- الوصية الأولى:
"لا تصدر الأوامر لأحد، بل اطلب ما تريد في صورة تمنيات".
إن كل شخص يرى الكون كله بعينيه، لا بعيني غيره، وهو يجب كل شيء لنفسه، ولا يحبه لغيره.
ومن هنا، فإنّ لكل امرئٍ، كائناً من كان، كرامة عند نفسه، وإن كان وضيعاً في نظر الآخرين،
ولذلك فلا يوجد من يضع نفسه أمامك عبداً مطيعاً يتلقى الأوامر، مهما أوتيت من علم أو مال أو
سلطان، بل يراك نظيراً في الخلق.
وما دام الناس نظراءك، فلا يجوز أن تصدر لهم الأوامر، وتنصّب من نفسك زعيماً عليهم، تأمر فتطاع
وتنهى فينتهون.
وتأكّد أن الناس يستقبحون الأوامر التي تصدر إليهم، بينما هم لا يمانعون في تنفيذ ما يطلب منهم
في صورة "رجاء"، أو "تمنٍّ"، أو ما شابه ذلك.
ويمكنك تحرير ذلك، بأن تقول لأحد زملائك: "إنني أتمنى أن تساعدوني في عمل كذا"، لتجد كيف
سيحاول أن يفعل ما طلبته منه. بينما لو أصدرت له أوامرك، فإنه قد يرد عليك بقوله: "لن أفعل".
وإذا سألته: لماذا؟ فلربما يقول لك بصراحة: "من أنت حتى تصدر لي أوامرك؟".
إننا حين نقرأ القرآن الكريم، نجد أن الله تعالى – وهو الجبار المتكبر سبحانه – كثيراً ما يصدر أوامره
في صيغة تمنٍّ، أو ترجٍّ، أو في صيغة "يريد الله"، أو أنه يذكر صفات المتقين وعباده الصالحين، دون
أن يطلب من الناس مباشرة أعمالاً معينة. فكان يحبِّب إلى الناس الإيمان والتقوى عبر ذلك.
يقول تعالى: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة/ 1-3).
فهو بدل أن يصدر أوامره قائلاً: يا أيها الناس، آمنوا بالغيب، وأقيموا الصلاة، وأنفقوا، يصف المتقين
بتلك الصفات.
وإذا كان الله – وهو جبار السماوات والأرض – لا يطالب الناس دائماً بما يريد في صورة أوامر،
فلماذا تصدر لهم الأوامر دائماً؟!
بعض العظماء لم يذكر التاريخ أنهم أصدروا أوامر للناس، رغم أن الناس كانوا يطيعونهم. فكانوا بدل
أن يقولوا: "افعل هذا أو ذاك"، أو "لا تفعل هذا، ولا تفعل ذاك"، يقولون: "هل لك في أن تفعل
هذا؟" أو "ألا تظن أن من الأصوب أن تفعل كذا؟". وكانوا غالباً ما يفسحون المجال للشخص الآخر
لكي يتصرف من تلقاء نفسه.
فقد ينفذ الآخرون أوامرك بدافع إسقاط الواجب، ولكن إذا أصدرت لهم الأمر في صورة تمنيات،
فإنهم يندفعون من أنفسهم إلى تنفيذه، بحلاوة نفس، وطيب خاطر.
فالتمنيات تُسهل الاستجابة لدى الآخرين، لأنها تأتي منسجمة مع ذواتهم، ويحس الفرد معها
وكأنه متفضل على الطرف الآخر، لأنه يلبي نداءه في طلب العون والمساعدة، بحرية تامة، ومن
دون ضغط أو أمر.
وفرق كبير بين العطاء، وبين التنفيذ، فصاحب العطاء يحاول أن ينجز عمله بأحسن صورة، بينما
الرجل المنفذ يحاول أن يأتي عمله بمقدار ما يسقط الواجب عنه.
ثم إن أسلوب الاقتراحات، والتمنيات، يُتيح للشخص الآخر أن يصحح خطأه، لأنه سيحفظ كبرياءَهُ،
ويشيع فيه الإحساس بالأهمية، ويسلس قياده، ويدفعه إلى التعاون، بدل أن يحفزه إلى العناد.
إذاً، لكي تصلح الناس، وتؤثر فيهم، قدّم أوامرك في صورة اقتراحات أو تمنيات، وتجنب إصدار أوامر
صريحة.
- الوصية الثانية:
(لا ترق "ماء وجه" الطرف الآخر).
جاء رجل إلى الإمام علي وأراد أن يسأل شيئاً، فقال له الإمام: (اكتب حاجتك على الأرض،
حتى لا أرى ذلّ السؤال في وجهك). فهو لم يكن يحب للرجل أن يريق ماء وجهه.
