سؤال سينمائي متكرر يطرح نفسه أمام المهتمين بالسينما العربية ونقادها، وفحوى هذا السؤال يدور حول ذلك الغياب الواضح للكثير من المخرجين، ممن لهم القدرة على العطاء، ونقصد بذلك ذلك الكم من المخرجين فى السينما المصرية الذين توقفوا عن العمل تقريبا، إلا من أفلام قليلة تفرض نفسها هنا وهناك وهو ما أبرزته السنوات الأخيرة على وجه التحديد.
لا نقصد بذلك الجيل القديم أو جيل الوسط بحسب معايير تاريخ السينما في مصر، فأكثرهؤلاء قد رحلوا وقد تركوا وراءهم الكثير من الأفلام، رغم أن بعضهم قد توقف لسنوات طويلة كما حدث للمخرج كمال الشيخ وأيضا المخرج توفيق صالح الذي لم يستطع أن يستمر في تقديم الأفلام واكتفى بالقليل منها.
* جيل جديد
إن المقصود بهذا السؤال ذلك الجيل السينمائي المعروف بجيل الثمانينات الذي أفرز ما يمكن تسميته بتيار الواقعية الجديدة في مصر، من أمثال محمد خان وعلى بدر خان ومحمد راضي وخيري بشارة وداوود عبد السيد، وربما نضيف إليهم علي عبد الخالق ورأفت الميهي، وكل هؤلاء يسهمون حاليا بإنتاج محتشم، وربما كان أغزرهم المخرج محمد خان الذي حاول أن يتواجد مرة كل عام أو عامين.
من هؤلاء المخرجين داوود عبد السيد، والذي تميز بحضور قويّ، رغم قلة عدد الأفلام التي أخرجها نسبيا، ولا شك أن كل مهتم بالسينما يدرك أهمية هذا المخرج من خلال الأفلام التى قدمها مثل: "الصعاليك" و"البحث عن سيد مرزوق" و"أرض الأحلام" و"سارق الفرح" و"الكيت كات" و"أرض الخوف" و"مواطن ومخبر وحرامي".
لقد اختلفت تلك الأفلام عبد بعضها، حتى أنه من الجائز القول بأن كل فيلم يعبّر عن صورة مختلفة للمخرج، وعلى سبيل المثال سوف نجد فيلما مثل" الكيت كات" لا يكاد يتشابه مع فيلم "البحث عن سيد مرزوق" و"فيلم أرض الخوف" يختلف تماما عن" مواطن ومخبر وحرامي"، وهكذا تسير الدائرة وتتسع ولا تطبق، وهذا ما ساعد بكل تأكيد على تلوين لوحة الإخراج السينمائي، مع العلم بأن كل الأفلام المذكورة كانت من كتابة المخرج باعتباره كاتبا للسيناريو، حتى في حال الاعتماد على نص أدبي كما في "الكيت الكات" و"سارق الفرح".
بعد أكثر من سبع سنوات من التوقف، يقدّم المخرج داوود عبد السيد فيلمه الجديد وهو"رسائل البحر"" 2010"، وسيناريو الفيلم تم دعمه من قبل وزارة الثقافة في مصر، مع عدد من الأفلام، وهذا ما ساعد بكل تأكيد على إنتاج الفيلم، حيث نعلم كما قلنا في البداية بأن عدد من المخرجين لا يعملون في الوقت الحاضر، بسبب سيطرة موجه من الأفلام الكوميدية الخفيفة، وما يشبهها من أفلام الحركة والقضايا الساخنة التي تجد اقبالا جماهيريا كبيرا، وأغلب هذه الأفلام من النوعية المتواضعة، والقليل منها يمكن اعتباره فيلما مقبولا، ومن الطبيعي أن تكون السيطرة الإنتاجية لأصحاب دور العرض من الموزعين والذين يفضلون التعامل مع بعض المخرجين دون غيرهم.
