كلما ضاقت حلقاتها فرجت».. هكذا يتعامل المصريون مع كل الأزمات التى تواجههم، وآخرها أزمة أنابيب البوتاجاز المشتعلة حاليا، فأمام الارتفاع المبالغ فى أسعارها من ناحية، وندرة وجودها من ناحية أخرى، اضطرت السيدات، خاصة فى الأحياء الشعبية، إلى إعادة استخدام «باجور الجاز»، الذى كان قبل هذه الأزمة مجرد فلكلور يذكرنا بالماضى، ووجوده فى أى منزل بمثابة قطعة أثرية لم يعد لها وجود فعلى ولا فائدة. فجأة ودون سابق إنذار أصبح لهذا الشىء النادر المختبئ بين الكراكيب فى «المنور» أو «فوق السطوح» أهمية، جعلت ربة المنزل تعيده من عبق التاريخ وتنفض عنه التراب، ليقف أمامها شامخاً، لأنه الوحيد القادر على حل الأزمة التى عجز الجميع عن حلها. زيادة الإقبال على استخدام «باجور الجاز» تبعتها زيادة فى أسعار الكيروسين الذى وصل سعره إلى جنيهين ونصف الجنيه للتر الواحد، بعد أن كان يباع –أيام الركود- بجنيه فقط، ومثلما نشطت تجارة بيع «الجاز» نشطت أيضا مهنة تصليح «بواجير الجاز» التى كان أصحابها قد فقدوا الأمل فى عودة نشاط مهنتهم مرة أخرى. فى محله الصغير فى شارع «وابور الترجمان» فى حى بولاق أبوالعلا، جلس عم قدرى «بائع الجاز» ينتظر زبائنه الذين توافدوا على المحل واحداً تلو الآخر، وكلما اشتدت أزمة الأنابيب زاد عددهم، وأصبحوا أكثر سخطا على الدولة التى لم تحل المشكلة، وظهر ذلك من انفعالاتهم وتعبيرات وجوههم أثناء الشراء. «عم قدرى» الوحيد فى المنطقة الذى لم يرفع أسعار الكيروسين ويبيعه بالسعر نفسه الذى كان يبيع به قبل الأزمة،ً معلقا على ذلك بقوله: «أنا مش طماع ولا باستغل الناس وكفاية عليهم اللى هما فيه». المشكلة كما يراها «عم قدرى» ليست فى الأنابيب «لأن الناس بتقدر تتصرف» ولكن فى «الجاز» نفسه، مؤكداً أن كل الموجود فى السوق ليس «جاز أبيض» الذى يستخدم فى إشعال «البواجير» ولكنه سولار مخلوط بزيت الذى يستخدم فى تسيير بعض المركبات، وهذا النوع كما يقول سيئ جداً فى الاشتعال وتنتج عنه أضرار جسيمة تؤثر على الصحة، كما أنه يحمل مخاطر كثيرة تعرض مستخدميه للموت. «مصائب قوم عند قوم فوائد».. بهذه العبارة لخص البعض حال عم محمد توفيق، أقدم عامل فى مهنة تصليح بواجير الجاز، فمحله الصغير الذى كان خاليا من كل شىء سوى بضعة كراكيب حديدية أكلها الصدأ، أصبح –بعد أزمة أنابيب البوتاجاز- ممتلئاً بالزبائن، لكن فرحة العودة إلى العمل وامتلاء المحل بالزبائن لم تظهر على وجه «عم محمد»، وكأنه غير سعيد بإعادة فتح محله الذى أصابه الركود منذ سنوات. حكاية وجوم «عم محمد» يمكن تلخيصها فى المثل الشعبى الشهير: «اللى ما يعرفش يقول عدس»، ويفسرها هو بقوله: «خلاص ما عدش فيه قطع غيار للباجور.. كل ما يجينى زبون أرجعه لأنى مش لاقى قطع غيار.. لفيت العتبة كلها وباب الخلق وشارع كلوت بك لشراء (كباسات وغطيان ومفاتيح) -وهى من المكونات الأساسية للباجور- ومالقتش.. الكل بيقولى المهنة انقرضت يا راجل يا عجوز». ولهذا اقتصر عمل «عم محمد» على تسليك الباجور ولحامه وحرقه فقط، حتى «البواجير» التى تباع فى السوق أصبحت من خامات رديئة جداً وترهقه فى التصليح، رغم أن أسعارها ارتفعت فى ظل الأزمة الراهنة لتصل إلى ١١٠ جنيهات للباجور ذى الجحم المتوسط و٨٥ جنيهاً للحجم الصغير. وإذا كان هذا هو حال أصحاب المهن المرتبطة بالباجور، فإن حال مستخدميه كان أصعب، وهذا ما بدا على العبارة الوحيدة التى نطقت بها الحاجة فوزية فتوح قائلة: «الله يحرقهم بجاز.. عينى اتعمت من البابور».. لكن تلك الحسرة فى كلماتها تبدلت إلى سخرية على لسان «أم حنفى» التى قالت: «سبحان الله كنا شايلين البوابير للزمن.. أهى بقالها عازة». |
مواضيع مشابهة: | ||||
› أهالى الدقهلية يعودون إلى «وابور الجاز» بسبب ارتفاع أسعار الأنابيب |