فكما لا يجوز أن نريق "ماء وجه" الآخرين عن طريق إذلالهم، كذلك لا يجوز أن نذل أنفسنا عند
الآخرين.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الإنسان نفسه، فكيف يكون بالنسبة إلى إخوانه وأصدقائه؟
والحقيقة أنّ مشاعر الناس ليست من الخرسانة المسلّحة بل هي من الزجاج، والزجاج ينكسر
من رمية حجر صغير، وإذا انكسر يمكن إعادته إلى وضعه السابق من دون أن يترك أثراً.
وكما الزجاج كذلك مشاعر الناس، إذا انكسرت فلا تعود بسهولة إلى وضعها السابق، بل يبقى
في النفس منها شيء.
* يقول الشاعر:
جراحاتُ السنان لها التئامُ ***** ولا يلتام ما جَرَح اللّسانُ
إذن: ما يفتخر به البعض بقوله: "جاءني فلان، فقلت له كلمة اصفرّ لها وجهه!".
هذا تصرف غير إنساني، ويمثل نوعاً من الاعتزاز بالعمل السيئ، ولا شك أن من يأنس ويفرح
لإراقة ماء وجه الآخرين، ليس أكثر من طاغوت صغير. لأنه لا يجوز إراقة ماء وجه أحد، حتى
الأطفال، لأن ذلك يضع في نفسه جرحاً لا يندمل بسهولة.
ذات مرة أرادوا إقالة شخص من منصبه، وكان مرهف الإحساس، رقيق العاطفة، فغيروا موقعه
بطريقة لبقة جداً، ومن دون إراقة ماء وجهه، وذلك بأن عيّنوه "مستشاراً"، فسرى الارتياح في
نفسه، لأن منصبه قد ارتفع، ولكنهم في الحقيقة كانوا قد حوّلوه من مسؤول له حق اتخاذ القرار،
إلى مجرد مستشار.
إن بضع دقائق من التفكير، وكلمة مهذبة، أو اثنتين، وإدراك وجهة نظر الشخص الآخر كفيل بان
يخفف من وطأة اللّطمة، ويكسر حدّتها، فدعنا نذكر هذا الأمر، ونعمل به في المرة التي
تواجهنا فيها مهمة إقالة موظف أو الاستغناء عن خادم، أو نصح طفل.
إن إراقة ماء وجه الآخرين، إهانة لهم، والإهانة محرّمة حتى لمن يحكم عليه بالموت شرعاً، فكيف
بالنسبة إلى الناس، وخاصة الأصدقاء؟!
- الوصية الثالثة:
"اذكر حسنات الناس وشجعهم على أعمال الخير".
تلك قاعدة أخرى من قواعد الإصلاح، وهي من أنجح الطرق وأنفعها، وأقربها لتحقيقه.
غير أن أغلب الناس يتصرفون خلاف ذلك. فهم عادةً ما يلجأون إلى أسلوب الحديث السلبي،
والتذكير بالأخطاء فقط، ظناً منهم أن هذا التذكير سيساهم في إزالة السلبيات وتصحيح الأخطاء.
ولا شك في أن هذا الأسلوب خاطئ، سواء كان مع الناس أو الأصدقاء. والأسلوب السليم هو
ذكر الحسنات، والتشجيع عليها، وفقاً لمبدأ إزالة السيئات بالحسنات، وطرد الفساد بالإصلاح.
فعندما تريد أن تطرد الظلام لا يكفي أن تلعنه، بل لابدّ أن تشعل بدل ذلك شمعة، وحينئذٍ سيتخذ
الظلام طريق الهروب.
وفي ما يرتبط بالمجتمع، مسؤوليتك أن تشعل في قلوبهم شموع الآمال، بدل أن تلعن ظلمات
الصفات السيئة التي بداخلهم.
يقول الإمام علي: (لكم مسلم على من أثنى عليه مثوبةً من جزاء، وعارفة من عطاء).
والثناء هو ذكر الحسنات، والتشجيع عليها، مما يعود على المثني عليه بالجزاء والعطاء: الجزاء من
عند الله وهو ثابت، والعطاء من عند الناس وهو متغير. فإذا لم يتحقق العطاء الدنيوي فلا شك أن
الجزاء الأخروي من عند الله – تبارك وتعالى – سيتحقق له.
يقول الإمام علي في عهده إلى مالك الأشتر: (ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة
سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة في الإساءة،
وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه".