مثل الفيلم السابق "مواطن ومخبر وحرامى" الذي حقق نجاحا تجاريا مقبولا، يدفع المخرج داوود عبد السيد بفيلمه الجديد"رسائل البحر" الى دور العرض مباشرة، دون المرور بالمهرجانات السينمائية والتي اعتاد المخرج المشاركة فيها، حتى أنه نال على كل فيلم من أفلامه جائزة أو أكثر.
وهذا الاعتبار التجاري ربما يكون أحد هواجس الفيلم الجديد، حتى أنك تقرأ بوضوح إشارة الى أن الفيلم يسمح به لمن هم فوق الثامنة عشرة، وهي الإشارة التي تكررت مع أكثر من فيلم، كما في " أحاسيس وغيرة"، ولعل في ذلك دعوة لمشاهدة الفيلم بصورة غير مباشرة، لأن من يتابع الفيلم سوف لن يجد به ما يستحق هذا المنع إلا في حدود ضيقة جدا.
* موضوع مختلف
في العام يلجأ المخرج داوود عبد السيد الى اختيار الموضوعات غير المطروقة في السينما المصرية، وهو بالفعل ينجح في ذلك، وسوف نجد في فيلم "رسائل البحر" الكثير من التجديد، ولكن في حدود معينة، لأن هناك بعض الغموض يلف شخصيات الفيلم، وتبقى القصة مفتوحة لتأويلات كثيرة، لأنها تسير بطريقة غير عمودية"طولية"، على غرار بعض الأفلام التي قدمتها السينما المصرية في الآونة الأخيرة ونقصد بذلك فكرة تقديم الشرائح الاجتماعية المتعددة التي تتصل ببعضها، وهي بهذا الاتصال تجد الحلول لمشكلاتها الشخصية.
يضع الفيلم يده منذ البداية على البيت القديم الذي يحتوي على تفاصيل منقوشة، وأعمدة رخامية تستعرضها الكاميرا وتطيل في ذلك، لنعرف بأن العائلة سوف تسير في طريق بيع هذا البيت المعماري المتميز لكي ينال كل فرد نصيبه من الإرث.
ولا تهم العائلة تقريبا بكل أفرادها، ولكن المهم هو شخصية "يحيى" الذي يترك القاهرة ليسكن في شقة لها علاقة بإرث تقع في الإسكندرية وب يستجيب الفيلم لفكرة البحر ورسائله، وربما فكرة الماء بشكل عام، ففي أكثر من مشهد لاحق سوف نجد مطرا غزيرا يهطل لكي يزيل بعض الرواسب السلبية التي عاشتها الشخصيات خلال مجريات حياتها.
قلنا بأن الفيلم يتقرب من فكرة تقديم الشرائح الاجتماعية التي قدمتها السينما المصرية في أكثر من فيلم سابق وآخرها كان "واحد – صفر" للمخرجة كاملة أبو ذكرى. لكن "رسائل البحر" يختلف قليلا في موضوعه، لأنه يكاد يخرج من إطاره الواقعي الى بعض الغرائيبية المفتوحة ولهذا أعتبر الفيلم غامضا الى حدّ كبير.
من أهم شخصيات الفيلم "يحيى" وهو طبيب ترك مهنة الطب بسبب عدم قدرته على النطق السليم، فهو متقطع في الكلام "التهتهه"، ولهذا يبدو مضحكا أمام الناس ولاسيما المرضى الذين يتعامل معهم.
يترك يحيى مهنة الطب ويغادر القاهرة بعد توزيع الميراث، ليعيش في شقة في الإسكندرية، وهي بالطبع الشقة التي عاش فيها أيام الطفولة، ليجدد التعارف مع فرانشيسكا الايطالية وابنتها كارلا.
لا يقوم الفيلم على مشكلة حقيقية يعيشها يحيى، إلا أنه يشكو من التقلبات الحياتية التي تعصف بحياته، من ذلك مطالبة صاحب العقار بإخلاء كل الشقق، حتى يستفيد من الأرض لبناء عقار تجاري جديد.
