ما أشبه الحب بالسياسة.. في عالم السياسة ليس ثمة صديق دائم.. وليس ثمة عدو دائم. كذلك في عالم الحب..ليس ثمة حبيب دائم..وكذلك ليس ثمة عدو دائم. حبيب اليوم قد يصبح غداً عدواً.. وغريب الأمس قد يصبح اليوم خِلّاً وحبيباً. في عالم الحب تتقلب القلوب..وبناء على هذا التقلب تتقلب المشاعر والأحاسيس..وبناء على هذا التقلب يحدث الهجر.. وتحصل القطيعة. يهجر الحِبُ حِبَّه..ويبدل حبه كراهية. يترك الصديقُ صديقَه.. ويخون الخِلُّ خليلَه.. ويلقاه بعد المودة بالجفا. وبناء على هذه القطيعة وهذا الهجر تحدث ردة الفعل. وردة الفعل هذه – في تقديري- تبلورت وتأطرت في ما يمكن أن نطلق عليه "مدارس ومذاهب التعامل مع هجر الحبيب"، أو يمكن أن نسميه أيضاً "فن التعامل مع هجر الحبيب".
في تقديري برزت مدرستان تؤطّران للتعامل مع خيانة وهجر الحبيب. المدرسة الأولى هي التي يمكن أن نسميها "المدرسة العفْوية"، أو "مدرسة إقالة العثرة"، وتتسم ملامحها بسمات العفو والصفح وإقالة العثرة والتماس العذر وعدم الرغبة في الانتقام بسبب القطيعة أو الهجران أو الخيانة. بل في اعتقادي أن هذه المدرسة ذهبت إلى أبعد من ذلك، وتجاوزت مرحلة الغفران والعفو، ووصلت – بسبب الإفراط في الحب - إلى منزلة التلذذ بالتعذيب المعنوي الذي يمارسه الطرف الآخر، أو ما يمكن أن يسمى بالماسوشية المعنوية.
أما رائد وزعيم هذه المدرسة وهذا المذهب هو – بلا منازع – قيس بن الملوح.. أو مجنون ليلى. فبسبب إفراطه في حب ليلى، صار ينظر اليها بعين الرضا - المطلق- التي هي عن كل عيب كليلة، لذلك التمس لها كل عذر، وغفر لها كل ذنب، وأقال لها كل عثرة.. في البدء كان المجنون يسيطر على مشاعره ويتحكم في حبه لليلى، ولكن بسبب تقلب القلوب ما بين نقض للعهود وتصريم الحبال تارة، وبين الإبرام والوصال تارة أخرى، تمكن منه حبها وعلاه وسيطر عليه.. يقول قيس:
وقد كنت أعلو حب ليلى فلم يزل.. بي النقض والإبرام حتى علانيا
بعد هذا العلو وهذه السيطرة، استسلم قيس، وصار يغفر لها كل تقصير، ويبحث لها عن المبررات والمسوغات.. وتدرج قيس في مراحل الصفح وإقالة العثرة هذه، حتى وصل إلى أعلى مراحله، وهي مرحلة الماسوشية!! لذلك صار قيس جديراً بأن يكون زعيما لمدرسة "العفو وإقالة العثرة" في الحب.
بدأت المرحلة الأولى من التماس العذر بإقرار قيس بأنه لن يتخلى عن ليلى، سواء كانت ضنينة بحبها أم باذلة به له، سواء أكثرت في حبها له أم أقلّت، يقول:
سَرَت في سواد القلب حتى إذا انتهى.. بها السير وارتادت حمى القلب حلّتِ
فللعين تهمال إذا القلب ملّها ........... وللقلب وسواس إذا العين ملّتِ
فوالله ما في القلب شيء من الهوى.....لأخرى سواها، أكثرتْ أم أقلّتِ
تدرّج مجنون ليلى قليلاً في المرحلة الثانية من مراحل عفوه لليلى ، وذكر بأنه ليس متمسكاً بها فحسب، في حالة ضنّها بالنوال، بل أيضاً يعفو عنها بكل رحابة صدر، يقول:
فقلت ولم أملك سوابق عبرةٍ...سريعٍ إلى جيبِ القميص انهمالها
عفا الله عنها ذنبها وأقالها...... وإن كان في الدنيا قليلاً نوالها
في المرحلة الثالثة من مراحل العفو ارتقى قيس قليلاً، وذكر بأنه ليس فقط يغفر لليلى هجرانها له وإعراضها عنه، وضنها بالنوال، بل يتمنى حتى إعراضها وقولها بأنه همّ بهجرها، مع أنها هي التي همت بهجره، يقول:
وقد زعمت أنّي سأبغي إذا نأت.. بها بدلاً يا بئس ما بيَ ظنّتِ
وما أنصَفَتْ أمّا النساءَ فبغّضتْ...... إليّ وأما بالنوال فضنّتِ
فيا حبذا إعراضُ ليلى وقولُها..هممتَ بهجرٍ وهي بالهجر همّتِ
في المرحلة الرابعة من مراحل العفو، وصل قيس مرحلة متقدمة، وذكر بأنه يقيل عثرتها ويغفر لها كل شيء اقترفته في حقه، حتى وإن شتمته وانتقصت من قدره.. يقول:
حلال لليلى شتمنا وانتقاصنا.. هنيئاً ومغفور لليلى ذنوبها
وفي هذه المرحلة أيضاً يقول قيس بأنه يعفو عن ليلى، ولا يشتكي لها ولا يعاتبها، حتى وإن سفكت دمه.. يقول:
عفا الله عن ليلى وإن سفكت دمي.. فإني وإن لم تحزني غيرُ عاتبِ
عليها ولا مُبدٍ لليلى شكايةً.. وقد يشتكي المُشكى إلى كلِّ صاحبِ
وهذه الأبيات تذكرنا ببيت أمير الشعراء احمد شوقي عندما تغزّل في محبوبته وقال:
ريم على القاع بين البان والعلم.. أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم
في المرحلة الخامسة والأخيرة من مراحل العفو، وصل قيس درجة رفيعة في التسامح، هي في الحقيقة أسمى مرحلة من مراحل الصفح، وأعلى درجة من درجات العفو، ألا وهي مرحلة الماسوشية، وهي المرحلة التي أعلن فيها قيس بأنه ليس فقط يغفر لليلى ذنوبها ويقيل عثراتها التي ارتكبتها في حقه، كما ذكر في اعترافاته السابقة، بل أيضاً أقر واعترف بأنه يتلذذ ويستمتع بتعذيبها له.. يقول قيس:
فلو كان لي قلبان عشت بواحدٍ.. وأفردت قلباً في هواك يعذّب
ويقول أيضاً في موضع آخر:
يقولون ليلى عذبتك بحبها.. ألا حبذا ذاك الحبيب المعذب.
بهذه الدرجة الرفيعة وغير المسبوقة من التسامح والعفو وغض الطرف عن أخطاء وتقصير المحبين في حق من يحبون، استحق قيس بجدارة وامتياز أن يكون زعيم "المدرسة العفوية" بلا منازع أو منافس.. في الجزء الثالث والأخير من هذا الموضوع سنتناول مدرسة أخرى، يقف زعيمها على طرفي نقيض مع قيس، فلسفتها مغايرة تماماً لفلسفة "المدرسة العفوية"، ألا وهي " مدرسة القصاص" أو "المذهب الثأري".
تسعدني متابعتكم للجزء الثالث والأخير من هذا الموضوع.. فابقوا معنا.
الكاتب الصحفي / انور عبد المتعال