وعليه فإن الإحسان خصلة تستحق الثناء والتقدير، وواجبنا هو المدح لأقل إجادة النقد لأي خطأ،
الأمر الذي يحث الطرف الآخر على مواصلة الإجادة ومحاولة تكرارها.
ونحن عن طريق الثناء والتشجيع نستطيع أن ندفع حتى الحيوانات إلى أن تفعل ما نريد، فحيوانات
السيرك مثلاً، لم يروّضها مدرّبوها عبر النقد والضرب، وإنما عبر التقدير والتشجيع.
قد تسأل: كيف ذلك؟
يقول أحد المؤلفين: "راقبت مدرب السيرك وهو يجوب الأخطار ويعرض تمثيلياته، ودهشت من
قدرته على السيطرة على الحيوانات المتوحشة كالكلاب والذئاب والأسود والنمور والفيلة، فبدأت
أبحث عن سبب إطاعة هذه الحيوانات له، فلاحظت أن ذلك تأتّى له عبر التشجيع، فمثلاً إذا أبدى
الكلب شيئاً من الإجادة لحركة معينة – ولو يسيراً – أسرع إليه وربّت على ظهره، وألقى إليه
قطعة من اللحم".
فإذا كان التشجيع نافعاً مع الحيوانات المتوحشة، فكيف هو مع البشر؟
يقول مدير أحد السجون عن سجنائه، وهم مجموعة من اللصوص والمجرمين والقتلة: "لقد وجدت
أن تقديري للجهود التي يبذلها نزلاء السجن يأتي بنتائج باهرة، ويستحثهم إلى الصلاح أكثر ما
يفعل النقد والتفتيش عن الأخطاء".
إنّك تستطيع أن تلوم ابنك إذا لم يقرأ خلال شهر إلّا كتاباً واحداً فقط، فتأتي إليه تلقي عليه
محاضرة وتقول له: "أيها الجاهل الأحمق، إن غيرك يطالع في اليوم الواحد أكثر من كتاب، وأنت لم
تطالع إلّا كتاباً واحداً فقط؟".
هذا الأسلوب لن يجدي معه شيئاً، ولكن ربما تدفعه إلى أن يمدَّ يده تحت سيف التقريع إلى كتاب
آخر، ويذهب إلى الشاطئ، ثم يطالع أمواج البحر بدل الكتاب.
ولكنك لو ذكرت حسناته وقلت له: "إن مطالعتك لهذا الكتاب دليل على اهتمامك بالعلم، وإن كل
الذين سبقوك من العلماء والعظماء إنما كانوا يتدرجون في المطالعة، فإذا ما أتموا كتاباً ذهبوا لآخر،
حتى أن بعضهم يقرأ في اليوم الواحد أكثر من كتاب واحد".
هذا الأسلوب الإيجابي غير الجارح، سيدفعه بلا ريب إلى المطالعة المستمرة برحابة صدر، وتقبل
نفسي، واقتناع تام.
إن التشجيع هو الطريقة المثلى في مساعدة الآخرين على اكتشاف مواهبهم، وعلى من يريد
إصلاح الآخرين أن يتعلم كيف يشجعهم على إدراك كفاءاتهم، واكتشاف المخزون الضخم من
الطاقات والقدرات التي أودعها الله تعالى فيهم.
وحتى بالنسبة إلى من خسر في تجارته، فإن التشجيع المعنوي يعوضه عن الخسارة المادية،
ويقوم بحفظ حالة التوازن في نفسه، فلا ينتهي به الأمر إلى أن يصاب بالانهيار تحت وطأة
الخسارة والمصيبة.
والخلاصة: إن توجيه النقد واللوم للمخطئ أسلوب لا يفي بالغرض، لأنه منفر للطرف الآخر، ويجعله
في حالة من عدم التجاوب و"اللامبالاة"، وإن الأسلوب الأمثل هو تشجيعه على الصلاح والاكتفاء
بنقد الخطأ وحده دون المساس بكرامة المخطئ.
إن التشجيع مثل إشعال نور في الظلام، فهو يطرد الظلمة، ويوقد الأمل في المستقبل، بينما
الانتقاد يشبه لعن الظلام، فلو استمر مليون عام فلن يغيّر من الأمر شيئاً.
- الوصية الرابعة:
"امنح الآخرين الثقة بأنهم قادرون على الإِصلاح".
إذا أردت النجاح لشخص طلبت منه إنجاز عمل يحتاج إلى شجاعة، فما عليك إلّا أن تخبره بأنك
واثق من شجاعته، ذلك أن إنجاز أي عمل بحاجة إلى ثقة بقدره.