يعيش يحيى علاقة عاطفية لا تتطور مع كارلا لأنها مبنية على ذكريات الطفولة فقط.
من جانب آخر يتعرف يحيى على شخصية تدعى "قابيل" يعمل فتوة في أحد الملاهي عندما يساعده بعد سقوطه مخمورا في أحد الليالي.
أيضا هناك فتاة تدعى نورا يتعرف عليها يحيى وباعتبارها فتاة ليل، لكنها في الحقيقة زوجة ثانية سرية لرجل متزوج من غيرها، ولا يريد أن يعلن زواجه بها.
نلحظ هنا بأن كل شخصية من الشخصيات المذكورة سابقا لها مشكلة اجتماعية وأحيانا نفسية، فقد قتل قابيل شخصا بطريق الخطأ ولذلك نجده لا يتعرض بالضرب لأيّ شخص رغم أنه يعمل فتوة وهو يعيش مع بعض الراقصات ممن يعملن في الملهى مثل" بيسه" وغيرها.
هناك فرانشيسكا التي تسير نحو العودة الى بلدها "ايطاليا"، وهي أيضا في طريقها الى إلغاء ذاكرتها التي عاشتها حتى صارت عجوزا في الإسكندرية.
الفتاة كارلا لديها علاقة خاصة مع فتاة أخرى، استطرد الفيلم في تصويرها بلا مبرر درامي واضح، وربما اندفع سياق الفيلم وراء فكرة إلغاء الذاكرة القديمة، فتخلصت كارلا من ذكرياتها مع يحيى بطريقة مختلفة.
يسير الفيلم بإيقاع بطيء جدا ولا تكاد الأحداث تتحرك، وربما وهل الفيلم منتصفة ولم يكشف من موضوعه. والحقيقة أن الموضوع غير واضح، ولهذا يركز الفيلم على جوانب فنية أخرى بديلة.
* رسائل مفتوحة
أما رسائل البحر، فقد تحولت الى شيء عملي وكنا نتصور بأنها مجرد رمز، فقد وجد يحيى رسالة في قارورة مرسلة الى البحر ولقد حاول معرفة لغة الرسالة، فلم يستطع بنفسه وبمساعدة الآخرين.. إنها رسالة مجهولة، مصدرها غير معلوم، ومرسلها غير محدد، وكأنها قادمة من عالم آخر..
تعطي رسالة البحر الإيحاء بأن هناك من وراء الأفق البعيد، من يهتم بمصائر الشخصيات، وهو يكاتبها يبعث فيها الأمل بالاستمرار والبحث عبر الجديد وكذلك يجمع أواصر الماضي بالحاضر والمستقبل.
ولعلنا عندما نتحدث عن الماضي والحاضر ندرك أن الفيلم يركز على الماضي كثيرا، والمقصود الذاكرة بأجمعها، متمثلة أحيانا في المباني العتيقة بما تحتوي عليه من زخرف وتحف فنية، وهي تباع من أجل فائدة مادية سريعة، أيضا سوف مجد صاحب العمارة بالإسكندرية "هاشم" يبذل كل جهوده لطرد السكان من العمارة القديمة لبناء عمارة استهلاكية جديدة... إنها محاولة لإلغاء الذاكرة بالنسبة للمكان والشخصيات. كما أن فرانشيسكا الايطالية سوف تلغي ذاكرتها القديمة وترحل لتبدأ في ايطاليا من جديد، رغم إنها طاعنة في السن.
إن يحيى أيضا يعود الى ذاكرته الطفولية في الإسكندرية بعد أن عاش زمنا طويلا في القاهرة، وهذا أيضا يحدث للفتاة كارلا التي عاشت انفصالا في الذاكرة مع صديق طفولتها بحيى تبدو هذه الفكرة أكثر وضوحا عند قابيل، فهو يعاني من مرض السرطان ويحتاج الى عملية سريعة، ولكنه مهدد بفقدان الذاكرة بعد إجراء هذه العملية، ولذلك نجده يهرب من المستشفى لكي ينقذ ذاكرته.
