف للان هل كان من خيار الانس... أم من خيار الجان...ترى هل كان ملاكا فى صورة انسان ؟أم انسان فى صورة ملاك ؟ فوق نخيل بلدنا ...وفوق الاشجار ...وعلى الحيطان ...ينادى الغراب قائلاقاق...قاق...قاق)...يتفائل اهل(قريتنا)(بصوت (الغراب) ويرددون خلف صوته قائلين خير بشير ...خير بشير) ينتظرون بذلك رسائل قادمة من الاحباب تحمل لهم الاخبار السارة والبشرى السعيدة لكل من سمع هذا النداء. أما أنا فأقول (خير بشير ...خير بشير)واتذكر عم( بشيرالنعيجة) وأيام زمنه الجميل فأبكى وأقول: رحم الله عم (بشير النعيجة.).. ورحم تلك الايام الجميلة... يوم أن كان الانسان انسانا بلا هموم . ------------------ محمداحمدخليل حسب الله . الشربينى الاقصرى. مصر/الاقصر. الكرنك القديم نجع التماسيح. حقوق الطبع والنشرمحفوظة للمؤلف |