فالمؤلف لابدّ أن يمتلك مقداراً كافياً من الثقة بحجم ما يريد الكتابة عنه، والمقاتل لابدّ أن يمتلك
من الثقة بما يعادل حجم العملية القتالية التي ينوي القيام بها.
وطالما أن الثقة لا تولد بالضرورة مع الإنسان، وليست موجودة فيه دائماً، فينبغي أن يشحنها
باستمرار في ذاته، سواء كان ذلك بتشجيع من الآخرين أو من نفسه.
فلزرع الثقة في الآخرين لا نحتاج إلى أكثر من "الكلام" وتحريك اللسان. فلا تبخل بزرع الثقة في
الناس، ولا تظن أن الثقة مخزون كامن في النفس البشرية، ولا تقل إن من يثق بنفسه ليس
بحاجة إلى من يشجعه عليها.
الثقة هي "عملة" يتبادلها الناس فيما بينهم، وكذلك "التثبيط"، والفارق هو أن التثبيط عملة مزورة
لا تسمن ولا تغني من جوع، بينما الثقة عملة سليمة. فإذا أردت إصلاح الآخرين فإن من واجبك أن
تؤكد لهم ثقتك بقدرتهم على التغيير نحو الصلاح، وإذا أردت أن تقنع مجموعة من الناس على
التغيير الجذري في حياتهم فلابدّ أن يثقوا بأنهم فعلاً بحجم ذلك التغيير، وأنك واثق ما قدرتهم
على تحقيق ما يريدون.
يقول أحد الناجحين: "إن في وسعك أن تجعل أي إنسان ينقاد لك عن طيب خاطر، إذا أظهرت له
أنك تحترم فيه ولو نوعاً واحداً من المقدرة".
من هنا إذا كنت مديراً وأردت الاستفادة من شخص في ناحية ما، فما عليك إلا أن تؤكد له بأن
هذه الناحية بالذات هي من نواحي القوة فيه.
ومن الخطأ أن تطلب من شخص – مثلاً – أن يلقي محاضرة ثم تقول له: "أنا أطلب منك ذلك،
بالرغم من أنني واثق بأنك غير قادر على هذا الأمر"، لأن هذا يعني أنك تقضي على كل ما لديه
من الثقة بالنفس، ومع فقدان الثقة بنفسه كيف سيتمكن من تحقيق النجاح؟
إن زرع الثقة في نفس الآخر، والإيحاء له بقدرته على إنجاز العمل، سيشجعه على الاحتفاظ بهذه
الثقة، وعدم تخييب ظنك فيه.
- الوصية الخامسة:
"أعط لكل شخص موقعاً متميزاً".
هذه أيضاً قاعدة مهمة في تحقيق الإصلاح الاجتماعي، فإذا أردت تحويل خطيب عادي إلى خطيب
مفوّه، أعطه مسؤولية تدريب مجموعة خطباء، وسيصبح هو بالضرورة خطيباً ناجحاً.
وقد تقول: "إن فاقد الشيء لا يعطيه؟"
إنّ هذا صحيح، ولكن عن طريق هذه المسؤولية سيتدرب حتى يصل إلى المستوى الذي تريده أن
يكون فيه، فيصبح خطيباً مفوّهاً، كما يدرب غيره على ذلك. فإعطاؤك للطرف الآخر دوراً يدفعه
بطبيعة الحال لكي يحاول أن يكون بمستوى المسؤولية الجديد.
ومن هنا قيل: إن الرئاسة تصنع الرئيس.
فلو عيّنوك رئيساً، فإنت ستتصرف وكأنك رئيس بالفعل، وستترك العادات السابقة التي لا تليق
بالرئيس.
يروي رجل قصته قائلاً: "كنت أتبرم من مجموعة أطفال يلهون ويلعبون أمام بيتنا، ويفسدون الزرع
الذي من حوله، ولكم دخلت معهم في لوم وتعنيف، ولكن بلا جدوى!
وأخيراً قررت أن أعطي لأكثرهم عبثاً مركزاً ودوراً في ضبطهم، فعينته مسؤولاً عن بقية الأطفال
ومشرفاً عليهم.
ورغم أنه هو الذي كان يثير الشغب، ويؤجّج النيران حول بيتنا، إلاّ أنه تغيرت تصرفاته مع إعطائي له
الثقة بقدرته على قيادة مجموعة الأطفال، وتولّي مهمة الدفاع عن بيتنا وعن الحديقة.
إذاً إن إعطاء الدور هو تعبير آخر عن إعطاء الثقة، وسيحاول الطرف الآخر الذي تعطيه الدور والثقة
أن يكون بالمستوى الذي تتوقعه منه.