وفي مشهد حيوي، وبعد أن قرر إجراء العملية، يحكي قابيل لصديقته "بيسه" بعض ذكرياته لكي تذكره بها عندما يفقد ذاكرته.
لا نريد أن نضع هذا الفيلم في تعامله مع السينما في مقولة واحدة وهي الذاكرة، حيث يحتوى الفيلم على مشاهد ذات طابع جمالي، خصوصا وأن الفكرة غير مسيطرة على أنحاء وتفاصيل الفيلم.
ومن الطبيعي أن نتذكر المشهد الأخير الذى يجمع بين يحيى ونورا في قارب وقد صوّر من زاوية عليا، بينما تتراءى الأسماك من حولهما، والأمر له علاقة بالبحر من حيث البداية والنهاية.
في الفيلم شفرات، تتصرف الشخصيات وفق معانيها المرسلة، وفي شيء من الضباب والغموض، وهو ما يتيح تفسيرات شتى لهذا الفيلم.
لقد اعتمد الفيلم على "كادر" جيّد من الممثلين ومنهم آسر ياسين في دور يحيى، رغم صعوبة الدور والارتباك أحيانا في طريقة النطق المشوّهة، وهناك أيضا الممثلة بسمة في دور نورا، وهو دور إضافي لعبته الممثلة ببساطة ودون تعقيد، وينطبق النجاح أيضا وبوضوح شديد على الممثل محمد لطفي فى دور قابيل، بينما كان حضور صلاح عبد الله واضحا في دور هاشم، وكذلك بالنسبة للمخرجة نبيهة لطفي والتي استعان بها المخرج في دور الايطالية رغم أنها ليست ممثلة.
نعم، لا يعدّ هذا الفيلم في قوة أفلام المخرج داوود عبد السيد السابقة، لكنه فيلم يلفت الانتباه وخصوصا وأنه يرتفع من إطار الواقعية المباشرة الشكلية الى أفق أرحب وأوسع بمقدار البحر وإسراره ورسائله، كما أن الذاكرة تشتعل أيضا بالغناء الموسيقى، ولقد احتوى الفيلم على أغنيات قديمة نسبيا بعضها يعود الى الستينات مثل" جميل وأسمر" لمحمد قنديل وأغنيات لفائزة أحمد وأم كلثوم وكارم محمود، وبذلك يعيش الفيلم حالة حنين الى الماضي القريب، غير أن الرسائل المجهولة القادمة من البحر تدفع بالشخصيات الى المستقبل أو على الأقل أن تعيش واقعها ومتطلباته كما هو، ولهذا يختلف الفيلم قليلا عن فيلم "عمارة يعقوبيان" مثلا، مهما كان مقدار التلامس بينهما.
في آخر الفيلم ينجح صاحب العمارة في طرد يحيى من شقته عندما داهمته بطانة هاشم وهو مع صديقته نورا ليلا، ليصبح الاثنان مطرودين من المكان وليس أمامهما إلا البحر والقارب.
إن كل من نورا ويحيى يعملان عكس رغبتهما، فالأولى تجد نفسها في شخصية "المومس" لأنها فعليا أشبه بذلك، والثاني يختار مهنة الصيد بديلا لمهنة الطب، وهو ما يبرر وصول الرسائل إليه أو عثوره عليها بطريقة مقصودة أو غير مقصودة.
بكل تأكيد يبقى هذا الفيلم -رسائل البحر- محفزا لعدد من القرارات، ولعله يقع بين الرفض والقبول، رغم أنني أشعر بأن المخرج قد حاول أن يداعب الجمهور قليلا ويتقرب منه، ورغم ذلك ندرك أن هناك فواصل تبدو قائمة بين الفيلم والجمهور، وهي فواصل يصعب إزالتها لأننا ستبقى دائما في دائرة اسمها سينما المخرج، وهي دائرة ليس بالضرورة الخروج منها.