هؤلاء من الشعب المصرى الذين لا يفهمون جيدا، فيسمحون لأنفسهم بأن يغضبوا سريعاً من تصريحات وزير المالية، يوسف بطرس غالى، عليهم أن يتقوا الله فى رجل لا يستطيع أحد أن يشكك فى وطنيته وفى مهنيته وفى إتقانه لآداب اللغة والذوق العام. فأولاً، اصطاد الرجل بكل مهارة تعبيراً مصرياً خالصاً هو «أطلّع دين اللى خلفوه» وهو ما ينم عن حس وطنى يشجع الصناعة المحلية أمام هؤلاء الذين يستوردون تعبيرات أفرنجية.
وثانياً، ينم هذا الاختيار لهذا التعبير بهذه عن شجاعة نادرة ومحمودة، لأنه لم يحاول، كما يفعل بعض الجبناء، أن يختبئ وراء اللغة فيقول مثلاً إنه سوف يطلّع «ديك« اللى خلفوه. وثالثاً، أنه كان رحيماً متفهماً لأعباء الجيل الحالى من المصريين فتركهم وشأنهم وركز، فى لفتة تستحق التقدير، على تطليع دين «اللى خلفوهم».
وبالعودة إلى معجم «مختار الصحاح» لإجراء تحليل مضمون للعناصر المكونة لهذا التعبير العبقرى، سنكتشف أننا نظلم الرجل ظلماً بيناً حين يسمح البعض منا لنفسه بأن يعتقد أنه قل أدبه على أحد، بل على العكس من ذلك تماماً، يشير، أولاً، الجذر اللغوى للفعل العربى «طلع» إلى خير كثير، فأنت تقول «طلعت» الشمس فأنارت العقار الذى سيشاركنى فيه قريباً وزير المالية. وتقول «طلْع» النخلة أى بلحها الذى نصنع منه عجوة. ثم إن أجرومية الفعل نفسه أجرومية إيجابية لا سلبية، فرغبتك الدفينة فى تطليع الشىء يعنى أن الشىء يوجد فى أسفل وأنت تريد أن تشده إلى أعلى، وهو ما يستحق الوزير عليه شكراً لا توبيخاً، فقد كان بإمكانه مثلاً أن يقول «أنزل دين اللى خلفوه» من مكان ما فى جسم الإنسان، أو حتى «أدمر دين اللى خلفوه» حيث يقبع فى مكانه.
وثانياً، لا يشير السيد «مختار الصحاح»، لا من قريب ولا من بعيد، إلى أى ارتباط للجذر اللغوى «دين» بالعقيدة. بل إنه يشير إلى «ديْن» بفتح الدال فتقول إن فلاناً «مدين» وأن مصر «مديونة»، ومن هذا المنطلق نكون قد تسرعنا فى الحكم على الرجل الذى ربما كان يقصد أنه يريد أن «يطلّع ديْن اللى خلفوه« كى تقوم وزارة المالية بسداده عنه من ضريبة العقارات. أما «دِين» بكسر الدال فمعناه وفقاً للصحاح العادة أو الشأن: دانه يدينه دِيناً (بكسر الدال) أى أذله واستعبده، وإن كان هذا المعنى على ما نظن أبعد ما يكون عن نية الوزير. وفى الحديث الشريف أن «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت»، وهو حديث يستفيد منه عادةً «الكَيّس» بفتح الكاف أكثر من «الكِيس» بكسر الكاف.
وثالثاً، يشير الصحاح إلى أن «الخَلْف«، بفتح الخاء وتسكين اللام، هو الردىء من القول، وليس الردىء جداً أو «الواطى» كما يمكن أن يعتقد «معالى» الوزير، فقد كانت الأعراب تقول: «سكت ألفاً ونطق خلفاً» أى سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطأ وفقاً للمعجم. وأيضاً وفقاً للمعجم فإن «الخُلْف»، بضم الخاء وتسكين اللام، هو اسم مشتق من «الإخلاف» وهو فى المستقبل كالكذب فى الماضى. وربما أن «خلفوه» بهذا المعنى تشير إلى أنهم جعلوه «متخلفاً».
تثبت لنا إذن، بالنظر إلى ما تقدم من معطيات ومن حجج وأسانيد، براءة السيد وزير المالية من ظن السوء، ويستحق منا اعتذاراً عما ظنه به بعض السفهاء منا، مثلما يصير من حقنا نحن أيضاً أن نرد له الجميل بأن «نطلّع دين اللى خلفوه».
مقاله منقوله من جريده اليوم السابع للكاتب يسرى فوده