رآق لي..فنقلته لك
"لا تصدر الأوامر لأحد، بل اطلب ما تريد في صورة تمنيات".
إن كل شخص يرى الكون كله بعينيه، لا بعيني غيره، وهو يجب كل شيء لنفسه، ولا يحبه لغيره.
ومن هنا، فإنّ لكل امرئٍ، كائناً من كان، كرامة عند نفسه، وإن كان وضيعاً في نظر الآخرين،
ولذلك فلا يوجد من يضع نفسه أمامك عبداً مطيعاً يتلقى الأوامر، مهما أوتيت من علم أو مال أو
سلطان، بل يراك نظيراً في الخلق.
وما دام الناس نظراءك، فلا يجوز أن تصدر لهم الأوامر، وتنصّب من نفسك زعيماً عليهم، تأمر فتطاع
وتنهى فينتهون.
وتأكّد أن الناس يستقبحون الأوامر التي تصدر إليهم، بينما هم لا يمانعون في تنفيذ ما يطلب منهم
في صورة "رجاء"، أو "تمنٍّ"، أو ما شابه ذلك.
ويمكنك تحرير ذلك، بأن تقول لأحد زملائك: "إنني أتمنى أن تساعدوني في عمل كذا"، لتجد كيف
سيحاول أن يفعل ما طلبته منه. بينما لو أصدرت له أوامرك، فإنه قد يرد عليك بقوله: "لن أفعل".
وإذا سألته: لماذا؟ فلربما يقول لك بصراحة: "من أنت حتى تصدر لي أوامرك؟".
إننا حين نقرأ القرآن الكريم، نجد أن الله تعالى – وهو الجبار المتكبر سبحانه – كثيراً ما يصدر أوامره
في صيغة تمنٍّ، أو ترجٍّ، أو في صيغة "يريد الله"، أو أنه يذكر صفات المتقين وعباده الصالحين، دون
أن يطلب من الناس مباشرة أعمالاً معينة. فكان يحبِّب إلى الناس الإيمان والتقوى عبر ذلك.
يقول تعالى: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة/ 1-3).
فهو بدل أن يصدر أوامره قائلاً: يا أيها الناس، آمنوا بالغيب، وأقيموا الصلاة، وأنفقوا، يصف المتقين
بتلك الصفات.
وإذا كان الله – وهو جبار السماوات والأرض – لا يطالب الناس دائماً بما يريد في صورة أوامر،
فلماذا تصدر لهم الأوامر دائماً؟!
بعض العظماء لم يذكر التاريخ أنهم أصدروا أوامر للناس، رغم أن الناس كانوا يطيعونهم. فكانوا بدل
أن يقولوا: "افعل هذا أو ذاك"، أو "لا تفعل هذا، ولا تفعل ذاك"، يقولون: "هل لك في أن تفعل
هذا؟" أو "ألا تظن أن من الأصوب أن تفعل كذا؟". وكانوا غالباً ما يفسحون المجال للشخص الآخر
لكي يتصرف من تلقاء نفسه.
فقد ينفذ الآخرون أوامرك بدافع إسقاط الواجب، ولكن إذا أصدرت لهم الأمر في صورة تمنيات،
فإنهم يندفعون من أنفسهم إلى تنفيذه، بحلاوة نفس، وطيب خاطر.
فالتمنيات تُسهل الاستجابة لدى الآخرين، لأنها تأتي منسجمة مع ذواتهم، ويحس الفرد معها
وكأنه متفضل على الطرف الآخر، لأنه يلبي نداءه في طلب العون والمساعدة، بحرية تامة، ومن
دون ضغط أو أمر.
وفرق كبير بين العطاء، وبين التنفيذ، فصاحب العطاء يحاول أن ينجز عمله بأحسن صورة، بينما
الرجل المنفذ يحاول أن يأتي عمله بمقدار ما يسقط الواجب عنه.
ثم إن أسلوب الاقتراحات، والتمنيات، يُتيح للشخص الآخر أن يصحح خطأه، لأنه سيحفظ كبرياءَهُ،
ويشيع فيه الإحساس بالأهمية، ويسلس قياده، ويدفعه إلى التعاون، بدل أن يحفزه إلى العناد.
إذاً، لكي تصلح الناس، وتؤثر فيهم، قدّم أوامرك في صورة اقتراحات أو تمنيات، وتجنب إصدار أوامر
صريحة.
- الوصية الثانية:
(لا ترق "ماء وجه" الطرف الآخر).
جاء رجل إلى الإمام علي وأراد أن يسأل شيئاً، فقال له الإمام: (اكتب حاجتك على الأرض،
حتى لا أرى ذلّ السؤال في وجهك). فهو لم يكن يحب للرجل أن يريق ماء وجهه.
