امـــرأة وحيدة
داخل غرفة متسعة مظلمة يسكن جدرانها العنكبوت .. و التي انهمك أكبرهم في التهام آخر جزء من فريسته الأخيرة الذي تدلى من فكه –كف طفل وليد- بينما ينسج بهمة و نشاط خيوطه حول قفص حديدي صدئ تجلس داخلة عارية تماما.. امرأة بشعرها الأسود الطويل كأنه الليل أحاط وجه القمر.. امرأة من ذلك النوع الذي تمنحك نظرة واحدة إلى عيونها السوداويين نافذة إلى السماء بل إلى.. الجنة. كان قدرها أن تكون بهذا القفص لسنين طوال.. لا تعرف من الدنيا .. من العالم .. من الكون سواه.
كانت البداية حين أخذها أبواها وهربوا مع المنبوذين المطاردين من الأيادي السوداء و سيوفهم اللامعة في ظلمة الليل الذي عاشوا فيه أبدا. هربوا من أمل الموت عذابا إلى أمل الموت السريع الذي لم يكن يقبل به لهم أصحاب الأيادي السوداء. ولكن هذه المرة عندما استشعروا انفلات زمام أمر المنبوذين من أيديهم قرروا منحهم عفوا استثنائيا. و كان نتيجته صراخ الطفلة الوليدة بين أحضان جسد أمها بينما تتدحرج على بعد خطوات منهما رأسها الذي حمل ملامح فزع . التقطت بعدها يد سوداء الطفلة و انطلقت بينما دوى صوت صراخها بين جنبات السماء.
كانت مأساتها أنها لم تمت .. لم يكن مسموح لها بالموت .. كان مسموحا لها فقط بالحزن .. و الأهم البكاء . فقد اكتشفوا أنه بدلا من الدموع كانت تبكي ماسا يبيعونه . و كلما جاء أحدهم و منحها مقابل عطاءها الغريب شيئا تفرح به قتلوه. ففرحها كان يعني ألا تحزن.. ألا تبكي .. ألا تمنحهم جواهرهم الثمينة . ومن يومها وهي في هذا القفص .. بائسة عارية .. منكمشة في نفسها .
بين الحين والآخر يمنحونها بعد جدال حاد بينهم .. بعض الماء لتستحم أو طعاما نظيفا لا يؤلم حلقها . أو تلك المرة التي منحوها في أحشائها .. شيئا غريبا لم تعرف هويته. لقد كانت بذرة طفل من رجل فتنه جمالها.. لم يجرؤ على الاقتراب منها إلا بعد أن أقنع مجلس الأيادي السوداء بزيادة كنوزهم لو حملت بأطفال مثلها يبكون ماسا . في هذه الليلة تركوها له .. له وحده.. اقترب منها .. وقفت أمامه حزينة تبكي.. خلع قفازة الأسود كي يلتقط من فوق وجنتها نقطة من دموعها تحولت في ثوان إلى قطعة ماس .. سرعان ما ألقاها بعيدا .. و بهدوء تام احتضنها في حب و شوق مغمضا عينية يعتصر الدمع.
لم تعرف ما حدث .. فقط تركته يحدث . و انجبت طفلا صغيرا مثلها يبكي ماسا . ولكن لم تعد هي تبكي .. فما عادت حزينة بعد أن جاء من يؤنس وحدتها . لم تكن تعرف ما هو ولكنها كانت تعرف شيئا واحدا أنه يمنحها إحساسا غريبا غير الحزن وهي تحتضنه .. وهو يرضع من ثدييها .. وهو يبتسم .. ويلمس بيده الصغيرة ملامح وجهها .. كل لمسه منه كانت أملا . ولكن الأمل ذهب .. حين فتح القفص و جذبوه من بين يديها و صفعوها حين قاومت فسقطت حزينة. بينما أخذه احدهم لقفص آخر.
طمع كل صاحب يد سوداء في طفل خاص به فاقترعوا على فيهم. واختاروه وفرحت حين تذكرت أول من جاءها .. ظنت انه هو .. ظنت أنه سيحتضنها و يمنحها لحظات سعادة.. و لكنه . دفعها إلى الأرض و اعتصر جسدها حتى أدمت. وظلت هكذا لسنوات طوال يفتح القفص مرتين .
ألمها الصامت كان من القوة حتى أنه شعر به . ذلك العنكبوت الرابض أمام بابها يحرسها منذ صغرها .. ولد معها .. وكبر معها .. وربما .. يموت معها . شعر به حتى انه جن جنونه وأخذ يأكل في قضبان القفص الحديدية في وحشية وغضب شديد .. راغبا في الدخول إليها كي يفصل جسدها عن عنقها و يخلصها و يخلص نفسه من هذا الألم الفظيع. حاول بكل الطرق ومن كافة الأركان و لكن كلما قضم أحد القضبان يضع ذوى الأيادي السوداء آخر بدلا منه أقوى و أشد.
وفجأة توقف كل شئ .. محاولتها الابتسام.. محاولتها الخروج أو الكلام.. أو الهمس. لم تعد تلد .. لم تعد تبكي وتمنحهم ماسا .. حتى نبض قلبها .. توقف .. ولكنها .. لكنها ما زالت حية .
علم أنها تحتاج إلى شئ جديد .. إلى هواء آخر تتنسمه .. فغافلهم ذلك الذي أقنعهم أول مرة بأن يمنحها بذرته . وتسلل إليها وقيد العنكبوت . فقامت و أمسكت بيده السوداء التي خلع قفازها و أشبك يده بيدها .. وقبل أناملها في رقة .. ووضع فيها المفتاح وأسرع مبتعدا في صمت تام.
قامت تمشي على مهل .. لا تعرف ماذا يجب عليها أن تفعل.. فقط تمشي و تفتح باب القفص و تخرج منه إلى باب آخر وقفت أمامه طويلا.. وما لبثت أن مدت يدها فجأة تفتحه لتستقبل هجوم ريح هزت جسدها العاري و حملت شعرها الطويل كأنه بساط من حرير. وقفت ثابتة تواجه مجهول لم تكن تعرف بوجوده من قبل.
مر زمن .. تحركت أخيرا بعده خطوة .. للخلف .. لتعود بخطوات آلية إلى قفصها تتخطى هيكل العنكبوت الذي تحلل .. و تدخل مغلقة خلفها باب القفص الذي تآكلت قضبانه الحديدية .. و تجلس على الأرض . لتأتي يد سوداء تمسك بقضبان الباب .. فتقوم من مكانها في هدوء تام و تضع فيها المفتاح . ليغلق الباب بينما تجلس هي على الأرض تنكمش في نفسها .. و لا يبقى في المكان سوى صوت حذاء صاحب اليد المبتعد .. و الماس المتساقط بغزارة الذي غمر سجنها وغاص فيه جسدها ولم يعد يظهر منها سوى شفتيها اللتين همستا لأول مرة..
بكلمات.
من المجموعة القصصية وقالها في صمت