فكما لا يجوز أن نريق "ماء وجه" الآخرين عن طريق إذلالهم، كذلك لا يجوز أن نذل أنفسنا عند
الآخرين.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الإنسان نفسه، فكيف يكون بالنسبة إلى إخوانه وأصدقائه؟
والحقيقة أنّ مشاعر الناس ليست من الخرسانة المسلّحة بل هي من الزجاج، والزجاج ينكسر
من رمية حجر صغير، وإذا انكسر يمكن إعادته إلى وضعه السابق من دون أن يترك أثراً.
وكما الزجاج كذلك مشاعر الناس، إذا انكسرت فلا تعود بسهولة إلى وضعها السابق، بل يبقى
في النفس منها شيء.
* يقول الشاعر:
جراحاتُ السنان لها التئامُ ***** ولا يلتام ما جَرَح اللّسانُ
إذن: ما يفتخر به البعض بقوله: "جاءني فلان، فقلت له كلمة اصفرّ لها وجهه!".
هذا تصرف غير إنساني، ويمثل نوعاً من الاعتزاز بالعمل السيئ، ولا شك أن من يأنس ويفرح
لإراقة ماء وجه الآخرين، ليس أكثر من طاغوت صغير. لأنه لا يجوز إراقة ماء وجه أحد، حتى
الأطفال، لأن ذلك يضع في نفسه جرحاً لا يندمل بسهولة.
ذات مرة أرادوا إقالة شخص من منصبه، وكان مرهف الإحساس، رقيق العاطفة، فغيروا موقعه
بطريقة لبقة جداً، ومن دون إراقة ماء وجهه، وذلك بأن عيّنوه "مستشاراً"، فسرى الارتياح في
نفسه، لأن منصبه قد ارتفع، ولكنهم في الحقيقة كانوا قد حوّلوه من مسؤول له حق اتخاذ القرار،
إلى مجرد مستشار.
إن بضع دقائق من التفكير، وكلمة مهذبة، أو اثنتين، وإدراك وجهة نظر الشخص الآخر كفيل بان
يخفف من وطأة اللّطمة، ويكسر حدّتها، فدعنا نذكر هذا الأمر، ونعمل به في المرة التي
تواجهنا فيها مهمة إقالة موظف أو الاستغناء عن خادم، أو نصح طفل.
إن إراقة ماء وجه الآخرين، إهانة لهم، والإهانة محرّمة حتى لمن يحكم عليه بالموت شرعاً، فكيف
بالنسبة إلى الناس، وخاصة الأصدقاء؟!
- الوصية الثالثة:
"اذكر حسنات الناس وشجعهم على أعمال الخير".
تلك قاعدة أخرى من قواعد الإصلاح، وهي من أنجح الطرق وأنفعها، وأقربها لتحقيقه.
غير أن أغلب الناس يتصرفون خلاف ذلك. فهم عادةً ما يلجأون إلى أسلوب الحديث السلبي،
والتذكير بالأخطاء فقط، ظناً منهم أن هذا التذكير سيساهم في إزالة السلبيات وتصحيح الأخطاء.
ولا شك في أن هذا الأسلوب خاطئ، سواء كان مع الناس أو الأصدقاء. والأسلوب السليم هو
ذكر الحسنات، والتشجيع عليها، وفقاً لمبدأ إزالة السيئات بالحسنات، وطرد الفساد بالإصلاح.
فعندما تريد أن تطرد الظلام لا يكفي أن تلعنه، بل لابدّ أن تشعل بدل ذلك شمعة، وحينئذٍ سيتخذ
الظلام طريق الهروب.
وفي ما يرتبط بالمجتمع، مسؤوليتك أن تشعل في قلوبهم شموع الآمال، بدل أن تلعن ظلمات
الصفات السيئة التي بداخلهم.
يقول الإمام علي: (لكم مسلم على من أثنى عليه مثوبةً من جزاء، وعارفة من عطاء).
والثناء هو ذكر الحسنات، والتشجيع عليها، مما يعود على المثني عليه بالجزاء والعطاء: الجزاء من
عند الله وهو ثابت، والعطاء من عند الناس وهو متغير. فإذا لم يتحقق العطاء الدنيوي فلا شك أن
الجزاء الأخروي من عند الله – تبارك وتعالى – سيتحقق له.
يقول الإمام علي في عهده إلى مالك الأشتر: (ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة
سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة في الإساءة،
وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه".
وعليه فإن الإحسان خصلة تستحق الثناء والتقدير، وواجبنا هو المدح لأقل إجادة النقد لأي خطأ،
الأمر الذي يحث الطرف الآخر على مواصلة الإجادة ومحاولة تكرارها.
ونحن عن طريق الثناء والتشجيع نستطيع أن ندفع حتى الحيوانات إلى أن تفعل ما نريد، فحيوانات
السيرك مثلاً، لم يروّضها مدرّبوها عبر النقد والضرب، وإنما عبر التقدير والتشجيع.
قد تسأل: كيف ذلك؟
يقول أحد المؤلفين: "راقبت مدرب السيرك وهو يجوب الأخطار ويعرض تمثيلياته، ودهشت من
قدرته على السيطرة على الحيوانات المتوحشة كالكلاب والذئاب والأسود والنمور والفيلة، فبدأت
أبحث عن سبب إطاعة هذه الحيوانات له، فلاحظت أن ذلك تأتّى له عبر التشجيع، فمثلاً إذا أبدى
الكلب شيئاً من الإجادة لحركة معينة – ولو يسيراً – أسرع إليه وربّت على ظهره، وألقى إليه
قطعة من اللحم".
فإذا كان التشجيع نافعاً مع الحيوانات المتوحشة، فكيف هو مع البشر؟
يقول مدير أحد السجون عن سجنائه، وهم مجموعة من اللصوص والمجرمين والقتلة: "لقد وجدت
أن تقديري للجهود التي يبذلها نزلاء السجن يأتي بنتائج باهرة، ويستحثهم إلى الصلاح أكثر ما
يفعل النقد والتفتيش عن الأخطاء".
إنّك تستطيع أن تلوم ابنك إذا لم يقرأ خلال شهر إلّا كتاباً واحداً فقط، فتأتي إليه تلقي عليه
محاضرة وتقول له: "أيها الجاهل الأحمق، إن غيرك يطالع في اليوم الواحد أكثر من كتاب، وأنت لم
تطالع إلّا كتاباً واحداً فقط؟".
هذا الأسلوب لن يجدي معه شيئاً، ولكن ربما تدفعه إلى أن يمدَّ يده تحت سيف التقريع إلى كتاب
آخر، ويذهب إلى الشاطئ، ثم يطالع أمواج البحر بدل الكتاب.
ولكنك لو ذكرت حسناته وقلت له: "إن مطالعتك لهذا الكتاب دليل على اهتمامك بالعلم، وإن كل
الذين سبقوك من العلماء والعظماء إنما كانوا يتدرجون في المطالعة، فإذا ما أتموا كتاباً ذهبوا لآخر،
حتى أن بعضهم يقرأ في اليوم الواحد أكثر من كتاب واحد".
هذا الأسلوب الإيجابي غير الجارح، سيدفعه بلا ريب إلى المطالعة المستمرة برحابة صدر، وتقبل
نفسي، واقتناع تام.
إن التشجيع هو الطريقة المثلى في مساعدة الآخرين على اكتشاف مواهبهم، وعلى من يريد
إصلاح الآخرين أن يتعلم كيف يشجعهم على إدراك كفاءاتهم، واكتشاف المخزون الضخم من
الطاقات والقدرات التي أودعها الله تعالى فيهم.
وحتى بالنسبة إلى من خسر في تجارته، فإن التشجيع المعنوي يعوضه عن الخسارة المادية،
ويقوم بحفظ حالة التوازن في نفسه، فلا ينتهي به الأمر إلى أن يصاب بالانهيار تحت وطأة
الخسارة والمصيبة.
والخلاصة: إن توجيه النقد واللوم للمخطئ أسلوب لا يفي بالغرض، لأنه منفر للطرف الآخر، ويجعله
في حالة من عدم التجاوب و"اللامبالاة"، وإن الأسلوب الأمثل هو تشجيعه على الصلاح والاكتفاء
بنقد الخطأ وحده دون المساس بكرامة المخطئ.
إن التشجيع مثل إشعال نور في الظلام، فهو يطرد الظلمة، ويوقد الأمل في المستقبل، بينما
الانتقاد يشبه لعن الظلام، فلو استمر مليون عام فلن يغيّر من الأمر شيئاً.
- الوصية الرابعة:
"امنح الآخرين الثقة بأنهم قادرون على الإِصلاح".
إذا أردت النجاح لشخص طلبت منه إنجاز عمل يحتاج إلى شجاعة، فما عليك إلّا أن تخبره بأنك
واثق من شجاعته، ذلك أن إنجاز أي عمل بحاجة إلى ثقة بقدره.
فالمؤلف لابدّ أن يمتلك مقداراً كافياً من الثقة بحجم ما يريد الكتابة عنه، والمقاتل لابدّ أن يمتلك
من الثقة بما يعادل حجم العملية القتالية التي ينوي القيام بها.
وطالما أن الثقة لا تولد بالضرورة مع الإنسان، وليست موجودة فيه دائماً، فينبغي أن يشحنها
باستمرار في ذاته، سواء كان ذلك بتشجيع من الآخرين أو من نفسه.
فلزرع الثقة في الآخرين لا نحتاج إلى أكثر من "الكلام" وتحريك اللسان. فلا تبخل بزرع الثقة في
الناس، ولا تظن أن الثقة مخزون كامن في النفس البشرية، ولا تقل إن من يثق بنفسه ليس
بحاجة إلى من يشجعه عليها.
الثقة هي "عملة" يتبادلها الناس فيما بينهم، وكذلك "التثبيط"، والفارق هو أن التثبيط عملة مزورة
لا تسمن ولا تغني من جوع، بينما الثقة عملة سليمة. فإذا أردت إصلاح الآخرين فإن من واجبك أن
تؤكد لهم ثقتك بقدرتهم على التغيير نحو الصلاح، وإذا أردت أن تقنع مجموعة من الناس على
التغيير الجذري في حياتهم فلابدّ أن يثقوا بأنهم فعلاً بحجم ذلك التغيير، وأنك واثق ما قدرتهم
على تحقيق ما يريدون.
يقول أحد الناجحين: "إن في وسعك أن تجعل أي إنسان ينقاد لك عن طيب خاطر، إذا أظهرت له
أنك تحترم فيه ولو نوعاً واحداً من المقدرة".
من هنا إذا كنت مديراً وأردت الاستفادة من شخص في ناحية ما، فما عليك إلا أن تؤكد له بأن
هذه الناحية بالذات هي من نواحي القوة فيه.
ومن الخطأ أن تطلب من شخص – مثلاً – أن يلقي محاضرة ثم تقول له: "أنا أطلب منك ذلك،
بالرغم من أنني واثق بأنك غير قادر على هذا الأمر"، لأن هذا يعني أنك تقضي على كل ما لديه
من الثقة بالنفس، ومع فقدان الثقة بنفسه كيف سيتمكن من تحقيق النجاح؟
إن زرع الثقة في نفس الآخر، والإيحاء له بقدرته على إنجاز العمل، سيشجعه على الاحتفاظ بهذه
الثقة، وعدم تخييب ظنك فيه.
- الوصية الخامسة:
"أعط لكل شخص موقعاً متميزاً".
هذه أيضاً قاعدة مهمة في تحقيق الإصلاح الاجتماعي، فإذا أردت تحويل خطيب عادي إلى خطيب
مفوّه، أعطه مسؤولية تدريب مجموعة خطباء، وسيصبح هو بالضرورة خطيباً ناجحاً.
وقد تقول: "إن فاقد الشيء لا يعطيه؟"
إنّ هذا صحيح، ولكن عن طريق هذه المسؤولية سيتدرب حتى يصل إلى المستوى الذي تريده أن
يكون فيه، فيصبح خطيباً مفوّهاً، كما يدرب غيره على ذلك. فإعطاؤك للطرف الآخر دوراً يدفعه
بطبيعة الحال لكي يحاول أن يكون بمستوى المسؤولية الجديد.
ومن هنا قيل: إن الرئاسة تصنع الرئيس.
فلو عيّنوك رئيساً، فإنت ستتصرف وكأنك رئيس بالفعل، وستترك العادات السابقة التي لا تليق
بالرئيس.
يروي رجل قصته قائلاً: "كنت أتبرم من مجموعة أطفال يلهون ويلعبون أمام بيتنا، ويفسدون الزرع
الذي من حوله، ولكم دخلت معهم في لوم وتعنيف، ولكن بلا جدوى!
وأخيراً قررت أن أعطي لأكثرهم عبثاً مركزاً ودوراً في ضبطهم، فعينته مسؤولاً عن بقية الأطفال
ومشرفاً عليهم.
ورغم أنه هو الذي كان يثير الشغب، ويؤجّج النيران حول بيتنا، إلاّ أنه تغيرت تصرفاته مع إعطائي له
الثقة بقدرته على قيادة مجموعة الأطفال، وتولّي مهمة الدفاع عن بيتنا وعن الحديقة.
إذاً إن إعطاء الدور هو تعبير آخر عن إعطاء الثقة، وسيحاول الطرف الآخر الذي تعطيه الدور والثقة
أن يكون بالمستوى الذي تتوقعه منه.
رآق لي..فنقلته لك